مقدمة:
يُجمع علماء الاجتماع السياسي على انعدام التجانس التام في بنية أي مجتمع من المجتمعات، ولكن حدّة التباين داخل كل مجتمع تتفاوت بشكل واضح، وتمثّل ظاهرة الثقافات الفرعية؛ اللغوية، والدينية، والقبلية، والطائفية، واللون، والقومية…إلخ ثغرة تعمل الدول في إدارة صراعاتها البينية على توظيفها بطرق سلبية أو إيجابية. هذا التجزؤ يؤسس لتباين في الولاءات من الأدنى إلى الأعلى، أي من الولاء للنسق الأصغر الأسرة أو العشيرة إلى القبيلة فالقومية فالدين…إلخ، وهو ما يشكّل الفكرة المركزية لنظرية “التجزؤ الهرمي Pyramidal Segmentary”،ا[2] وتتبدى هذه المشكلة عند التنازع لدى الفرد أو الجماعة بين الولاء للانتماء الأعلى أو الولاء للانتماء الأدنى.
ويشكل التنازع مدخلاً للاستثمار السياسي من قبل الدول الأخرى، خصوصاً أن النظرية ترجح أولوية الولاء الأدنى على الولاء الأعلى عند حالة التنازع Dispute، وتزداد حدّته عند تصاعده لمستوى الصراع Conflict، وهو ما تشرحه نظرية “تقاطع الولاءات” التي أرست دعائمها إليزابيث كولسون Elizabeth Colson في نظريتها حول صراع الولاءات Conflicting Loyalties، إذ ترى أن هناك تنازعاً في وجهات النظر حول أولويات الولاء، فهل الأولوية للولاء الأدنى أم للولاء الأعلى، فإذا علا الولاء الأعلى فإن الثقافات الفرعية ستواجه ضغطاً كبيراً للقيام بتكيّف إذعاني مع متطلبات الولاء الأعلى، أما إذا علا الولاء الأدنى فإن وحدة المجتمع تتعرض لاحتمال التمزق الجغرافي والسياسي،[3] ولعل هذه الجوانب هي مركز التخطيط الاستراتيجي في تفاعل الأطراف الدولية الرئيسية، أي الدول، مع موضوع الأقليات وكيفية توظيفها.
وتسعى دراستنا هذه لتوضيح الاحتمالات المستقبلية لإعادة إحياء “إسرائيل” لمشاريعها القديمة في هذا المجال من ناحية، ومؤشرات هذا الإحياء حالياً من ناحية ثانية، ثم آليات مواجهته وتداعيات ذلك كلّه على الحقوق الفلسطينية.
أولاً: التجزؤ الهرمي العربي:
تكشف المقارنة بين الإقليم العربي وبقية الأقاليم الجيوسياسية في العالم، من زاوية مستوى وأبعاد التجزؤ الهرمي، عن النتائج الموضَّحة في الجدول التالي:[4]
جدول رقم 1: مقارنة التنوع الإثني بين أقاليم العالم وبين الوطن العربي[5]
المؤشر | العالم | العالم الغربي | أمريكا اللاتينية | آسيا | أوروبا الشرقية | إفريقيا جنوب الصحراء | الوطن العربي | الترتيب العربي عالمياً |
عدد الأقليات يزيد عن 1% من مجموع السكان | 160 | 21 | 23 | 23 | 31 | 43 | 19 | الأول (الأقل عدداً من الأقليات التي تزيد عن 1% من مجموع السكان) |
عدد الأقليات بغضّ النظر عن نسبتها | 822 | 68 | 84 | 108 | 141 | 351 | 70 | الثاني (من حيث الأقل عدداً) |
معدل عدد الإثنيات في الدولة الواحدة | 5.14 | 3.24 | 3.65 | 4.70 | 4.55 | 8.16 | 3.68 | الثالث |
أكبر عدد للجماعات الإثنية في الدولة الواحدة | 22 | 9 | 6 | 13 | 12 | 22 | 9 | الثاني |
نسبة الدول التي فيها جماعة إثنية تفوق 50% | 71 | 100 | 78 | 78 | 90 | 28 | 84 | الثالث |
نسبة الدول التي فيها جماعة عرقية تفوق 90% من مجموع السكان | 21 | 62 | 17 | 22 | 19 | 0.2 | 21 | الثالث |
وتدل المعطيات الواردة في الجدول على ما يلي:
1. أن التنوع الإثني في الوطن العربي يقع في منطقة وسطى تقريباً مقارنة بالأقاليم الأخرى في العالم، لكنه يحتل المرتبة الأولى في مستوى عدم الاستقرار السياسي منذ سنة 2014 وحتى الآن.[6] وهو ما يعني أن مستوى التنوع الإثني لا يتناسب مع درجة عدم الاستقرار، مما يستوجب البحث عن عوامل أخرى لتفسير عدم الاستقرار دون إهمال دور الأقليات.
