صورة انتشرت عبر العالم، تلك التي تُظهر جِزَمًا عسكرية يُفترض أن الجنود المصريين تركوها وراءهم في سيناء خلال حرب يونيو/حزيران 1967، لأنّها كانت تعيق حركتهم في الهرب. غذّت هذه الصورة مخيالاً غربياً يجزم بأنّ الجيوش العربية غير ناجعة وأن جنودها متخاذلون. بيد أنه يتعين تجاوز النقد المتداول، أو بالأحرى السخرية القائلة إنّ للجندي العربي قيمة قتالية رديئة بشكل شبه متأصل فيه. إذ لا خلاف حول القيمة العسكرية لمقاتلي الثورة العربية على العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، ثمّ لاحقاً لبطولة الجنود المغاربيين ضمن قوة التدخل السريع الفرنسية في إيطاليا (حيث كانوا يشكلون 65% من العديد) في عامي 1943 و1944، وهذان مثالان كافيان لتفنيد تلك الصورة غير المجزية. ولطالما اعترف الجيش الفرنسي في وقت لاحق بالقدرة القتالية للمجاهدين في حرب استقلال الجزائر (ومن بينهم عدد من قدامى الرماة في 1943-1944). وأخيراً، شكّل عبور الجيش المصري قناة السويس في أكتوبر/تشرين الأول 1973 عملاً بطولياً شجاعاً لا جدال فيه.
التذكير بهذه المحطات لا ينفي أنّ التنظيمات العسكرية العربية المعاصرة قد أخفقت في مناسبات عدة، مثلما كان الحال بالنسبة للجيوش المصرية والسورية والأردنية خلال حروب 1948 و1967 و1973، والجيش العراقي خلال “حرب تحرير الكويت” في 1990 و1991 ثم خلال غزو العراق في عام 2003. جيوش أخرى، أقل أهمية، عرفت أيضاً تدميراً كاملاً (مثل الجيش الليبي في 2011) أو نكسات كبيرة (وهو حال جيوش دول الخليج ضدّ الحوثيين في اليمن).
لفهم الأسباب، من الضروري سوق ملاحظة أولية، وهي أن الجيوش العربية هي الوحيدة -من بين جميع الجيوش الكبيرة للبلدان المستعمَرة سابقاً- التي اضطرت إلى مواجهة الجيوش الغربية (بما في ذلك الجيوش الإسرائيلية) في صراعات طاحنة1. في المقابل، عندما واجهت القوات العراقية جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية الفتية في حرب شاملة من 1980 إلى 1988، لم تنهار وانتهى الصراع إلى طريق مسدود عسكرياً.
من أين تأتي إذن نقائص ونقاط الضعف الحقيقية للجيوش العربية؟
نموذج متقادم
إن تركيبة الجيوش العربية مستوحاة من النماذج الموروثة عن الاحتلال (بالنسبة للمغرب، تونس، الأردن، دول الخليج) أو النموذج السوفياتي (بالنسبة للجزائر، ليبيا في عهد معمر القذافي، مصر، سوريا، العراق) أو تلك المتأثرة بالنموذج الأمريكي (المملكة العربية السعودية)، ما يجعلها غالباً متقادمة، وأحياناً تجاوزت الحجم اللازم (كما هو حال مصر). في جميع الحالات فهي غير ملائمة للمهام الموكلة بها. إلا أنّ هذه النماذج لا تزال مستمرة لأنّ “استعراض الدروس المستفادة” من الصراعات الأخيرة أمر قليل الحدوث. في الواقع، يعاني التفكير الاستراتيجي من الرقابة الذاتية للضباط الشباب الذين لا يرغبون في نقاش الإدارة العليا خوفاً على مسارهم المهني، لتبقى الأخيرة حبيسة قناعات دغمائية متوارثة من صراعات بعيدة -كما هي حال الجيش المصري وتعلّقه العقائدي بـ“نصر أكتوبر” (1973). كذلك، يمتنع الموظفون السامون الذي يقومون بتدريبات في بلدان أوروبية أو في الولايات المتحدة الأمريكية في أغلب الأحيان عن اقتراح طرق جديدة أو عصرية للعمل الحربي (من خلال مقالات في المجلات المختصة مثلاً). كما أنّ ضعف مستوى اللغة الإنكليزية عند الإدارة العليا لا يساعد على اطلاع معمق على تطور النظريات التي تنشر في غالباً بهذه اللغة.
