شكّل نهج العقوبات على كافة المستويات السياسية والاقتصادية، وحتى الإنسانية، أحد أركان السياسات الأميركية تجاه سوريا خلال العقدين الماضيين، تحت عناوين حماية الأمن القومي للولايات المتحدة. فمن “قانون محاسبة سوريا” الذي أقرته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن عام 2004، إلى العقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية السابقة بموجب ما يُعرف بـ “قانون قيصر” عام 2019، لم تشهد تلك السياسات تغييرًا يُذكر، وعكست عدائية أميركية متأصلة حيال دمشق تتأكد يومًا بعد يوم.
بين ترامب وبايدن
وإذا كانت إدارة الرئيس دونالد ترامب أعلنت مرارًا نيتها الانسحاب من سوريا، كجزء من توجه أميركي عام لتخفيف التزامات واشنطن الشرق أوسطية، قبل أن تتراجع لحسابات متصلة بعدم ترك الساحة السورية أمام نفوذ كل من روسيا وإيران، من ناحية، وتلافيًا لتهميش حلفاء على رأسهم “قوات سوريا الديمقراطية”، بما يعنيه الأمر من تقوية لحكومة الرئيس السوري بشار الأسد من ناحية ثانية، فإن تلك الاعتبارات لا تزال تحتل دورها في حسابات الإدارة الأميركية الحالية لإضعاف موقف دمشق، بالتوازي مع الاستمرار في فرض العقوبات ضدها، بهدف دفع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد للقبول بما تراه “حلًا سياسيًا” للصراع المستمر في سوريا منذ العام 2011.
فحتى اليوم، ورغم الزلزال الأخير الذي ضرب الأراضي السورية والتركية مؤخرًا، تتمسك إدارة الرئيس بايدن بإبقاء سيف العقوبات، شأنه شأن تمسكها بسيف الوجود العسكري الأميركي شرق الفرات تحت ذريعة محاربة “داعش”، مصلتًا ضد الحكومة السورية، لتثميرها على طاولة المفاوضات بين السلطة والمعارضة في سوريا، قبل أن تضطر تحت ضغط المجتمع الدولي، لا سيما الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان إلى إقرار بعض الاستثناءات لـ “قانون قيصر”، لدواع زعمت أنها “إنسانية”.
والأكثر من ذلك، تحظى سياسة العزلة الدبلوماسية لدمشق، والحصار الاقتصادي عليها، بدعم واسع في أوساط أعضاء الكونغرس، حتى أن شخصيات بارزة من الحزبين، مثل السيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز، والجمهوري جيمس ريش أعربت مرارًا عما يُشاع بشأن تشجيع إدارة بايدن لتقارب بعض حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، كالأردن، والإمارات مع حكومة الأسد.
استراتيجية بايدن
ومع قرب انتهاء ولاية الرئيس جو بايدن، تتفاوت النظرة إلى استراتيجية واشنطن السورية بين من يراها غير واضحة المعالم، في أسوأ الأحوال، ومتناقضة في أسوئها. فخلال الحملة الانتخابية للرئاسة الأميركية أواخر العام 2020، تعهد مستشار بايدن وقتذاك، أنتوني بلينكن، الذي بات يشغل منصب وزير الخارجية حاليًا، بمواصلة الالتزام بـ”قانون قيصر”، الذي يفرض عقوبات على أية شركة أو دولة تقوم بتعاملات مالية أو تجارية مع الحكومة السورية، بخاصة على صعيد إعادة الإعمار. كذلك، لا يجد مسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية حرجًا في الإفصاح العلني عن ممانعتهم تطبيع بعض الدول العربية علاقاتها مع دمشق. ورغم مضيها في سرقة آبار النفط السورية شرق البلاد، تشير مصادر غربية إلى أن إدارة بايدن باتت تتبنى نهجًا أكثر براغماتية في التعامل مع الأزمة السورية.