2. إذا ربطنا معدل الديموقراطية في الدول العربية بمعدل التنوع الإثني، نجد أن نسبة التنوع الإثني لا تتسق أيضاً مع معدل الديموقراطية، ففي الوقت الذي تحتل المنطقة العربية المرتبة الأخيرة في معدل الديموقراطية، فإن التنوع الإثني فيها لا يقارن بالتنوع الإثني في إفريقيا، ومع ذلك، فإن مستوى الديموقراطية في إفريقيا أفضل منه في المنطقة العربية.[7]
يُشير ما سبق إلى أن القوى الخارجية تدرك أن عدم الاستقرار وغياب الديموقراطية يوفران مدخلاً لاستثمار أوجاع الأقليات في الوطن العربي، خصوصاً إذا تضافر مع التنوع الإثني متغيرات حاكمة للنزعة الانفصالية للأقلية. فقد تبيّن لنا في دراسة سابقة أن المتغير الجغرافي يُعدّ المتغير الأكثر أهمية في تعزيز النزعة الانفصالية لأيّ أقلية، ويتمثل هذا المتغير في ثلاثة أبعاد، وهي:[8]
1. وجود الأقلية على أطراف الدولة أو على الحدود وليس في القلب الجغرافي Heartland، فبعض الثقافات الفرعية في البنية العربية تتواجد على أطراف الدولة؛ مثل قبائل جنوب السودان، والأكراد في كل من العراق وسورية. إلا أن هناك أقليات أخرى تتواجد في وسط الدولة، كما هو حال الأمازيغ في دول المغرب العربي مثلاً. ولا شكّ أن التواجد على الأطراف يجعل التواصل مع البيئة الإقليمية المحاذية ثم البيئة الدولية أكثر يسراً، وهو ما ييسر وصول المساعدات الدولية والتدخل الخارجي.
2. وجود أغلب سكان الأقلية في إقليم جغرافي واحد مثل الأكراد في سورية أو العراق مثلاً، بينما توجد أقليات أخرى مشتتة جغرافياً، كالمسيحيين في مصر، أو الشيعة في السعودية. ومن المؤكد أن التمركز في إقليم واحد يعزز الهوية الفرعية بدلاً من تمزقها.
3. توفر مورد اقتصادي مهم في الإقليم الجغرافي الذي تقطنه الأقلية، مما يجعل القدرة الاقتصادية لهذا الإقليم تتوزّع على عدد أقل من السكان، بدلاً من توزيعها على أفراد الأغلبية، وهو ما يعزز النزعة الانفصالية؛ ومن الأمثلة على ذلك البترول في كردستان العراق وشمال سورية، والبترول في جنوب السودان قبل الانفصال.
ثانياً: السجل التاريخي للتغلغل الإسرائيلي في بنية الأقليات في الدول العربية:
تسرد الدراسات والتقارير الإسرائيلية وقائع موثقة حول التعاون الإسرائيلي مع الأقليات العربية، كما أن الأدبيات الرسمية الإسرائيلية تبنّت مشاريع سياسية لتوظيف الأقليات ضمن مشاريع التغلغل الإسرائيلي، وهو ما يتضح في الآتي:
1. تُشير دراسة إسرائيلية إلى أن العلاقات مع الأقليات العربية، ودول عربية معينة، كانت تتم قبل مرحلة اتفاقية كامب ديفيد Camp David Accords بإشراف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وليس وزارة الخارجية الإسرائيلية، بسبب حالة الصراع التي كانت مهيمنة على العلاقات بين الطرفين. كما أن بعض الملابسات في التواصل مع الأقليات تستوجب السرية، وهو ما جرى مع الأكراد والموارنة وبعض أقليات المغرب العربي.[9]
2. تؤرِّخ إحدى أطروحات الدكتوراه لبداية التواصل بين الوكالة اليهودية Jewish Agency for Israel وبين الأقليات وخصوصاً الأكراد في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، وتستعرض الدراسة محاولات “إسرائيل” لتعميق الشعور بين الأقليات الكردية بفكرة “كردستان الكبرى”، مع التركيز في البداية على العراق، إلا أن ذلك اصطدم بمعارضة من الدول ذات الأقلية الكردية، وهي العراق وإيران وتركيا وسورية. ثم تتناول الدراسة كيف كانت درجة الاختراق للمجتمع الكردي مرتبطة بموقف النظام السياسي في الدول الشرق أوسطية من “إسرائيل”، ومن هنا، ركزت المخططات الصهيونية على أن للأكراد واليهود عدو مشترك هو “العرب”، مما يستدعي التعاون بين الطرفين ضدّ هذا العدو المشترك.[10]
