قبل عشرين عاما وقف العالم مذهولا يراقب طائرتيْن مدنيتين في سماء نيويورك تتوجهان مباشرة للاصطدام ببرجيْ مركز التجارة العالمي، بينما ارتطمت طائرة ثالثة بمبنى البنتاغون في واشنطن، وتحطمت أخرى في ولاية بنسلفانيا. حدث ذلك في الحادي عشر من سبتمبر 2001.
وبينما العالم مشغول بحروب تقليدية شنتها الولايات المتحدة ضد جماعات إرهابية، كانت هناك ثورة تتشكل تغير معها مستقبل الحروب.
قبل ذلك عرفت البشرية ثورتيْن غيرتا وجه الحروب. الأولى كانت مع اختراع البارود في القرن التاسع، وظهرت أول صيغة مكتوبة للبارود في الشرق الأوسط في أطروحة مكتوبة عام 1240 تنسب إلى حسن الرماح، الذي ساعدت مخترعاته على إلحاق الهزيمة بالصليبيين، وفي أوروبا ظهرت أول معادلة مكتوبة بحلول عام 1267. وشكل ظهور البندقية في القرن الثالث عشر تتويجا لثورة البارود.
الثورة الثانية في عالم الحروب بدأت عام 1945؛ في شهر يوليو من ذلك العام أجرت الولايات المتحدة أول تجربة نووية لها، وبعد أقل من شهر ألقت قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي، وبعدها بأربع سنوات فقط أجرى الاتحاد السوفييتي أول اختبار نووي له.
روبوتات قاتلة
الأسلحة المستقلة الذكية هي الثورة الثالثة للحروب. لم تكن الألغام الأرضية والصواريخ الموجهة التي سبقت الذكاء الاصطناعي سوى مقدمة لأسلحة ذكية تعمل باستقلالية وتستطيع المشاركة الكاملة في عمليات القتل؛ تبحث عن هدف بشري، وتتخذ القرار باستهدافه والاشتباك معه، وتدمره دون أي تدخل من قبل البشر.
هذا السيناريو شاهدناه عام 2017 في فيلم قصير بعنوان “الروبوتات القاتلة” (Slaughterbots) قدم سيناريو مظلما للمستقبل القريب حيث تستخدم أسراب من الطائرات الصغيرة زهيدة الثمن ومزودة بالذكاء الاصطناعي وتقنية التعرف على الوجه لاغتيال معارضين سياسيين بناءً على معايير مبرمجة مسبقًا.
تم نشر الفيلم على موقع يوتيوب من قبل معهد “مستقبل الحياة” (Future of life) وأستاذ علوم الكمبيوتر في بركلي، ستيوارت راسل، في الثاني عشر من نوفمبر 2017. حقق الفيلم انتشارا واسعا، وحصد فور نشره أكثر من مليوني مشاهدة.
وتم عرض الفيلم أيضًا في اجتماع للأمم المتحدة خلال نوفمبر 2017 في جنيف، مع دعوة وجهت للمسؤولين في المنظمة الأممية لحظر الأسلحة الذكية المستقلة التي تستهدف الأشخاص.
ما شاهدناه في الفيلم أصبح جزءا من الواقع؛ كادت إحدى هذه الدرونات المستقلة تقتل رئيس فنزويلا عام 2018. ويمكن لهاو متمرس بناءها بأقل من 1000 دولار. جميع الأجزاء متاحة للشراء عبر الإنترنت، وجميع البرمجيات مفتوحة المصدر ومتاحة للتنزيل.
هل يمكن أن تتخيل؟ قاتل محترف بـ1000 دولار!
لا نتحدث هنا عن خطر بعيد، بل عن خطر واضح وقائم. إسرائيل تستخدم اليوم أسلحة مستقلة مبرمجة للطيران إلى منطقة محددة مسبقا، وتعقّب أهداف محددة باستخدام رؤوس حربية متفجرة تلقب بـ”أطلقْ النار واِنْسَ”.
الذكاء الاصطناعي تطور خلال السنوات الأخيرة بسرعة كبيرة، وبمنسوب تصاعدي يتسارع بمرور الوقت. لن تصبح هذه الروبوتات القاتلة أكثر ذكاءً ودقةَ وأسرع وأرخص ثمناً فحسب؛ سوف تتعلم أيضًا قدرات جديدة، مثل كيفية تشكيل سرب والعمل بشكل جماعي والمناورة، مما يجعل إيقافها مهمة شبه مستحيلة.
سرب من 10 آلاف طائرة مستقلة يمكن أن يقضي على نصف مدينة، قد يكلف نظريًا أقل من 10 ملايين دولار.
استفزاز تركي
لن نجانب الصواب إن قلنا إن العالم يقف اليوم على أعتاب ثورة ثالثة ستغير مستقبل الحروب بطلها الذكاء الاصطناعي. وتراقب دول العالم ما يحدث في المعارك الدائرة في أوكرانيا إثر اجتياح روسيا لأراضيها، وتتوقع رؤية اختبارات عملية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي هناك.
الحكومة الأوكرانية اعترفت بنشر طائرات بيرقدار تي بي 2 مسيّرة اشترتها من تركيا في مطلع عام 2019. ولا تزال بعض الطائرات المسيرة المقاتلة من هذا الطراز تُستخدم ضد القوات الروسية، وفقًا لوزارة الدفاع الأوكرانية. وهذا ما يؤكده اعتراف سابق صادر عن السلطات في جمهورية لوغانسك التي اعترف بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرًا إلى جانب جمهورية دونيتسك؛ حيث اعترفت في تويتر بأنها أسقطت طائرتين مسيرتين من طراز بيرقدار بالقرب من شاستيا.
