احتجاجات 17 تشرين 2019: أزماتها وتأثيرها على الوضع الاقتصادي والأمني والسياسي في لبنان

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

مصطفى عواضة – خاص الناشر

مقدمة

يرزح لبنان منذ 17 تشرين الاول 2019 تحت مروحة من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والتي تشكل امتدادًا لتداعيات بعضها البعض. وهنا لا بد من الإضاءة على التحركات التي انطلقت منذ ذلك التاريخ تحت لوغو (قبضة الثورة) وشعار “كلن يعني كلن”، والتي سُمِّيت بمسمياتٍ عدة من حراك وانتفاضة وثورة وغيرها. ذاك الحراك، ووفق الدكتور سيف دعنا، لا يمكن تسميته بالثورة إذ لا يتضمن إديولوجيا واضحة ولا شعارات ثورية معينة ولا حتى إدراك لأسباب المشكلة والأزمة الحقيقية، وبالتالي غياب تفصيل وشرح كامل للعلاقة ما بين الأزمة والقائمين على السلطة المتسببين لهذه المشكلة وارتباطاتهم الخارجية، خاصةً أن لبنان، مثله مثل بقية الدول، ليس جزيرةً معزولةً بل هو مرتبط بما يحدث في الإقليم والعالم. وبالتالي لبنان هو جزء من الإستراتيجيات الإقليمية والدولية من سوريا فإيران وروسيا إلى الكيان الصهيوني وأميركا وأوروبا. لذا يبرز تتالي الأزمات في مرحلة ما بعد تحرير ال2000 ونصر 2006 والتحرير الثاني في 2017 والانتصارات المتتالية للمقاومة على مختلف الصعُد، لتؤكد أن افتعال الأزمات التي تستهدف بيئة وقواعد المقاومة وكل من يتضامن معها، جاء بعد فشل كل محاولات تقويض المقاومة او الإجهاز عليها وجرّها إلى حروب داخلية او انهاكها في قضايا ذات ابعاد فئوية وطائفية وفق (الاستاذ) محمد حيدر.

من هنا، يتبلور الدور الأساسي الذي أنيط بحراك 17 تشرين والذي توسّعت تداعياته لتتعدّى السياسة إلى لقمة عيش المواطن وأمنه الإجتماعي والثقافي والمالي، ليكون بالتالي محور للبحث الراهن ضمن فرضية الخلفيات والمسارات التي أدّت إليها الازمات الناتجة عن تلك الاحتجاجات وتأثيرات الخارج ودور السفراء. لذا، يُختصر البحث بسؤالين واضحين:

  • ما مدى تأثير الأزمات التي انتجتها ما تُسمى ثورة 17 تشرين 2019 في لبنان على الوضع السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي؟
  • ما مدى التأثير الخارجي من سفراء وسفارات على أهداف هذه الاحتجاجات ومسارها؟

أولًا الأول: المسار السياسي
شهد العام 2019 سلسلة متعددة من الأحداث التي تُوِّجت بتوقيف العميل عامر فاخوري وإشتعال أحراش لبنان من الحدود إلى الحدود. وأدى ذلك إلى ظهور علني لجمعيات ما يُسمّى المجتمع المدني مُشَكِّلة مروحة من التحركات الإفتراضية في وجه الحكومة حينها والتي كانت برئاسة الرئيس سعد الحريري، فيما كان إعلان الأخيرة عن فرض رسم مالي على الاتصالات “المجانية” عبر تطبيقات المراسلة الإلكترونية كالواتسأب يوم 17 تشرين الأول 2019 الشعرة التي قصمت ظهر البعير.