وفي هذا السياق، كشفت صحيفة “واشنطن بوست” قبل أشهر عن وجود تغيرات فعلية في سياسة بايدن في سوريا. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين في مجلس الأمن القومي في واشنطن قولهم إن الرئيس بايدن لا يمانع ضمنيًا مساعي بعض حلفائه العرب من فتح قنوات تواصل مع دمشق، وإعادة العلاقات معها بصورة أو بأخرى بشروط محدّدة، مؤكدين أن الرسالة وصلت لمن يعنيهم الأمر من الزعماء العرب. هذا الأمر، والذي غالبًا ما يُشار إليه كدليل على وجود هوة بين ما تقوله الإدارة الأميركية وما تفعله، يتقاطع مع ما تؤكده مصادر دبلوماسية أميركية في إطار “سياسة العصا والجزرة” التي تتبعها واشنطن لإغراء دمشق بالابتعاد عن حلفائها التقليديين، بخاصة إيران.
وعلى الرغم من صعوبة تحقيق أهداف تلك السياسة الأميركية في سوريا المشار إليها، سواء بسبب تعثر المفاوضات الدائرة بين الحكومة والمعارضة، أو بسبب الواقع الميداني المعقد على وقع تواتر الاشتباكات التركية- الكردية بصورة دورية، تتصاعد الضغوط على بايدن لإنهاء الحرب هناك، عبر تسوية دبلوماسية تمر عبر دمشق، بالتزامن مع السير في “استراتيجية خروج” لواشنطن من ساحة سبق أن وصفها الرئيس السابق دونالد ترامب بأنها “رمال ودماء وموت”، وذلك كجزء من ترتيبات أوسع تتضمن انسحاب كافة القوات الأجنبية من الأراضي السورية. وفي حين لا ينفك وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يردّد أن القرار 2254، والذي يلحظ إقرار دستور جديد للبلاد بما يضمن صيغة حكم تشاركية بين دمشق ومعارضيها، على أن يعقبها انتخابات برلمانية ورئاسية وفق الدستور الجديد، هو الحل الأنسب للأزمة السورية، وصولًا إلى قرار إدارة بايدن مؤخرًا القاضي بتعليق بعض عقوبات “ٌقانون قيصر” لمدة 180 يومًا عقب الزلزال، يؤيد آندرو تابلر، الذي شغل منصب مدير شؤون سوريا في مجلس الأمن القومي، ومستشار أول للمبعوث الأميركي الخاص لسوريا خلال عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، المنطق الداعم لاستمرار العقوبات، مؤكدًا حاجة الولايات المتحدة للاستفادة من عزلة حكومة الأسد لحثها نحو حل سياسي للحرب السورية، محذّرًا من أن التراجع عن الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية ضد دمشق، سوف يقلب ميزان القوى لصالح الأخيرة.
ويشيد تابلر بثبات نهج العقوبات الأميركي حيال سوريا، ووجود توافقات في أوسط الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء في هذا الصدد، معتبرًا أنه لم يحن بعد أوان تغيير هذا النهج. تأسيسًا على ذلك، يرى مراقبون أن تحرّك بعض الدول العربية لمد دمشق بالمواد الإغاثية بعد الزلزال الأخير، كان ناجمًا عن ضوء أخضر أميركي، أكثر من اتصاله بوجود رغبة لدى تلك الدول لكسر “عقوبات قيصر”، ويستدل هؤلاء بنزول دول خليجية عند رغبة واشنطن لخفض مستوى تمثيلها الدبلوماسي لدى دمشق بعد تطبيع العلاقات معها، فيما عمدت عواصم عربية أخرى إلى انتظار قرار إدارة بايدن بإقرار استثناءات للعقوبات ضد سوريا لإرسال المساعدات إليها.