3. في مرحلة لاحقة، تحوّل موضوع العلاقة مع الأقليات في الوطن العربي إلى مشاريع معلنة وشغلت تفكير دوائر البحث العلمي في “إسرائيل”، كما اتضح في مشاريع أوديد ينون Oded Yinon، الذي كان مسؤولاً عن شعبة التخطيط بعيد المدى في الخارجية الإسرائيلية. تقوم فكرته الأساسية على تقسيم الدول العربية استناداً للهويات الفرعية، حتى الضيقة منها.[11]
4. العمل على تكريس الهويات الفرعية للأقليات، الطائفية والدينية والعرقية…إلخ، من خلال نشر كمّ هائل من الأدبيات حول كل أقلية، والهدف من ذلك جعل الهوية اليهودية في منطقة الشرق الأوسط متسقة في وجودها مع الخريطة الإثنية للمنطقة ككل.[12] ويُشير كمال جنبلاط في كتابه ” هذه وصيتي” إلى العلاقة بين “إسرائيل” وبعض الهويات الفرعية في لبنان، بل ومدّها بالسلاح ونشر الدراسات من قبل مؤسسات مختلفة لتعزيز مشاعر الهوية الثقافية الفرعية، مشيراً إلى المراسلات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق موشي شاريت Moshe Sharett وسفيره في روما، والتي تتضمن تفتيت المنطقة ولبنان خصوصاً إلى دويلات طائفية تجعل من “إسرائيل” هي القوة الراجحة من ناحية، وتجعلها متجانسة مع الجغرافيا السياسية للمنطقة من حيث المكوّن الاجتماعي للدول من ناحية أخرى.[13]
5. استناداً إلى تلك الخلفية الموجزة، شدّد وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي جدعون ساعر Gideon Sa‘ar في خطاب تنصيبه، في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 إلى ضرورة السعي مجدداً لإقامة علاقات مع الأكراد، في ظلّ ما عدّه اضطهاداً تركياً وإيرانياً واستقلالاً واقعياً في سورية، واستقلالاً قانونياً في العراق، كما ينص عليه الدستور العراقي، ثم يضيف إلى هذا توجهاً نحو العلاقة مع الدروز في كل من سورية ولبنان. ولا يُخفي الوزير الإسرائيلي أن ذلك يشكّل كابحاً لموازنة السعي الإيراني لتوظيف الأقليات، حسب رأيه، لسياساتها الإقليمية.[14] ويرى ساعر أن مواجهة الحلف الإيراني يجب أن يتم على أساس التعاون الإسرائيلي مع دول “التطبيع السنية”، أي على أسس طائفية أيضاً.[15] ويُعيد التأكيد على تقسيم سورية إلى عدة دول؛ هي سنية في الوسط، ودرزية في الجنوب، وعلوية في الساحل، وكردية في الشمال.[16]
ثالثاً: توظيف المتغيرات الحاكمة في علاقة “إسرائيل” بالأقليات في الوطن العربي:
تتسم السياسة الإسرائيلية في تعاملها مع الهويات الفرعية في الوطن العربي بازدواجية واضحة، فهي تعمل على تفكيك المخيمات الفلسطينية في الشتات، لأن هذه المخيمات الفلسطينية شكّلت في الشتات العربي، خصوصاً في دول الجوار العربي، عاملاً فعّالاً في تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية، وهو أمر تنظر إليه “إسرائيل” نظرة سلبية، لذا فهي تعمل على تذويب اللاجئين الفلسطينيين في مجتمعات ودول المهجر من ناحية، كما أنها اتخذت