وكانت تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي وشريكتها على البحر الأسود أوكرانيا قد اتفقتا في وقت سابق من هذا الشهر على إنتاج مشترك لطائرة مسيرة تركية الصنع في منشأة تصنيع أوكرانية.
وفي عام 2019 حصلت شركة بايكار، وهي شركة تركية خاصة لتصنيع الطائرات المسيرة، على عقد لتسليم ست طائرات مسيرة من طراز بيرقدار إلى أوكرانيا. وشملت الصفقة البالغة 69 مليون دولار أيضًا بيع ذخيرة للطائرة.
وكانت الحكومة الأوكرانية قد أعلنت في سبتمبر الماضي أنها ستشتري 24 طائرة مقاتلة تركية أخرى مسيرة في الأشهر التالية. وأثار استخدام الطائرات التركية المسيرة إدانة شديدة من موسكو، حيث احتج بوتين في مكالمة هاتفية مع أردوغان في ديسمبر الماضي على انخراط أنقرة في عمل وصفه بالـ”استفزازي” والـ”هدام”.
رغم ذلك لا تخلو الأسلحة الذكية المستقلة من الفوائد؛ إذ يمكن باستخدامها إنقاذ حياة الجنود ومساعدتهم على استهداف المقاتلين فقط، وتجنب قتل القوات الصديقة والأطفال والمدنيين عن طريق الخطأ. هذا إلى جانب استخدامها بشكل دفاعي ضد القتلة والجناة.
لكن من منطلق أخلاقي الجوانب السلبية تفوق بكثير الفوائد، خاصة أن معظم التيارات الأخلاقية والأديان تتشارك في إدانة إعدام البشر وسلبهم حياتهم وتعتبر ذلك عملا غير مقبول، وفي أكثر الحالات تساهلا ترى أنه يتطلب تبريرًا وتدقيقًا قويين، وهو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى القول “إن احتمال وجود آلات تتمتع بحرية التصرف والقدرة على قتل الإنسان أمر بغيض أخلاقيا”.
ولكن متى كانت الحروب أخلاقية، خاصة من وجهة نظر المعتدي؛ وحده المعتدى عليه يركز على الجانب الأخلاقي.
في عام 2015 نشر معهد “مستقبل الحياة” رسالة مفتوحة حول أسلحة الذكاء الاصطناعي، حذر فيها من أن “سباق التسلح العالمي أمر لا مفر منه”.
وتؤكد الرسالة أن “هذه الديناميكية التصعيدية المتسارعة في تبني الأسلحة الذكية المستقلة، تذكر بتجارب مألوفة لم تمح بعد من ذاكرة البشرية، من سباق التسلح البحري الأنجلو – ألماني إلى سباق التسلح النووي السوفييتي – الأميركي. لطالما حاربت الدول القوية من أجل التفوق العسكري. تقدم الأسلحة المستقلة خيارات عديدة للفوز (الأصغر، والأسرع، والأكثر سرية، والأكثر فتكًا.. وما إلى ذلك).
كما أن السعي وراء القوة العسكرية من خلال الأسلحة المستقلة أقل كلفة أيضًا، مما يسهل الانزلاق إلى مثل هذه الصراعات العالمية؛ دخلت دول صغيرة تمتلك تقنيات متطورة، مثل إسرائيل، السباق بتطويرها روبوتات عسكرية، بعضها صغير بحجم ذبابة. لا شيء يمنع اليوم العدو من صنع أسلحة ذكية مستقلة؛ دائرة مغلقة تغري الجميع للدخول في المنافسة”.
وهذا السباق المشار إليه يؤكده قول بوتين عام 2017 “من يمتلك تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم”.
لعب عيال
رغم ذلك قد تتمكن دول العالم من وضع ضوابط صارمة على استخدام الأسلحة الذكية؛ في السابق نجحت في وضع ضوابط على الأسلحة النووية، بعد أن اكتشفت قوتها التدميرية في مدينتي هيروشيما وناغازاكي، وبوسعها أن تنجح اليوم أيضا.
ولكن ماذا عن الإرهاب؟ السلاح النووي لا تستطيع تطويره وامتلاكه واستخدامه سوى الدول، بينما الأسلحة الفتاكة الذكية هي من البساطة بحيث تكاد تتحول إلى “لعب عيال”.
المخاوف حقيقية، وهذا ما يفسر الإقبال الكبير على المشاركة في أول معرض دولي للدفاع نظمته المملكة العربية السعودية واختتمت أعماله الأربعاء؛ حيث حظيت أنظمة مكافحة هجمات الطائرات المسيرة باهتمام كبير، وبمشاركة 600 هيئة مختصة في الصناعات العسكرية.
تحدثنا بداية عن طائرات مدنية قادها انتحاريون استهدفوا برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومبنى البنتاغون في واشنطن، لنتخيل لو أن الدرون المستقل القاتل كان حينها موجودا، وأن الإرهابيين استخدموا سربا من ألف درون، بدلا من طائرات مدنية عملاقة لمهاجمة سكان مدينة نيويورك في وقت الذروة.. أي مجزرة كانت ستحصل؟
من هذا المنظور قد يصبح الإرهاب أكبر مستفيد من السلاح القاتل المستقل، فليس سهلا دائما على المجموعات الإرهابية أن تجد أشخاصا مستعدين لتقديم حياتهم نصرة لقضية مهما بلغت درجة قناعاتهم بها. بوجود السلاح الذكي القاتل المستقل لا حاجة إلى الانتحاريين.
صحيح أن العالم لن يواجه ثورة تقودها الروبوتات ضد البشر. ولكن لا شيء يضمن عدم وقوع الأسلحة الذكية المستقلة في أيدي الناس الخطأ.
هل العالم مستعد لمواجهة مثل هذا الكابوس؟
علي قاسم – العرب
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.