لخص الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في مقطع من قصيدته أوراق الزيتون “لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعاً، وأضيف، ربما دماً؛ جدلية العلاقة بين الإنسان الفلسطيني وشجرة الزيتون، التي ترمز إلى كينونته وتجذُّر وجوده على هذه الأرض، وتفسر العداء المستبطن للمستوطنين الغرباء لهذه الشجرة الدهرية المعمرة مع تكرار كل موسم في شهر تشرين، حين تتصاعد اعتداءات المستوطنين على الفلاحين الفلسطينيين في أثناء موسم قطاف الزيتون، وعلى الرغم من الاستحواذ على ملايين الأشجار داخل الخط الأخضر بعد النكبة، تتجدد هذه الشجرة سنوياً بهمة الفلاح الفلسطيني، لتصل إلى ما يزيد عن 12 مليون شجرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 . واكتسبت هذه الشجرة معاني عميقة في التراث الفلسطيني، فهي الشجرة المباركة والمقدسة في العقائد الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية، ورمز للخلود والبقاء في ورقة الزيتون التي حملتها اليمامة بمنقارها في قصة الطوفان، وارتبطت أحداث صعود السيد المسيح بجبل الزيتون في القدس، وجاء في القرآن الكريم القسم العظيم “والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين”، وأصبحت شجرة الزيتون رمزاً للأمن والسلام، وفي أثناء خطاب رئيس منظمة التحرير في الأمم المتحدة قال “لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي”، انطلاقاً من عقيدة أن فلسطين أرض السلام، على الرغم من أنها تحولت بفعل الإرهاب الصهيوني إلى عنوان للسلام المفقود.
تشكل شجرة الزيتون معضلة في العقل الكولونيالي الصهيوني، تتراوح ما بين التوق إلى الاستحواذ والاقتلاع، فقد أقدم الكيان الصهيوني ومستوطنوه على قطع ما يزيد عن مليون شجرة زيتون منذ سنة 1967، وعاث الاحتلال في حقول الزيتون قطعاً واقتلاعاً في أثناء شق الطرق الالتفافية وبناء المستوطنات، وكانت عملية بناء جدار الفصل العنصري أكبر عمليات التدمير التي طالت المشهد الثقافي الفلسطيني، وشجرة الزيتون على وجه الخصوص، ومن جهة، يسعى الكيان للاستحواذ على الشجرة وروايتها، وبعد النكبة قدّم الكيان الصهيوني لمنظمة اليونسكو شجرة زيتون معمرة مجتثة من فلسطين، لزراعتها في باحة اليونسكو، لتكون شاهداً على غياب العدالة في هذه المنظمة الدولية التي قامت على فكرة إحلال العدالة بعد الحرب العالمية الثانية. ولا شك في أن عمر هذه الشجرة كان سابقاً لعمر الكيان الصهيوني الذي تأسس على أرض فلسطين المغتصَبة عام النكبة 1948، وسابقاً أيضاً لتأسيس منظمة اليونسكو نفسها. ويقدم أحد المطاعم الإسرائيلية في النقب الزيتون والزعتر كوجبة توراتية، ويجري زرع شجرة الزيتون المقتلَعة من حقول الزيتون على مداخل المستوطنات، كما هي الحال عند مدخل مستوطنة “معاليه أدوميم” المقامة على أرض طلعة الدم على أراضي العيزرية. وفي مشهد يبعث على الرثاء، قدم وزير الدفاع الصهيوني بني غانتس، وهو ابن عائلة يهودية مهاجرة، قنينة زيت زيتون كهدية للرئيس الفلسطيني محمود عباس، المهجّر من صفد، في أثناء لقاء بينهما، في محاولة لتبادل الأدوار النفسية التاريخية بين الدخيل وصاحب البيت.