1 – الواقع السياسي من 17 ت 2019 وخلفياته والتداعيات من المسار الحكومي إلى السجالات الداخلية
بعد تسريب قرار الحكومة المشبوه القاضي بفرض رسم على المكالمات عبر تطبيقات المراسلة الإلكترونية، خرج الناس إلى الشارع بعفوية حقيقية متجاوزين التقسيم الطائفي والمناطقي والسياسي في لبنان، رافضين القرار لِما يزيد على كاهلهم من أعباء إضافية لا سيما وأنهم كانوا يعيشون فترة من الضغوطات السياسية والمعيشية. وقد تميزت المرحلة تلك بالتجاذبات بين مختلف الأطراف السياسية وتقاذف المسؤوليات لما آلت إليه الأمور دون العمل على وضع استراتيجيات واضحة لإخراج لبنان من أزماته كافة.


في نظرة سريعة على الأحداث السياسية الداخلية ما قبل 17 تشرين، فقد تشكلت حكومة الرئيس سعد الحريري في بداية ال2019 طبقًا لمندرجات التسوية التي أبرمها مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في 2016. ولكن رغم انها حكومة تسوية إلّا أنّها لم تتمكن من النهوض بالبلد من ما كان يتخبط به بعد الانتخابات النيابية. ومثّلت حادثة قبرشمون وما سبقها ذاك اليوم (30 حزيران) من تتالي أحداث رُسمت لتضع الحجر الاول في حرب طائفية ومناطقية قاتلة ولتكون أبرز تحدّي بوجه حزب الله لمساندة حلفائه لا سيما أنهما القطبان الأبرزان مسيحيًا (التيار الوطني الحر) ودرزيًا (الحزب الديمقراطي اللبناني). لكن الله قدّر ما شاء وزرع الحكمة في رؤوس أولياء الدم، فيما اصطدمت الحكومة بطلب الأمير طلال ارسلان والحلفاء رفع القضية إلى المجلس العدلي تحت مسمّى “محاولة اغتيال الوزير صالح الغريب” وزير المهجرين آنذاك. التركيز كان بشكل مُتقن من الدار الارسلانية على أنّ الحادثة موجهة لها ولوزيرها في رفع واضح وموفّق لفتيل زج التيار الوطني الحر والوزير جبران باسيل (وزير الخارجية آنذاك) وسحب البساط المحبوك في الغرف السوداء من تحت رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط، وبالتالي منع التجاذب الطائفي او حتى الاستفادة منه لزج المقاومة في أي صراعات داخلية.

أما الدور البارز في ضرب الحكومة كان لمظاهرات 17 تشرين وما تلاها، والتي دفعت الحكومة إلى التراجع عن قرارها حول رسوم الواتسأب، لكن ذلك لم يكن كافيًا للحراك الذي طالب باستقالتها. وتحت وطأة الشارع من جهة وبضغوطات خارجية من جهة أخرى، استقالت الحكومة في 29 تشرين متوازية مع اندفاعة أكبر في الحراك للمطالبة باستقالة العهد والمجموعة الحاكمة كلها تحت شعار “كلن يعني كلن” دون تمييز بين السارق والفاسد والمرتشي والغاصب والمتآمر والعميل ومن يدافع عن كل حبة تراب من تراب لبنان. وبهذه الشعارات، حسب الدكتور سيف دعنا، نكون أمام “تشييء الحراك” أي انه تم التصدير لفكرة أنّ الأزمة في لبنان هي نتاج عوامل محلية وداخلية وذاتية بحتة، وبالتالي تجاهل الدور الأهم للخارج في تطور الأزمة وفي مَن تسبب بها بسبب برامجهم ومشاريعهم ومصالحهم وارتباطاتهم الخارجية.

2 – الأهداف الظاهرة والباطنة في دور هذا الحراك وأدوار القوى الداخلية اللبنانية في تحقيق برامج الخارج من تقويض النظام وحصار حزب الله والعهد
نزل المواطنون إلى الشوارع في مختلف المناطق اللبنانية تحت شعارات متعددة، أولها ضد الفساد. ولكن ساعات قليلة وبدأت الصورة تتبلور عن أهداف مشبوهة خرجت من رحم أوجاع وآلام الناس لتوجِّه التحركات العفوية المحقّة نحو أهدافٍ يُعمَل لها منذ سنواتٍ لا سيما منذ حرب تموز 2006 وانتصار المقاومة آنذاك.