“دولة داخل الدولة”
في معظم هذه البلدان، تتجاوز رؤية القوات المسلحة لنفسها إطار الدفاع عن الأراضي الوطنية أو المصالح الحيوية للبلاد بالمعنى الدقيق للكلمة. وعدا استثناءات نادرة (تونس ولبنان)، فإنها تمثل مؤسسة لها وزن كبير لا يمكن لعمل الدولة تجاوزه، إلى حد اعتبارها “دولة داخل الدولة” وإن كانت نادراً ما تشارك في الحياة السياسية الوطنية.
قليلة جداً هي الدول العربية التي لا يأتي قادتها من صفوف المؤسسة العسكرية. ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة حتى في دول الخليج حيث ينحدر هؤلاء من عائلات مالكة. لا شك أنّ عدداً من الأمراء والشيوخ يحملون رتباً ويرتدون بزات رسمية فخرياً، لكن يوجد عدد كبير من الأمثلة خلاف ذلك. فقد قاد أمير قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، بعد تخرجه من الأكاديمية الملكية لساندهيرست، لواءً متحركاً انخرط بنجاح في المعارك ضد العراقيين سنة 1991، قبل أن يصبح قائد أركان جيش البر ثم قائداً عاماً للقوات المسلحة. أما ولي العهد الإماراتي الحالي، محمد بن زايد، فقد درس هو الآخر في ساندهيرست وتدرب كقائد فصيلة مدرعة ومظلي وقائد مروحيات.
كنتيجة لذلك، أصبحت هذه الجيوش رهانًا من رهانات السلطة، كما يمكن أن تتحول إلى دوائر مغلقة تتولد فيها منافسات بين قادة أو مجموعات تقوم بتطوير هياكل عسكرية لمصلحتها فحسب، من أجل توسيع تأثيرها، وذلك على حساب النجاعة. وثمة أمثلة عديدة على ذلك، كالأمن العسكري الجزائري وتطوراته، وسلاح الجو المصري في عهد حسني مبارك (الذي كان ينتمي إلى هذه الفرقة)، والقوات الخاصة الأردنية، والحرس الجمهوري السوري، والحرس الجمهوري العراقي في عهد صدام حسين، والحرس الوطني السعودي، والحرس الرئاسي الإماراتي، إلخ. تقوّض التوترات الداخلية والغيرة من وحدات أكثر تجهيزاً والمشاحنات بين القادة فعالية الجهاز العسكري وإن كانت غير معروفة لدى عامة الناس. كما تمثل العشائرية والقبلية ظاهرتان يمكن ملاحظتهما بسهولة، وتؤديان إلى شروخ بالغة في بعض الأحيان (كعشائرية الجنرالات المنحدرين من شرق البلاد في الجيش الجزائري، والعلويون في القيادة العليا السورية، والقبلية في قطر والإمارات، إلخ.).
إمكانيات مادية وبشرية غير كافية
في غياب تهديد عسكري خارجي، تلجأ السلطة السياسية إلى القوات المسلحة من أجل الحفاظ على النظام أو من أجل استعادته (وهو الحال بالنسبة للجزائر وسوريا). نتيجة لهذا، تحيد الإدارة والوحدات عن مهمتها، وتفقد شيئاً فشيئاً قدرتها على القتال الكلاسيكي، وهي ملاحظة قد تنطبق أيضاً على إسرائيل (وربما أيضاً على فرنسا بسبب مهمات “سونتينال” أو“فيجيبيرات” للحراسة). يمكن أيضاً أن تُحوّل الاستعلامات الحربية لأغراض السيطرة السياسية والمراقبة بين المجموعات المتعارضة، وأن تفقد بالتالي سريعاً قدراً كبيراً من وجاهتها العملياتية (الجزائر وسوريا).