يمتد تاريخ شجرة الزيتون إلى نحو خمسة آلاف عام، حين دجّنها الكنعانيون في بداية العصر البرونزي، ودلت نتائج التنقيبات الأثرية والمصادر التاريخية على انتشار زراعة الزيتون وعصره في كافة أرجاء فلسطين. وقد تم تصوير مشاهد القطاف والعصر في السجلات الأثرية القديمة، وظهر مشهد القطاف على جرة فخار من القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان، وعلى أرضيات فسيفساء من الفترة الرومانية، وانتشرت معاصر الزيت الحجرية في القرى الفلسطينية، لاستخلاص الزيت بطرق مختلفة؛ منها العصر بحجر البدودة، للإيفاء بالحاجات العاجلة في بداية موسم القطاف، أو في نظام البد، الذي مثّل نقلة كبرى في تاريخ عصر الزيتون منذ الفترة الرومانية، والذي مكّن من استخدام القوة الآلية للدواب والإنسان في تدوير الحجر وعملية العصر بكفاءة، واستمر في المعاصر التقليدية الفلسطينية حتى بداية القرن الماضي، إلى حين استبداله بالمعاصر الآلية، ويتكون البد من حجر مستدير مثقوب في وسطه يسمى حجر الدراس، يدور على حافة حجر أفقي يسمى القصعة، بعد ذلك يجري كبس الزيتون المهروس باستخدام مكبس حجري أو معدني لاستخلاص الزيت وفصله عن الجفت. ثم تخزينه في جرار فخارية. وكانت جرار الزيت المستخدمة في التبادلات التجارية ذات سعة معيارية معينة، وتتراوح سعتها ما بين 22.5 إلى23 كلغ.
وتُعتبر شجرة الزيتون شجرة معمرة ودائمة الخضرة، وغالباً ما يشار إليها أحياناً في القرى الفلسطينية بشجر زيتون روماني للتدليل على قِدمها. ودلت فحصوصات قياس العمر قامت بها مؤسسات بحث إيطالية على عينات من أشجار الزيتون القديمة في بستان السيد المسيح في كنيسة الجثمانية في القدس، بأن تاريخها يعود إلى القرن العاشر والحادي عشر الميلادي، وجدير بالذكر أن اسم الجثمانية مشتق من السريانية، ويعني معصرة الزيتون على السفح الغربي لجبل الزيتون. ويُعتقد أن شجرة الشيخ أحمد البدوي في قرية الولجة، غربي بيت لحم، تعود إلى فترة قديمة أيضاً. ومن الأنواع الشائعة في فلسطين، البرّي والنبالي والحواري والملصي والصرحي والشامي والذكاري. وتتفاوت هذه الأنواع من حيث جودتها ونسبة الزيت الذي تطرحه، وتتفاوت نسبة العصر، بحسب النوع والموسم، كما تتفاوت نسبة إنتاج السنة من موسم إلى آخر، لذلك، يسمي الفلاح السنة الخصبة “ماسية” والسنة ذات الإنتاج الضعيف “شلتوني”. ويتراوح إنتاج الزيت سنوياً في الأراضي الفلسطينية ما بين 20 و22 ألف طن، بحسب تقديرات مجلس الزيت الفلسطيني.
ويتزامن موسم زراعتها مع بداية شهر كانون الأول/ديسمبر، وفي منتصف شهر آذار/مارس، تبدأ الشجرة بتكوين بدايات البراعم الزهرية فيما يعرف بـ”التلسين”، يعقبها تدوير البراعم الزهرية مع ارتفاع حرارة الربيع، تمهيداً لعملية الإزهار “التفتح”، ثم تتفتح البراعم الزهرية على شكل أزهار بيضاء صغيرة، أما “عقد” الثمار فيتم في شهر أيار/مايو، وهي الفترة الحساسة التي يكون فيها الثمر عرضةً لعوامل الطقس، وهو ما يدفع الفلاح إلى التضرع إلى الله بالدعاء “يا ربي ندى وسموم عند عقدك يا زيتون”. ويتنبأ الفلاح بغزارة الموسم من خلال بعض المؤشرات، “إن أزهر بآذار جهزوله الجرار”، أي الأواني الكبيرة، وإن “حسم الزيتون في الخميس، أي في شهر نيسان/أبريل، جهزوا له المغاطيس، أي الأواني الصغيرة. وتُعتبر هذه المحطات جزءًاً من التقويم الفلاحي الفلسطيني الذي نشأ عبر آلاف السنين من خلال مراقبة الإنسان للطبيعة.