في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 قرارات بتعطيل عمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا UNRWA) في مخيمات الأراضي الفلسطينية المحتلة لدفع المخيمات للتفكّك الاجتماعي تحت ضغط الضائقة الاقتصادية من ناحية ثانية. فقد منعت “إسرائيل” طبقاً لقرارات أقرّها الكنيست Knesset، كافة نشاطات وكالة الأونروا في “إسرائيل”، ومنعت التواصل بين الموظفين الحكوميين الإسرائيليين والعاملين في الوكالة، بالإضافة إلى نزع الحصانة الديبلوماسية عن موظفي الوكالة.[17] وهو موقف ساندته الولايات المتحدة منذ الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب Donald Trump. كما تكشف وثيقة أُطلق عليها “وثيقة تصور Concept Paper”، والتي أعدتها هيئات أمنية إسرائيلية وتمّ نشرها لاحقاً، عن التخطيط لتذويب الفلسطينيين في المجتمعات العربية والغربية على حدٍّ سواء،[18] وهو أمر يتّسق مع مشروع الرئيس ترامب الذي طرحه في شباط/ فبراير 2025، والخاص بتهجير سكان غزة وتذويبهم في مجتمعات غير المجتمع الفلسطيني.[19]
بالمقابل، فإن “إسرائيل” تعمل على إحياء الهويات الفرعية في المجتمع العربي بهدف الدفع نحو بروز حركات انفصالية تقود إلى مزيد من التشظي الجيوسياسي عربياً، فهي من أكثر الدول دعماً للنزعات الانفصالية، ويكفي تتبع تنامي العلاقة بين “إسرائيل” وكل من جمهورية جنوب السودان بعد انفصالها، أو مع الأكراد في العراق وسورية، أو مع بعض الشرائح المسيحية في لبنان…إلخ، وهو ما يكشف التوظيف السياسي لموضوع الهويات الفرعية طبقاً للمصالح الإسرائيلية.
ذلك يعني أن الاستراتيجية الإسرائيلية تقوم على توجهين متناقضين؛ فهي تعمل على تذويب الفلسطينيين ودمجهم في مجتمعات الشتات من ناحية، ولكنها في الوقت ذاته تعمل على إحياء الشخصية التاريخية للثقافات الفرعية في الدول العربية بهدف تفكيكها من ناحية ثانية. بالإضافة إلى ذلك تعمل على إحياء الهوية الفرعية اليهودية في المجتمعات الأخرى في كل مناطق العالم، لفكِّ ارتباطاتها بمجتمعاتها الأصلية والهجرة إلى “إسرائيل”، استناداً إلى الهوية الدينية حصراً، وهو ما يتضح في دعوات بنيامين نتنياهو Benyamin Netenyahu لأن تكون “إسرائيل” “دولة يهودية” من ناحية ثالثة.[20]
رابعاً: آليات التسلّل الإسرائيلي داخل الهويات الفرعية:
تقوم استراتيجية “إسرائيل” في التسلّل إلى الهويات الفرعية داخل الوطن العربي على الأسس التالية:
1. وعي ظاهرة الأقليات العربية: يشكّل البحث العلمي في الأصول العرقية والطائفية وغيرها من الهويات الفرعية نقطة ارتكاز أساسية تقوم بها شبكة كبيرة من مراكز الأبحاث. ويمكن اعتبار أهمها معهد شيلواح Shiloah Institute، الذي تأسس سنة 1959، والذي ارتبط اسمه بأول رئيس للموساد Mossad ريفؤن شيلواح Reuven Shiloah المتخصص في الشأن الكردي. كان من المقرر أن يرتبط المعهد بالجامعة العبرية، لكن تمّ تأسيسه في جامعة تل أبيب سنة 1965 تحت اسم “معهد شيلواح للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية”. ويضمّ المعهد أقساماً متخصصة في مناطق الشرق الأوسط المركزية، ويترأس كل قسم خبير متخصص في المنطقة التي أوكلت له،[21] وكان وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي جدعون ساعر من المرتبطين بهذا النشاط.