منذ مساء اليوم الأول للتظاهرات، خرجت للعلن شعارات وهتافات متعددة الأهداف، معظمها محق وصادق، ولكن خُطِفت التحركات العفوية في ليل وأُنزِل عليها شعارات طائفية وفي مناطق محددة (مناطق متلاحمة سنية وشيعية، مسيحية وإسلامية..) وشعارات سياسية طابعها الغالب هو التصويب على حزب الله والمقاومة الإسلامية وسلاحها، وكأن هناك ما يُحضّر في مكان ما للدفع نحو مواجهة في الشارع. فيما رأى عدد من الصحفيين الأجانب أنّ الاحتجاجات والاضطرابات في شوارع لبنان، يتمّ توجيه غضب المتظاهرين فيها ضدّ طبقاتهم السياسية الخاصة وضدّ حكومة إيران.6 “فالمواطنون في لبنان لم يضيقوا ذرعًا بسوء الإدارة الاقتصادية والحكومة غير الفعالة والفساد المستشري في أوساط النخب السياسية محليًا فحسب، بل يربطون أيضًا وضعهم الكئيب بنفوذ إيران المسبّب للفساد واستغلال «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني لبلدهم من أجل تمويل وتسليح الميليشيات التي لا تخضع للمساءلة أمام دولها”.6 وهذا تصويب واضح على حزب الله باعتباره الجهة المالكة للقوة والسلاح في وجه الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاراضي العربية في حرف واضح للبوصلة وتجلى ذلك في شعارات رفعت تعادي إيران وتسالم “إسرائيل” (رفع علم الكيان في مناطق شهدت دعمًا سابقًا لاتفاق 17 أيار). واللّافت في التحليلات الغربية هو ربط الساحات اللبنانية والعراقية والإيرانية كانتفاضة شاملة بوجه إيران ومن تسانده من حلفاء، فيما لا زال البعض في لبنان يُصر على أنّ ما يمر به البلد منذ ما قبل الاحتجاجات وحتى اليوم هو نتاج الفساد المستشري داخليا فقط.


وفي مسح بسيط للحراك منذ يومه الأول، تُطالعنا أعداد كبيرة من المنظمات غير الحكومية (NGOs) العاملة بين المتظاهرين والتي فاق عددها ال300 منظمة، منها 4 منظمات مرخصة فقط. وهذا العدد الكبير من المنظمات هو فعليًا محكوم من الخارج المُموّل لها لا سيما الولايات المتحدة الأميركية عبر ال USAID وغيرها. وبالطبع هذه ليست مؤسسات توزع دولاراتها بالمجان وبالتالي هذه المنظمات تنفّذ أجندة مموليها وهذا ما كان جليًا في توجيه الهدف نحو حزب الله والعهد ورئيس الجمهورية لا سيما أنّ الأخير أصر على معركة “فجر الجرود” بوجه التكفيريين آب 2017. فالحراك كان وما زال لا يملك خطة ولا أهداف ولا مشروع ثوري واضح ولكنه استطاع أن يحول الأزمة لأداة للضغط على المقاومة وبالتالي زيادة أسبابها. الحراك وجّه منذ البداية التصويب على أشخاص وليس على النموذج الذي يربط الداخل بالخارج، بالسعودية وأميركا وأوروبا، وبمجرد رفض التطرق لهم، إعلاميًا وجماهيريا، هو بتر للمشكلة وتصويرها على ان تغيير شخص مكان الآخر يحل الأزمة. بينما الواقع هو أن الشريحة الحاكمة والطبقة الحاكمة لها تموضع إقليمي ودولي يحدد سياساتها ومشاريعها ويؤثر على مصالحها وطالما مرفوض طرح هذه القضايا بالتالي هناك هدف آخر من التحرك. وهذا ما استفادت منه معظم أحزاب السلطة كالقوات اللبنانية والحزب التقدمي الإشتراكي وتيار المستقبل، حيث انخرطوا في الحراك كجزء طبيعي منه لضمان استمرار المشروع والخطط الأساسية الموضوعة خارجيًا.