أما موسم قطاف الزيتون “الجداد” فهو موسم احتفالي سنوي في فلسطين، وتطرح شجرة الزيتون بعض ثمارها في نهاية شهر أيلول/سبتمبر، بحسب القول “في أيلول بدور الزيت بالزيتون”، وتنضج الثمار في شهر تشرين الأول/أكتوبر، إذ ترتفع نسبة الزيت. ويقوم أصحاب المعاصر في هذه الآونة بتحضير معاصرهم لاستقبال ثمار الزيتون لعصرها. ويبدأ موسم قطاف الزيتون في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، وينطلق فيه معظم أفراد الأسرة إلى حقول الزيتون، وكانت بدايات القطاف تُعرف بـ “الطلقة”، وتتم عبر تفاهُم أهل القرية للبدء في منطقة معينة، لما يتطلبه من عمل جماعي، وضرورة تنظيم العمل بحسب المنطقة، حفاظاً على المحصول، وكان تقليد التعاون فيما يعرف بـ “العونة” مرتبطاً بهذا الموسم. تجري عملية القطاف باليد، أو باستخدام عصا تسمى “الجدادة” و”العبية” و”الشاروط” و”الطوالة”، وهي طريقة قديمة مضرة، تُلحق الأذى بالأغصان الصغيرة، وفي الوقت الحاضر، يجري القطاف أيضاً باستخدام أدوات قطاف ميكانيكية بدأت تدخل في الأسواق مُعدّة لهذا الغرض.
ارتبط هذا الموسم بأغنيات موسمية في أثناء عملية القطاف، وما يواكبها من جمع الثمار وفصل الأغصان
الصغيرة عن الثمر، ونقلها على الدواب إلى البيت أو المعصرة. وكان الخير الوفير لهذه الشجرة يوفر مدخراً للعائلة ومصدراً اقتصادياً لمصاريف الزواج وبناء البيت. وكانت حقول الزيتون والأعمال المرتبطة بها في أثناء الحراثة والتقليم ومواسم القطاف مسرحاً للسمر والتسرية والأغاني وقصص الحب كما جاء في الأغاني الشعبية الفلسطينية التي توثّق بعض هذه العمليات، ومنها “يا زيتون الحواري” التي غنتها الفنانة المبدعة دلال أبو آمنة.
يا زيتون الحواري صبح جدادك ساري
يا زيت اقلب ليمون اقلب مسخن في الطابون
بجدك بالجدادة وبدرسك في البدادة
والمليص زيته طيب أم القاطة بغلب
حجر ماكنتنا دار يا صبايا هاتن جرار
تشكل شجرة الزيتون أحد أعمدة الاقتصاد الزراعي في فلسطين، وهي مصدر غذاء ودواء وتدفئة، وكان الزيت سلعة في التبادل الاقتصادي، ومقياس ثروة، وقد صُدِّر زيت فلسطين في الماضي إلى الدول المجاورة، ويُعتبر الزيت مادة غذاء رئيسية في فلسطين، ويتم تناوله مع الخبز والزعتر على مائدة الإفطار، ويُستخدم مادة للطبخ والقلي، ويدخل في إعداد مجموعة كبيرة من الوجبات، أشهرها “المسخّن” في شمال فلسطين، و”الملاتيت” وأصناف المعجنات المختلفة، ويُحفَظ حبّ الزيتون كنوع من المكبوس “الرصيص”. كما استُخدم الزيت كمادة رئيسية للإضاءة، واكتشف الإنسان مزايا الزيت الطبية، واستخدم خشب الزيتون والمادة الناتجة من عملية العصر، وهي الجفت، كمادة للوقود والتدفئة. هذا إلى جانب استخدامات خشب الزيتون أيضاً كمادة رئيسية في صناعة الصابون والتحف التقليدية في منطقة بيت لحم. كما استُخدم زيت الزيتون في الماضي في الطقوس الدينية. وتقدم شجرة الزيتون الظل الذي يتفيأ به الإنسان في الجو القائظ.