التبعات الإنسانية الكارثية لنهج العقوبات
وإذا كانت سياسة بايدن العقابية تجاه سوريا تشكل محطة في مسار تصعيدي وتصاعدي في العداء الأميركي لحكومة الرئيس الأسد، فإن ما أعلنته مؤخرًا بخصوص تجميد بعض مفاعيل “قانون قيصر” لمدة 180 يومًا، جاء تحت ضغط الرأي العام الدولي والمنظمات الدولية والإنسانية، وهو الأمر الذي تبدّى من خلال زيارة رئيس منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبرييسوس إلى دمشق، مطلقًا نداءً إنسانيًا ودعوة مسؤولين غربيين على رأسهم مسؤول إدارة الأزمات في المفوضية الأوروبية يانيز لينارتشيتش الذي صرّح بأنه آن أوان دعم السوريين على كافة الأراضي السورية، في إشارة إلى رفضه التمييز بين المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعات المسلحة وتلك الخاضعة لسيطرة دمشق.
ورغم التشكيك بجدية نوايا واشنطن من وراء إعلان القرار الأخير، فإن بعض الدوائر الأميركية باتت تدعو إلى ضرورة تعديل مقاربة الإدارة الأميركية تجاه سوريا، بسبب سجل الأخطاء الكارثية لواشنطن هناك بدءًا من البرنامج السري، الذي دشنته وكالة الاستخبارات المركزية عام 2013 لدعم ما سُمي بالمعارضة السورية المعتدلة في عهد الرئيس أوباما، والذي أفضى إلى صعود تنظيم “داعش”، وصولًا إلى دبلوماسية الغارات وتصعيد العقوبات خلال عهد الإدارة السابقة، وما أسفرت عنه من أزمة اقتصادية معيشية خانقة يعيشها معظم السوريين، حتى أن بعض تلك الدعوات وصل إلى حد المطالبة باستراتيجية خروج أميركية مما تعتبره “المستنقع السوري”، تلافيًا لتصعيد عسكري غير متوقع مع القوات الروسية والإيرانية على الساحة السورية.
وفي سياق شرح التداعيات الإنسانية الكارثية للسياسة الأميركية، تلفت مجلة “نيوزويك” إلى أن واشنطن تتحمل مسؤولية الجزء الأكبر من تلك التداعيات، مشيرة إلى أن الأخيرة لا يمكن إلقاء اللوم على سياسات الحكومة السورية كسبب وحيد للأزمة الاقتصادية. وتشرّح المجلة الأميركية أوجه تلك التداعيات، لافتة إلى مستويات التضخم المفرط فضلًا عن الفقر المدقع العالية، الذي بات يفتك بـ 90 في المئة من المجتمع السوري، إضافة إلى مشكلة نقص التقديمات الحكومية الخدمية، لا سيما على صعيد الطاقة الكهربائية بمعدلات يومية لا تتجاوز الساعتين بفعل “قانون قيصر” الذي يمنع التعاملات المالية والتجارية مع دمشق. ومع وصول معدلات التداول بالعملة السورية في السوق السوداء إلى ما يزيد عن 7000 ليرة مقابل الدولار الأميركي، أي فقدانها حوالي 99 في المئة من قيمتها منذ بدء الحرب، فإن الأمر انعكس على تضاؤل القدرة الشرائية للسوريين، حيث بات 80 في المئة منهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي. وتضيف المجلة أن إدارة بايدن، وبدلًا من مواصلة تحميل الحكومة السورية وزر كل تلك الأزمات الاقتصادية والمعيشية، معنية بمناقشة الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في تدمير سوريا، في ظل إصرارها على نهج العقوبات الذي منع السوريين من الحصول على مساعدة المجتمع الدولي، بخاصة في مجال إعادة الإعمار والحصول على الإغاثة الإنسانية اللازمة. من هذا المنطلق، توضح المجلة أنه ليس من المستغرب أن يعاين خبراء ودبلوماسيون في الأمم المتحدة، على غرار منظمة الصحة العالمية، وناشطون في المنظمات الإغاثية الدولية، على غرار منظمة Humanitarian Aid Relief Trust، الضرر الذي لحق بالمدنيين الأبرياء في سوريا بسبب العقوبات الأميركية، وأن يطالبوا برفع تلك العقوبات.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.