كثيراً ما يكون للأجهزة العسكرية وزن اقتصادي كبير. ويُعتبر الجيش المصري المثال الأكثر وضوحاً على ذلك وهو يشكل نموذجاً لبلدان أخرى (لاسيما سوريا والجزائر والعراق وحتى الإمارات). يمتلك هذا الجيش جهازا صناعياً وتجارياً وازناً في الاقتصاد الوطني، ويتمتع علاوة على ذلك بوزارة “للإنتاج الصناعي العسكري” منفصلة عن هيئة الأركان العامة، وغالباً ما تكون معارضة لها. ومن هذا المنطلق، يتم تحويل أعداد كبيرة من الأفراد (المجندين على وجه الخصوص) من مهمة الاستعداد القتالي إلى الخدمة كعمال ورجال إطفاء وخبازين ومصنعين للأواني والغسالات، إلخ. تتكون إدارة هذا الجهاز الصناعي من ضباط بمرتبات متواضعة، لكنهم يجدون في هذه الوظائف امتيازات مغرية. نتيجة لذلك، تجذب هذه الوظائف العناصر الأفضل، أكثر مما يفعله مسار التدرج في الرتب في قيادة أركان أو في وحدات قتالية كبرى. بالإضافة إلى الفساد الذي ينخر الأجهزة العسكرية والذي لا يستثني أي بلد.
لا يستجيب البحث عن المعدات والتسلح لدى الدول الأجنبية كما ينبغي للحاجيات الحقيقية لهذه الجيوش. سواء كانت السلطة السياسية تسعى لاكتساب رضى حليف قوي أو أن تحظى بحمايته (كما هو الحال بالنسبة لدول الخليج مع الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والمملكة المتحدة، أو مصر مع الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا)، أو أن العقود السابقة مع المزودين هي فرصة للربح من تحت الطاولة لقائد أو فريق ما، فإنّ النتيجة واحدة، وهي أن تجد الوحدات نفسها مضطرة إلى إدارة جهود كبيرة لتكوين الأفراد وإدماج هذه الأسلحة بصعوبة مع مجموعة من الوسائل القائمة، بالإضافة دائماً إلى غياب الإمكانات على المدى الطويل من أجل استدامة صيانة النظم الجديدة ولوجستياتها.
يتوجب على الجيوش الاكتفاء في التجنيد بموارد بشرية ذات مستوى تعليمي منخفض، وحتى منخفض جداً، مع وجود أرقام مرتفعة جداً للأمية (في المغرب ومصر على وجه الخصوص). أما في البلدان التي يكون فيها المستوى التعليمي للعسكريين أفضل قليلاً (الجزائر، تونس، الأردن، سوريا)، تبقى هذه الموارد غير ملائمة لتفعيل معدات حديثة. وأما بالنسبة إلى جيوش الخليج، فهي تستخدم إلى الآن عدداً كبيراً من الجنود المتأتية من دول إسلامية أخرى (باكستان، عمان، اليمن)، ما يطرح مشاكل انسجام وحماسة في العمل، وحتى على صعيد الولاء. ورغم كون صورة الجندي في أوساط الشعوب العربية تحظى بالتقدير، إلاّ أن التجنيد الإجباري لا يزال يخاض كتجربة عسيرة. والنهج العام المتبع في التعامل معه هو الخضوع للأمر الواقع “في انتظار أن يمر”.
إنه استنتاج عام تقريباً (يشمل بدرجة أقل الجيوش المغربية والتونسية واللبنانية والأردنية). والثغرة الأبرز هي بلا شك غياب وحدة قوية من ضباط الصف، وهي الدعامة الأساسية أو “عناصر التحكم” لجيش فعال. قد تعود هذه الثغرة إلى سببين أصليين: بالنسبة إلى الجيوش المستوحاة من النموذج السوفياتي، فقد استعادت تقليد الجيش الروسي في اعتبار ضابط الصف جندياً مطوّراً، أو أحياناً تقنياً مبتدئاً، لكن لا يتم اعتباره بأي حال جسر قيادة للضباط كما هي الحال بالنسبة إلى الجيوش الغربية. وبالنسبة إلى جيوش دول الخليج، فإنّ غياب وحدة ضباط صف جديرة بهذا الاسم تعود إلى أنّ هذه الرتب المتواضعة لا تغري المواطنين (مدني قطري أو إماراتي يكسب أكثر من قضاء يومه دون عمل من أن يتولى مجموعة قتالية كرقيب)، وهي غالباً موكلة إلى أجانب لا يحظون بالثقة الكاملة.