عبّرت الأمثال الشعبية عن هذه العلاقة الحميمة بين الإنسان وشجرة الزيتون بالقول” الزيت عمار البيت”، و”كُل زيت وانطح الحيط”، و”الخبز والزيت سبعين في البيت”. وتكتسب شجرة الزيتون مكانة محورية في الوعي الفلسطيني، وترتبط بالعديد من المواقف الحياتية، كما تعبّر عن ذلك الأمثال: “خلّي الزيت في جراره تتيجي أسعاره”، و”ما حد بيقول عن زيته عكر”، و”زيتنا في دقيقنا”، و”أيام الزيت صبّحت مسّيت”، وعن الزيت الطيب “من “الشجر للحجر”، وقصة إبريق الزيت التراثية.
نسج الفلاح الفلسطيني علاقة عاطفية خاصة مع هذه الشجرة عبر الأجيال، إلى حد تبادُل الحديث معها، ويتجلى ذلك في حوار هذه الشجرة، المحبة والفَطنة، مع الفلاح بالقول “ابعد اختي عني وخذ زيتها مني”، في إشارة إلى أصول زراعة الزيتون، بضرورة ترك مسافة مناسبة بين الأشجار، وأيضاً بقولها “قنبني ولا تحرثني”، وهي تحث الفلاح الكسول على تقليمها إذا تعذّرت عليه حراثة الأرض.
وفي سنة 2005، تم وضع شجرة الزيتون على اللائحة الوطنية لمواقع التراث العالمي ذات القيمة العالمية المتميزة ضمن موضوع “فلسطين أرض الزيتون والكرمة”، لأن هذه الشجرة تشكل جزءاً مهماً من المشهد الثقافي والبصري في فلسطين، وهي الحقول الممتدة على مساحات واسعة ما بين الخليل وجنين، والتي حفظت في أسماء عشرات البلدات والقرى مثل، بيرزيت، وزيتا، وطور زيتا، وجبل الزيتون. وأسماء الأشخاص والعائلات التي تحمل اسم زيتون والزيات والبداد، وأسماء معاصر الزيت، وبذلك تمتلك شجرة الزيتون، بما تمثله من تراث مادي وغير مادي، كل المقومات في إدراجها على لائحة التراث العالمي كجزء من التراث الثقافي للشعب الفلسطيني.
المصادر
الجابي، فارس. “قطاع الزيتون في فلسطين”. رام الله: اتحاد الجمعيات التعاونية الزراعية في فلسطين، 2006.
السومي، ناصر. “فلسطين وشجرة الزيتون: تاريخ من الشغف”. بيروت: دار النهار للنشر، 2011. ترجمه من الفرنسية هيثم الأمين.
الناشف، خالد. “معاصر الزيتون في فلسطين”. إربد: جامعة اليرموك، 2009، ص 24-52.
طه، حمدان. “عصر الزبتون في بيت جالا”. رام الله: دليل التعليم خارج غرفة الصف في رحاب بيت لحم، مركز تطور المعلم، المورد، 1997، ص 1-8.
طه، حمدان(تحرير)، قائمة مواقع التراث الثقافي والطبيعي ذات القيمة العالمية المتميزة في فلسطين، وزارة السياحة والاثار، دار الناشر (الطبعة الثانية)، 2009: 49-53.
مصطفى، نادية. “شجرة الزيتون في القلب والوجدان الفلسطيني”. مجلة “آفاق البيئة والتنمية” الإلكترونية، تصدر عن مركز العمل التنموي معاً، تشرين الثاني/نوفمبر، 2016، العدد 89، ص 1-11.
Destruction of Palestinian olive trees is a monstrous crime
Doumani, B. “Rediscovering Palestine: Merchants and Peasants in Jabal Nablus, 1700– 1900”. California: University of California Press, 1995.
Rosenblum, M. “Olives: The Life and Lore of A Noble Fruit”. New York: Macmillan, 1996.
Sharkawi, M. “Iron Screw Presses With Manual Activation of the 19th Century As an Object of Heritage, in the Context of the Palestinian Cultural Heritage”. Doctoral dissertation. Nancy: University of Lorraine, 2018.
Taxel, I. “The Olive Oil Economy of Byzantine and Early Islamic Palestine: Some Critical Notes.” Liber Annuus, Vol. 63 (2013). pp. 361-394.
حمدان طه – مؤسسة الدراسات الفلسطينية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.