2. التواصل المباشر مع النخب والقيادات الحزبية لبعض الأقليات: ويتبيّن من عرض الدراسات التي تناولت هذه المسألة أن “إسرائيل” كانت تستثمر الحساسيات التاريخية بين الهويات الفرعية للتواصل مع قيادات هذه الهويات وتأجيج مخاوفها وعرض المساعدة عليها لمواجهة “طغيان الأغلبية العربية”. ففي البداية كانت القنوات السرية وشبه العلنية تمثل الاستراتيجية الأوسع انتشاراً لـ”إسرائيل”، ولكنها بعد اتساع قاعدة التطبيع مع عدد من الدول العربية المهمة، أصبحت أقل سرية. مع ملاحظة أن التركيز كان على التواصل مع نخب الهويات الفرعية في دول الجوار لفلسطين المحتلة.[22] دون أن يعني ذلك إغفال نخب الأقليات في دول أخرى مثل السودان أو المغرب، إذ تُشير العديد من الدراسات الإسرائيلية إلى جولات من المحادثات السرية مع قيادات سودانية خلال فترات حُمّى التيارات القومية العربية، والتي استمرت خلال الفترة 1954–2019، وهو ما مهّد للتطبيع الكامل بين الطرفين، وكان انفصال جنوب السودان أحد نتائج هذا الجهد الإسرائيلي في هذا الجانب.[23]
3. استغلال أوجاع الأقليات المتعلقة بحقوقهم السياسية، والاستبداد، وسوء توزيع الدخل بين الهويات الفرعية. وهنا نلاحظ أن التركيز الإسرائيلي هو على الأقليات التي يتوفر فيها المحدِّد الجغرافي الذي تتوفر فيه الأبعاد الثلاثة لهذا المحدِّد، والتي أشرنا لها سابقاً، وهي الموقع على الأطراف، والمورد الاقتصادي المهم، والتمركز الديموجرافي، وهو ما يتضح في العلاقة مع الأكراد وجنوب السودان بشكل كبير، دون إغفال التوظيف السياسي للأقليات الأخرى. فمن المؤكد أن ثغرات الديموقراطية في المجتمعات العربية وسوء توزيع الدخل على فئات أو أقاليم الدولة الواحدة، تُمثّل ثغرة يسهل النفاد منها. فإذا علمنا أن الإقليم العربي هو الأقل ديموقراطية في العالم، وضمن أكثر الأقاليم سوءاً في توزيع الثروة، طبقاً لمقياس جيني Gini Index، فإن ذلك يفتح الباب على مصراعيه لعدم الاستقرار السياسي وتعزيز النزعات الانفصالية.
4. تعمل “إسرائيل” على تمزيق النسيج الاجتماعي في فلسطين التاريخية من خلال توظيف نظرية التجزؤ الهرمي، فهي تقسّم المجتمع الفلسطيني إلى ثلاثة أجزاء: ما تسميهم عرب 1948، ثم سكان ما تطلق عليهم “يهودا والسامرة”، ثم سكان غزة، ثم تقوم بتفتيت الهوية الفلسطينية في كل من هذه الأبعاد بتقسيم عرب 1948 إلى مسيحيين ومسلمين ودروز وبدو (سكان النقب)،[24] وتعمل على إحياء إدارات حكومية محلية في الضفة الغربية وغزة على أساس القبائل والعشائر، وهو ما يعني إحياء الولاءات الأدنى على حساب تغييب الولاء الأعلى.[25] وقد أعلنت “إسرائيل” عن خطة وضعها جهاز “الشين بيت Shin Bet” لتقسيم قطاع غزة إلى دوائر محلية صغيرة، ثم إيكال إدارة هذه الدوائر لزعماء قبائل أو عشائر طبقاً لحجم القبيلة أو العشيرة في كل دائرة،[26] وعلى الرغم من إعلان شيوخ القبائل والعشائر عن رفض هذا التصور الإسرائيلي، إلا أن البحوث الإسرائيلية متواصلة في هذا الاتجاه وبشكل مكثّف. غير أن اللافت للانتباه هو أن النقاش حول هذا الأمر ليس منفصلاً عن سوابق أخرى، مثل روابط القرى في الضفة الغربية، بل إن البحوث حول هذا الموضوع كانت سابقة على معركة طوفان الأقصى بأكثر من عقد ونصف.[27]
يُشير ما سبق إلى أن السياسة الإسرائيلية تقوم بتوظيف نظرية التجزؤ الهرمي طبقاً للغرض السياسي، لا على أساس المعايير والمواثيق الدولية، ويوضِّح الجدول التالي هذه الثنائية:
جدول رقم 2: ثنائية السياسة الإسرائيلية في تطبيق نظرية التجزؤ الهرمي
السياسة الإسرائيلية | اليهود | الفلسطينيون |
المقيمون في الخارج | تعزيز الولاء الأدنى | تعزيز الولاء الأعلى |
المقيمون داخل كيانه السياسي | الاندماج | التشظي |
المقوّم المركزي لبناء الشخصية | الدين | الهوية الفرعية |
المحدِّد الجغرافي | الوسط الجغرافي، والتركز الديموجرافي، والتكثيف الاقتصادي | التفتيت الجغرافي (فلسطينيي 1948، الضفة الغربية، قطاع غزة)، والتشتيت الديموجرافي، والفقر الاقتصادي |
يكشف الجدول السابق عن ما يلي:
1. تقوم “إسرائيل” بتشجيع اليهودي على التمسك بهويته الفرعية عندما يكون في الخارج تمهيداً لدفعه لاحقاً للهجرة إلى فلسطين المحتلة “إسرائيل”، وتغييب هويته الوطنية لحساب هويته الدينية أو القومية، بينما تسعى “إسرائيل” لدفع دول الشتات الفلسطيني باتجاه سياسات الدمج، والتذويب، والتجنيس.
