عاجلًا أم آجلًا ستضع الحرب أوزارها في اليمن وسيتوقف العدوان الإجرامي على الشعب اليمني المظلوم وستنكفئ آلة الحرب إلى جحورها وستصمت فوَّهات المدافع عن صبِّ حممها التي طالت البشر والحجر مخلفة في المدن والقرى دمارًا هائلًا وأنهارًا من الدماء البريئة لشعبٍ أبى أن يكون ذليلًا مهانًا أمام طغيان وعنجهية آل سعود وأطماعهم في هذا البلد الفقير والمستضعف الغني بتراثه وقيمه وجذوره الضاربة في عمق التاريخ والحضارات.
ستنتهي الحرب وسيبدأ الشعب اليمني إزالة آثار الدمار والخراب وسيلملم أجساد شهدائه ويضمِّد جراح جرحاه وستبدأ رحلة التعافي وعملية إعادة بناء ما تهدّم بقدراته الذاتية وسواعد أبنائه ودعم الدول الصديقة والمخلصة، وستكون رحلة طويلة وشاقة مليئة بالجهد والعمل والدماء والدموع أمام هول ما سيكتشفه اليمنيون من مخلفاتٍ حربية من الألغام والقنابل العنقودية والذخائر غير المنفجرة.
تاريخيًا خاض اليمنيون صراعات متعددة وعلى مراحل أقساها كانت حين انشطار اليمن إلى يمنين شمالي وجنوبي، وخاضوا المواجهات على طريق الوحدة فيما بينهم منها أحداث 13 كانون الثاني – يناير 1986م والتي أنتجت سلطة جديدة رأت أن الوحدة مع الشطر الشمالي أولوية، وبعد مخاضٍ عسير أعلنت الوحدة بين شطري اليمن في 22 أيار – مايو 1990م. وسرعان ما انقلب الوحدويون على وحدتهم في 20 أيار – مايو من العام 1994م وكانت حربًا ضروسًا داخل الثكنات والمدن والقرى والبلدات أدَّت إلى مزيدٍ من الخراب والدمار وإنهاكٍ للدولة اليمنية ومقدراتها العسكرية والاقتصادية، واستخدمت في هذه الحرب مختلف صنوف الأسلحة والذخائر ومنها الألغام الأرضية الإفرادية والمضادة للآليات مما زاد في معاناة الشعب اليمن وأدى إلى سقوط العديد من الضحايا الأبرياء نتيجة هذه المخلفات الحربية من الذخائر المتروكة والمرمية في البراري والحقول والأودية وسفوح الجبال أو في القواعد والثكنات العسكرية المهجورة. وأنا شخصيًا عاينت وشاهدت ورأيت بأم العين هذه المخلفات وآثارها في زيارة لي إلى عدن للمشاركة في ورشة عمل حول مشكلة الألغام في العالم العربي في العام 1999م.
العدوان الحالي زاد من عمق المأساة والمعاناة وأضاف إليها صنوفًا عديدة من الفواجع والمواجع والآلام، حيث لم يوفر العدوان نوعًا أو صنفًا من الذخائر لم يستخدمه في حربه على الشعب اليمني مستندًا إلى دعم حلفائه الغربيين الأمريكيين والبريطانيين وغيرهم مضافًا إليهم عدد من الدول العربية والخليجية التي شاركت بشكل مباشر في زيادة حجم معاناة اليمن وشعبه، حيث ووفقًا للمركز التنفيذي للتعامل مع الألغام في اليمن أنه منذ العام 2015م أي منذ بداية العدوان وحتى تاريخ 22 شباط – فبراير 2023م تم تسجيل 8104 ضحايا بسبب القنابل العنقودية والذخائر غير المنفجرة، وأنه أيضًا حتى تاريخ نهاية العام 2022م تم تسجيل اكتشاف 20.252 قنبلة عنقودية ولغم أرضي وذخيرة غير منفجرة.
وتضيف التقارير والإحصاءات الصادرة عن منظمات مختلفة وتحت مسميات حملات وائتلافات دولية والتي في العادة وللأسف ووفقًا للتجربة تستقي معلوماتها من جهات محددة (رسمية أو عسكرية أو مجتمع مدني) وكثيرًا ما تكون منحازة وغير منصفة في تحميل المسؤوليات لجهات دون غيرها وهذا ما نشهده الآن في مجريات العدوان على اليمن، حيث أفادت تقارير إحدى تلك الحملات (آخر التقارير في العام 2018) عن سقوط 9118 ضحية بين شهيد وجريح (مدنيين وعسكريين) معددة جهات مختلفة في تحميلها المسؤولية عن هذه المعاناة في تماهٍ واضح مع أهواء وسياسات الجهات المعتدية على اليمن مما يفقدها حياديتها وشفافية تقاريرها التي من المفترض أن تكون ذات طابع وخلفيات إنسانية بحتة.