وفي غياب وحدة ضباط صف حقيقية فإنّ مهامها تعود منطقياً إلى الضباط المبتدئين. لكنهم غالباً ما ينفرون منها. وبالتالي فإنّ الفرقة كثيراً ما تبقى بعيدة عن القيادة التي تنتظر منها تنفيذ أوامر دون تذمر. من ناحية أخرى، نادراً ما يعطي ضباط الصف مثالاً يحتذى (إلا في قلب المعارك، دون شك)، ما يسيء لتلاحم المجموعة. وهذه تحديداً هي حالة جيوش دول الخليج، حيث تؤدي ظروف الحياة المرفهة والأجور السخية إلى تأثير لا شك فيه على صلابة العناصر.
تكوين وتدريب غير كافيين
إن تكوين المقاتلين رديء بسبب ضعف الإمكانات (ذخيرة تمرين، إدارة ملائمة، مراكز تدريب، إلخ.). ويتم التغطية على هذا “البؤس” بالإكثار كرة تلو الأخرى من تمارين الاستعراض من أجل تقديم فرقة بهية الطلعة خلال الاحتفالات والمواكب. نادرة هي المناورات الكبيرة، إذ يتم الاكتفاء بـ“العروض” الكبيرة في الزيارات الرسمية، والتي لا تعدو أن تكون مسرحية لقدرة قتالية غير متقنة.
يعاني تكوين العناصر الأعلى رتبة من درجة أقل من الإهمال من تكوين الفرقة. غير أنّ التعليم يرتكز غالباً على طرق تجاوزها الزمن حيث يكون فيها للحفظ عن ظهر قلب مكان أكبر من المرونة الذهنية. وهكذا، فإنّ طرق التعليم في مدارس عدة تبقى كما هي، ونادراً ما يتم تغيير مواضيع الامتحانات، حيث يتناقل الطلبة في كل دفعة حلول الامتحانات من سنة إلى أخرى.. وأخيراً، فإنّه يُنظر إلى التدريبات في البلدان الغربية كفرص لتحسين المعيشة من خلال مصاريف التدريب السخية في الخارج، أكثر من كونها انفتاحاً على مفاهيم عسكرية مثيرة للاهتمام. تعظيم السر الحربي الملازم للجيوش العربية والمستوحى من العقيدة السوفياتية (التي انتشرت في دول الخليج)، والحذر وأحيانأ ازدراء الأجنبي (خاصة عندما يكون “أخاً عربياً” أو من المسلمين)، ونوع من الكسل الذهني فيما يخص تطوير الإطار النظري، كلها أسباب تجعل الجيوش العربية تواجه صعوبات كبيرة في العمل ضمن تحالف ما. وقد شكّلت الحروب الإسرائيلية-العربية دليلاً محزناً على هذا، كما أنّ القوة العسكرية المشتركة لدول الخليج العربي، “درع الجزيرة”، شكلت دليلاً آخر حيث لا ترغب القيادات العسكرية لكل مملكة في التنسيق.
يمثل التدريب في الخارج غالباً مكافأة لا يحظى بها دائماً العناصر الأكثر كفاءة. أما في ما يخص التدريبات التي تعطى في الدول نفسها من قبل مدربين غربيين، فإنّ هؤلاء كثيراً ما يواجهون صعوبات كبيرة لتقديم جودة تعليم مماثلة لتلك التي يقدمونها لجيوشهم. في الواقع، فإنّ الطاقم الذي يتعين تدريبه لا يكون بالمستوى الأساسي المطلوب لتلقي التدريب. كذلك، يتم تكييف التدريبات التي تتطلب مجهوداً جسدياً فردياً ومطولاً بطريقة دورية، وفقاً لرغبة المتدربين والضباط. أخيراً، بالنسبة للجيوش الغربية المعنية، تهدف أعمال الشراكة هذه أولاً إلى ترك انطباع جيد لدى الجيش المعني عن الدولة الحليفة، وذلك لأسباب سياسية وبهدف بيعها أسلحة في المستقبل. وبالتالي، فإنّ إرضاء العميل المستقبلي المحتمل يتقدم على نجاعة التدريب.
هذه الثغرات إذن ليست حكراً على جيش دون غيره. يمكننا أن نستنتج من ذلك أن عدم نجاعة الجيوش العربية هي أساساً عدم نجاعة جيوش دول في طور النمو، وتكمن الخصوصية في كون الجيوش العربية عرفت حروباً طاحنة في مواجهة جيوش هي الأقوى في العالم.
جوزيه أرمانجات
متخصص في الشأن العسكري.
أوريان 21
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.