2. يلاحظ في داخل “إسرائيل” العمل على تعظيم القيم المشتركة بين اليهود، وهي مقومات الشخصية اليهودية، والعمل على توظيف مفهوم بوتقة الصهر Melting Pot لتغييب الهويات الفرعية، إشكناز/ سفارديم أو اللون الأبيض/ الأسود، أو دولة المنشأ، روسي أو إفريقي أو عربي…إلخ، بينما تعمل على إحياء الهويات الفرعية داخل الضفة الغربية وفلسطينيي 1948 وقطاع غزة من خلال ثنائيات: القبيلة، والعشيرة، والطائفة، والدين، والقومية “عرب/ دروز” أو مكان السكن “حضر/ بدو/ فلاحين”…إلخ.
3. العمل على تنامي الهوية الجامعة للمجتمع الإسرائيلي وهو الدين اليهودي، وهو ما يتضح في تنامي القوى الدينية اليهودية وتزايد وزنها السياسي في صناعة القرار السياسي، بينما تعمل “إسرائيل” على تولية السلطات والإدارات المحلية في المناطق الفلسطينية استناداً للشظايا الاجتماعية مثل روابط القرى أو العشائر أو القبائل…إلخ.
4. إضعاف المحدِّد الجغرافي بأبعاده الثلاثة التي أشرنا لها في الجانب الفلسطيني لدفعه للهجرة.
خامساً: نتائج وتوصيات:
يمكننا أن نشير استناداً لما سبق، أن أي إحياء لأيّ هوية فرعية في المجتمع الفلسطيني الحالي هو إسهام واضح في المشروع الإسرائيلي لتمزيق النسيج الاجتماعي الفلسطيني، والذي يشكّل الأساس للمقاومة بكافة أشكالها، وسواء كان التجزؤ على أساس مناطقي أم عرقي أم طائفي أم ديني أم قبلي أم عشائري، فهو يخدم وبشكل كبير استراتيجية “إسرائيل” السياسية، وهو ما يستدعي:
1. تكثيف الدراسات العلمية ومضامين الخطاب السياسي الفلسطيني باتجاه الولاء العام للهوية الفلسطينية لا الولاء الخاص أو الأدنى، التنظيمي أو العشائري أو المناطقي أو الديني…إلخ، كما تسميه نظرية التجزؤ الهرمي، وتقع مسؤولية ذلك على الجامعات ومراكز الأبحاث والتنظيمات الفلسطينية وهيئات المجتمع المدني.
2. التفكير، خصوصاً من جانب التنظيمات الفلسطينية، في كيفية نقل الممارسات السياسية الإسرائيلية تجاه المجتمع الفلسطيني لممارستها تجاه الهويات الفرعية الإسرائيلية. وقد أشرنا في دراسة سابقة لنا إلى التنوع الكبير في الهويات الفرعية الإسرائيلية والتي يمكن توظيفها لخلخلة البنية الاجتماعية الإسرائيلية.[28]
3. ضرورة تعميق ومأسسة التواصل بين التنظيمات الفلسطينية وفلسطينيي الشتات، وتشجيع الفلسطينيين في المهجر على إنشاء هيئات مجتمع مدني مرتبطة في أهدافها بالحفاظ على الشخصية الفلسطينية، عبر أدوات التربية والتعليم والرموز الاجتماعية المختلفة. وهو أسلوب تستخدمه “إسرائيل” مع كل اليهود في العالم.
4. دعم التوجهات السياسية في الإقليم الشرق أوسطي تحديداً؛ لطمس أدبيات الثنائيات في الهويات الفرعية، والتي تعمق توجهات التشظي.
إن خصوصية الوضع الفلسطيني تقتضي تكثيف أدبيات الهوية الوطنية في المجتمع الفلسطيني، واعتبار الولاء لها هو الأساس سواء بين فلسطينيي فلسطين التاريخية، أم بين فلسطينيي المخيمات في دول الجوار، أم بين فلسطينيي الشتات خارج الجوار.
