منذ نشأة الكيان الإسرائيلي، لم يشعر حكّامه بالقلق الذي يعيشونه حاليًا، ولم يتصوّر تيودور هرتزل، أن حلمه ينهار قبل أن يجفّ حبر كتابه “الأسس العقائدية للدولة الصهيونية”، فحلم “إسرائيل” حظي آنذاك بتأتيد السلطنة العثمانية، وبتعاطف الشعوب الغربية، وتواطوء زعماء الحجاز، وبغطاء غربي، من ضمنه وعد بلفور.
ومع قيام النظام العالمي الجديد، بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر الكيان الإسرائيلي كدولة على بوابة الشرق الأوسط، قاعدة متقدمة تحمي مصالح العالم الغربي على تخوم البحر المتوسط، بموقع استراتيجي في قلب العالم القديم – الضقة الشرفية للبحر المتوسط – وذلك على أنقاض وطن له هوية تاريخ وشعب سقط ضحية مشروع نشأة الكيان الإسرائيلي بمجازر ارتكبها الصهاينة في القرى والبلدات، وحروب على جبهات مختلفة، انتهى معظمها على شكل “سلام” أذعنت فيه أنظمة المنطقة العربية لتفوق الكيان الوليد عسكريًا، وخضعوا لدعمه السياسي، فكان اتفاق كامب دايفيد الذي أخرج أكبر دول الطوق، مصر، من المواجهة العربية – الإسرائيلية، وعلى وقع عاصفة الصحراء وغزو القوات الأميركية منطقة الخليج في مرحلة سيطرة القطب الأميركي الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كرّت سبّحة اتفاقيات السلام من وادي عربة إلى طابا لتلحق بكامب ديفيد، بعد سقوط اتفاق السلام مع لبنان الذي عرف “باتفاق السابع عشر من أيار”، واجتياح لبنان وسقوط عاصمته خلال أيام، قبل أن يدخل لبنان عصر المقاومة الذي تكلّل بالتحرير عام 2000.
بالرغم من التحوّل الذي فرضته “عاصفة الصحراء” انقلب المشهد أمام واقع جديد للمنطقة التي اقتيدت حكوماتها من مدريد إلى أوسلو بحثًا عن سلام عادل وشامل على أنقاض أمّة مزّقها وهن الأنظمة وتبعية الحكام للغرب، أدخلت “إسرائيل” المنطقة عبر بوابة التطبيع بعد فشلها في أكتر من حرب مع لبنان عجزت عن تحقيق إنجاز أو ترتيبات أمنية، ولم تتحمّل ضربات مقاومته التي أرغمت جيشها على الخروج من لبنان دون أي اتفاق.
ورغم محاولتها فرض ترتيبات أمنية مع لبنان عام 2006 عبر عدوان تموز، لكن هذه الحرب كتبت بداية نهاية “إسرائيل” القوية، وأسقطت أسطورة جيشها الذي لا يقهر، بعدما تقهقر وعاد يجرّ أذيال الخيبة إلى كيان أوهن من بيت العنكبوت، رغم الدعم السياسي والعسكري الغربي – العربي والتواطؤ والتآمر الداخلي، الذي حاول أخذ لبنان إلى حظيرة التبعية متماهيًا مع أنظمة الخليخ وموجة “التطبيع مع إسرائيل”.
وقد ساهمت إفرازات “الربيع العربي” بتعجيل موجة التطبيع، باعتبارها خطوة مباشِرة باتجاه “الشرق الأوسط الجديد” وفقًا للمعايير الأميركية، حيث تقبع”إسرائيل” في قلبه، بدور كبير يتجاوز حجمها، إلى قوة فاعلة في الشرق الأوسط، تمسك بقرار أنظمة النفط وطرق تصديره. إلا أن ميدان جبهة جنوب لبنان فرض واقعًا سياسيًا لا يناسب مشروع الشرق الأوسط الجديد، فظروف المنطقة إقليميًا لم تساعد المطبّعين أو الصهيوني الذي اعتاد التفوّق العسكري والسياسي والقدرة على غزو الدول العربية مجتمعة خلال أسبوع. فقد عجز عن دخول قطاع غزة، ولم تصمد آلته العسكرية أمام قوة المقاومة في فلسطين، رغم الحصار وتواطوء الداخل وتآمر العرب، فانتهى بدخول “إسرائيل” مرحلة بداية النهاية، قادتها يتخبطون في ظل أزمة نظام سياسية أمنية تضاف إلى أزمة الديموغرافيا والقلق على المصير، بشكل لم يشعر به الإسرائيلي سابقًا لأسباب عديدة منها:
- سقوط حالة التفوّق العسكري.
- اختلال التوازن الذي بقي عقودًا لصالح “إسرائيل”.
- التطبيع لم يبدّل توازن الجبهات.
- الحروب على المقاومة اكسبتها خبرة وقدرة وتطوير الذات.
- توازنات الشرق الأوسط وتنامي دور الجمهورية الإسلامية في إيران والتزامها خيار دعم حركات التحرّر وتبنّي القضية الفلسطينية خيارًا استراتيجيًا عزّز قدرة المقاومة التي انطلقت من مرحلة التنافس إلى التكامل.
- قرار توحيد الساحات المواجهة مع “إسرائيل”.
- عجز المجتمع الإسرائيلي من إيجاد رؤية موحّدة تجمع المنتاقضات بين شعوب “إسرائيل”.
- تركيبة المستوطنين وانقسامهم إثنيات وأعراق مختلفة ومتنوعة يجمعهم حلم الهيكل الموعود.
أهداف “إسرائيل” السيطرة على مقدّرات شعوب المنطقة ومشهد الكيان الإسرائيلي تبدّل ودخل مرحلة صعبة يحكمها صراع بين الدور الذي تأسّس الكيان من أجله، والقدرة على لعب هذا الدور (قاعدة متقدمة تحمي المصالح الاستعمارية للغرب). هنا، وجد الصهاينة أنفسهم وسط قلق غير مسبوق أنتج خوفًا كبيرًا وحقيقيًا على مصيرهم، إذ يتعاظم الشعور بانتفاء الحاجة الغربية إلى دور الكيان، وتبدّل كل شيء، من القدرة والقرار إلى النظرة إلى المستقبل، فدخل الكيان مرحلة الصراع الوجودي.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.