وتكمل تلك التقارير سرديتها عن ازدياد في أعداد الأشخاص المعوقين في اليمن وبرقمٍ غير اعتيادي ناهز الــ 4.8 مليون معوق بإعاقة واحدة على الأقل من أصل 30 مليون مواطن يمني. واستخدم في التقرير تعبير “زيادة هائلة” للدلالة على هول المأساة نتيجة هذه الحرب والعدوان وجرّاء القصف الإجرامي والممنهج وأيضًا بسبب هذه المخلفات الحربية من الذخائر والألغام والقنابل العنقودية والحصار الظالم. وسترتفع للأسف ولا سمح الله بعد توقف هذه الحرب.
في هذه الأيام مرت على اليمن مناسبة الرابع من نيسان اليوم العالمي للتوعية من مخاطر الألغام والقنابل العنقودية والذخائر غير المنفجرة. والأرقام المتوافرة حتى الآن تشي بواقعٍ مرير غير مطمئن وما خفي منها أعظم، مع العلم أنه لم تقم حتى الآن الجهات الوطنية المعنية بالكشف على المحافظات والقرى والبلدات والمدن التي كانت مسرحًا للعدوان أو جبهات القتال والمناطق اليمنية المختلفة والسهول والجبال والأودية والهضاب التي تعرضت للعدوان والقيام بإحصاءات دقيقة وموثَّقة حول الأشكال والأنواع المختلفة لهذه الذخائر والألغام ولعدد الضحايا وفئاتهم العمرية وعدد الذكور منهم والإناث والفئات المنتجة والأطفال وأيضًا تحديد المساحات الملوثة وتسييجها أو وضع إشارات تحذير للمدنيين من حولها وتقييم الأثر البيئي والديموغرافي والاقتصادي لهذه المخلفات الخطرة وما تحتاجه من مساعدات لبرامج الإزالة والتوعية من المخاطر في المجتمعات المتضررة ومساعدة الضحايا وأيضا حاجة تلك المناطق للبرامج التنموية الاقتصادية والاجتماعية والزراعية وغيرها.
إن الواقع المؤلم الذي سيواجهه اليمن وشعبه في صبيحة انتهاء العدوان الغاشم سيضع الدولة والشعب اليمني بأكمله أمام تحديات كبيرة وخطيرة لمواجهة هذا الواقع القديم المتجدد بصورٍ وأشكال أكثر ترويعًا وإيلامًا، وخاصة أن الحصار الظالم المضروب على اليمن بحرًا وبرًّا وجوًّا خلق ظروفًا صعبة لن تسهّل مهمة التعافي وإعادة بناء الوطن اليمني وإزالة آثار العدوان ومخلفاته الخطرة من الألغام والقنابل العنقودية والذخائر غير المنفجرة وخاصة بإمكانيات ضعيفة وقدرات مدمرة وتحتاج لجهود جبارة وقدرات بشرية وتقنية ومعدات حديثة وفرقٍ عديدة ولسنوات طويلة لإزالة هذه المخاطر التي سببها العدوان السعودي – الأمريكي في محاولة لكسر إرادة الشعب اليمني وقهره والسيطرة على مقدراته.
إنَّ اليمن بحاجة لكل نصرة ومؤازرة ولجهدٍ وطني وعربي ودولي الآن وفي المستقبل لتجاوز محنته وآلامه ومأساته. وستكون أكثرها إيلامًا مشكلة الألغام والقنابل العنقودية والذخائر غير المنفجرة والتي ستشكل عدوانًا مستمرًا ومتماديًا ضد شعبه ومستقبل أطفاله وستبقى الأجيال اليمنية تعيش هذه الجلجلة من الآلام لسنواتٍ وسنوات بل لعقودٍ قادمة لا سمح الله.
وكذا لبنان في هذه الأيام ما زال يعيش مأساته الأليمة بسبب ما خلَّفه الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته المتكررة على أراضيه من تركٍ لحقول الألغام التي زرعها أو استخدام للقنابل العنقودية والذخائر المختلفة منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى تاريخ انتهاء عدوان تموز وآب 2006م مضافًا إليها مخلفات الإرهاب التكفيري في السلسلة الشرقية لجبال لبنان. ويشهد البرنامج الوطني لإزالة الألغام تراجعًا واضحًا وملموسًا بالنسبة للتمويل اللازم لاستمرار الجهود المطلوبة للتخلص من هذه الآفة إن كان على مستوى الإزالة والتوعية ومساعدة الضحايا والتقلّص الملحوظ لعدد الفرق العاملة في عمليات تنظيف المساحات الملوثة، وكأنَّ هناك أيديَ خفية تشارك في حصاره ومعاقبته وزيادة معاناته حتى في القضايا الإنسانية المتعلقة بأرواح اللبنانيين. ويبقى السؤال الأهم: هناك من يعمل على إزالة الألغام الرئاسية في لبنان، ولكن من يعمل على إزالة الألغام الأرضية والقنابل العنقودية والذخائر غير المنفجرة؟ سؤال برسم الضمائر الحية وحقوق الإنسان والموقعين على اتفاقيتي “أوتاوا – كندا لحظر استخدام الألغام الأرضية الإفرادية” في العام 1997م و” أوسلو – النرويج لحظر استخدام القنابل العنقودية” في العام 2008م، وأيضًا برسم أصحاب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الأربعة وملحقاتها، وللحديث تتمة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.