الهوامش
[1] خبير في الدراسات المستقبلية والاستشرافية، أستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك في الأردن سابقاً، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وهو عضو سابق في مجلس أمناء جامعة الزيتونة في الأردن، وجامعة إربد الأهلية، والمركز الوطني لحقوق الإنسان وديوان المظالم، والمجلس الأعلى للإعلام. ألَّف 37 كتاباً، يتركز معظمها في الدراسات المستقبلية من الناحيتين النظرية والتطبيقية، ونُشر له نحو 120 بحثاً في المجلات العلمية المحكّمة.
[2] T.V. Sathyamurthy, Nationalism in the Contemporary World: Political and Sociological Perspectives (London: Frances Pinter, 1983), pp. 74–76.
[3] Gay Elizabeth Kang, “Conflicting Loyalties Theory: A Cross-Cultural Test,” Ethnology journal, vol. 15, no. 2, April 1976, pp. 203–207.
[4] وليد عبد الحي، “نموذج قياس النزعة الانفصالية للأقليات في الوطن العربي،” مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المجلد 1، العدد 4، 2013، ص 67-68.
[5] تعرف الموسوعة البريطانية الإثنية بأنها تشمل كافة أبعاد الثقافات الفرعية (الدين والمذهب والطائفة واللغة والعرق والون… إلخ). انظر:
Ethnicity, site of Britannica, https://www.britannica.com/topic/ethnicity
[6] Institute for Economics & Peace, “Global Peace Index 2024: Measuring Peace in a Complex World,” Sydney, June 2024, https://www.economicsandpeace.org/wp-content/uploads/2024/06/GPI-2024-web.pdf
[7] Democracy Index 2023, Age of conflict, site of Economist Intelligent (EIU), https://pages.eiu.com/rs/753-RIQ-438/images/Democracy-Index-2023-Final-report.pdf
[8] وليد عبد الحي، “نموذج قياس النزعة الانفصالية للأقليات في الوطن العربي،” عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية، المجلد 1، العدد 4، 2013، ص 61.
[9] Pinhas Inbari, “Why Did the Idea of an Alliance between Israel and Minorities in the Levant Collapse?,” Strategic Assessment journal, Institute for National Security Studies, vol. 26, no. 1, March 2023, pp. 142–145, https://www.inss.org.il/wp-content/uploads/2023/05/Inbari.pdf
انظر أيضاً العلاقة مع بربر (الأمازيغ) في المغرب، في:
Bruce Maddy-Weitzman, “Morocco’s Berbers and Israel,” Middle East Quarterly journal, Middle East Forum (MEF), December 2011, pp. 82–84.
[10] Scott Abramson, “Early Zionist-Kurdish Contacts and the Pursuit of Cooperation: the Antecedents of an Alliance, 1931-1951” (PhD dissertation, University of California, 2019), pp. 14–25 and 29–41, https://escholarship.org/content/qt2ds1052b/qt2ds1052b_noSplash_b0b0087d30def88f05e48b5dc022997b.pdf?t=py0wm5
[11] Israel Shahak, The Zionist Plan for the Middle East (Belmont: Association of Arab-American University Graduates, Inc., 1982), Special Document No.1, https://archive.org/details/the-zionist-plan-for-the-middle-east-by-oded-yinon-israel-shahak-yinon-oded-shah
[12] Mordechai Nisan, Minorities in the Middle East: A History of Struggle and Self-Expression, 2nd edition (Jefferson: McFarland & Company, 2002), pp.13–23.
[13] كمال جنبلاط، هذه وصيتي، ترجمة مؤسسة الوطن العربي (باريس: مؤسسة الوطن العربي، 1978)، ص 76-77.
[14] Newly-Appointed Israeli Foreign Minister Gideon Saar: We Still Aim For Peace With The Arab World; We Must Seek Out Natural Alliances With Minorities In The Region, Such As The Kurds, Druze, site of The Middle East Media Research Institute (MEMRI), 10/11/2024, https://www.memri.org/tv/israeli-fm-gideon-saar-appointment-speech-natural-alliances-minorities-region
[15] Sam Sokol, Sa’ar says Israel should seek alliances with Kurds and Druze in the region, site of The Times of Israel, 27/10/2024, https://www.timesofisrael.com/liveblog_entry/saar-says-israel-should-seek-alliances-with-kurds-and-druze-in-the-region/
[16] Gideon Sa‘ar and Gabi Siboni, “Farewell to Syria,” INSS Insight, no. 754, site of The Institute for National Security Studies (INSS), 13/10/2015, https://www.inss.org.il/publication/farewell-to-syria/
[17] Joseph Krauss, Julia Frankel and Melanie Lidman, Israel approves two bills that could halt UNRWA’s aid delivery to Gaza. What does that mean?, site of Associated Press (AP), 29/10/2024, https://apnews.com/article/israel-palestinians-hamas-war-un-aid-refugees-16bc0524adc947b95abe25d7d9eca038
[18] Amy Teibel, AP and TOI Staff, Intelligence Ministry ‘concept paper’ proposes transferring Gazans to Egypt’s Sinai, The Times of Israel, 31/10/2023, https://www.timesofisrael.com/intelligence-ministry-concept-paper-proposes-transferring-gazans-to-egypts-sinai/
[19] What is Trump’s Proposal for Gaza?, site of American Jewish Committee (AJC), 12/2/2025, https://www.ajc.org/news/what-is-trumps-proposal-for-gaza
[20] حول إشكاليات الأقليات اليهودية في العالم وكيفية تعاطي “إسرائيل” مع هذا الموضوع خصوصاً من زاوية ثنائية الإنتماء بين “اليهودية والقومية” (أي بين الإنتماء العرقي والإنتماء الديني)، انظر:
William Safran, “Israel and the Diaspora, Problems of Cognitive Dissonance,” International Migration Institute (IMI) Working Paper, no. 53, April 2012, pp.4–6 and 13–16.
[21] Reuven Shiloah (Saslani), site of Jewish Virtual Library, https://www.jewishvirtuallibrary.org/shiloa-x1e25-zaslani-reuben; and Haggai Eshed, The Man Behind the Mossad, translated by David & Leah Zinder (Abingdon: Frank Cass & Co, 1997), pp. 33–34.
[22] Pinhas Inbari, “Why Did the Idea of an Alliance between Israel and Minorities in the Levant Collapse?,” Strategic Assessment, vol. 26, no. 1, March 2023
[23] للتفاصيل عن عمق الاختراق للنخب والأقليات في السودان، انظر:
Elie Podeh and Andrew Felsenthal, “Israel and Sudan: The Origins of Clandestine Relations 1954–1964,” Israel Studies journal, vol. 28, no. 2, June 2023, passim.
[24] حول تفاصيل هذه الموضوعات، انظر:
Kay Zare, “Permanent Transitions: Collective Identity Formation in Israel, Jordan, and Palestine,” site of American University, 2010, https://www.american.edu/spa/publicpurpose/upload/permanent-transitions-2.pdf; and Mia Heapy, Complex Identity Politics In Israel/Palestine, site of The Organization for World Peace (OWP), 10/6/2021, https://theowp.org/reports/complex-identity-politics-in-israel-palestine
[25] Hisham Motkal Abu-Rayya and Maram Hussien Abu-Rayya, “Acculturation, religious identity, and psychological well-being among Palestinians in Israel,” International Journal of Intercultural Relations, Elsevier, vol. 33, no. 4, July 2009, pp. 325–331, https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S014717670900056X
[26] Nagham Mohanna, Gaza tribes helping Israel to administer territory would be recipe for chaos, experts say, site of The National, 14/3/2024, https://www.thenationalnews.com/mena/palestine-israel/2024/03/14/gaza-tribes-helping-israel-to-administer-territory-would-be-recipe-for-chaos-experts-say/; and Yaniv Voller, The Inevitable Role of Clans in Post-Conflict Stabilization in Gaza, site of War on the Rocks, 24/5/2024, https://warontherocks.com/2024/05/the-inevitable-role-of-clans-in-post-conflict-stabilization-in-gaza/
[27] تدور مناقشات واسعة بين النخب الإسرائيلية حول هذا الموضوع، ولعل الاطلاع على هذه البحوث والمراجع المستندة لها كافية للتدليل على الاهتمام الإسرائيلي بهذا التصور، انظر:
Dror Ze’evi, “Clans and Militias in Palestinian Politics,” Middle East Brief series, no. 26, Crown Center for Middle East Studies, Brandeis University, February 2008, pp. 3–6.
[28] وليد عبد الحي، الترابط بين الانحراف الاجتماعي والعنف السياسي في مجتمعات الاستعمار الاستيطاني: “إسرائيل” نموذجاً، موقع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2/12/2020، في: https://www.alzaytouna.net/
وليد عبد الحي – مركز الزيتونة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.