وما لا يمكن التغاضي عنه في سياق التدخل الأميركي في أصل الحراك، هو الدور المنوط بالعميل عامر فاخوري الذي وصل إلى لبنان بجواز سفر أميركي واعتقل بتهمة العمالة والإجرام في أوائل شهر أيلول 2019، والجدير ذكره أن الفاخوري ما لبث أن مرض في الاعتقال وتدهورت حالته الصحية ما أوجب نقله إلى المستشفى عدة مرات. خلال فترة اعتقاله، تعرض لبنان من أعلى الهرم إلى الأسفل لضغوطات جمّة للافراج عنه واعتبار السنوات الماضية كافية لطي ملف اجرامه. وكان ملف الفاخوري من أساسيات الضغط والتصويب على العهد والمقاومة لدفعهم للتراجع عن اعتقاله، فيما كان للقضاء كلمته بذلك بعد نجاح الضغوطات عليه وتم ترحيله في ليل على متن طوافة عسكرية إلى الولايات المتحدة ليلقى حتفه هناك بعد فترة وجيزة دون اتضاح ماهية مهمته التي كانت منوطة به.

وتأكيدًا على التدخل الاميركي في مسار الحراك، تأتي الخيم التي نصبت في ساحة الشهداء والبيال ومختلف وسط بيروت والأدوار التي اضطلعت بها من: العمالة وجهة نظر، إلى دعم المثليين، إلى خيم تفنيد دور إيران وسوريا وحزب الله (دون التطرق لغيرهم من الجهات إذا كان لا بد من الإنصاف) في اصطناع الأزمة وتفقير البلد والسيطرة على السلطة وغيرها. وعلاوة على ذلك، تأتي المقالات والبيانات والدراسات والتوصيات التي نشرت معظمها في الصحف والمواقع الأجنبية وخاصة الأميركية، التي تطالب وتدعم وتوصي بفرض عقوبات على حزب الله وحلفائه من حركة أمل والتيار الوطني الحر وكل من يسانده أو له صلة به بطريقة ما، منها: ” يجدر بواشنطن الاستعداد لفرض عقوبات على المزيد من حلفاء «حزب الله» والسياسيين الفاسدين… وحاليًا هو الوقت المثالي لفرض عقوبات على حزبه، «أمل»، فضلًا عن فرضها على الأعضاء ورجال الأعمال المرتبطين بـ “التيار الوطني الحر” [برئاسة] باسيل”. والأمثلة تطول من الملاحظات المعدة مسبقًا إلى “اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والإرهاب الدولي” في مجلس النواب الأمريكي من لجنة الشؤون الخارجية في المجلس، إلى ما تم نشره خلال الحراك من مناشدات لتدخل دولي وأميركي وفرنسي لاقاه سفراء الدول الذكورة والاتحاد الأوروبي وغيرها بمزيد من التحرك بين القيادات اللبنانية التي من المفترض أنها أساس الأزمة السياسية والاقتصادية وغيرها.

3 – التغيير عبر الانتخابات بعد التوهين وتلفيق الإتهامات لحزب الله والعهد، إضافة إلى تحالفات ومصالح كافة القوى السياسية والعقوبات الخارجية
أسفرت الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2018 عن مجلس نيابي جديد تمثلت فيه كل القوى السياسية فيما لم يتمكن المجلس من إجراء ما يتوجب عليه من محاسبة واصلاحات بسبب المحاصصة والمحسوبيات المستفحلة في أساس النظام اللبناني الذي يسمح للبنان أن يجمع كل الصراعات الخارجية على أرضه وضمن سياساته. فبرز منذ مرحلة الحراك، التصويب الكامل على مجلس النواب الذي لم يكن قد مضى على انتخاب أعضائه سوى عام ونيف، وكأن النائب انتخب سليمًا ولكنه تغير بعد عام واستفحل بالفساد متناسين أن الوجوه الجديدة التي دخلت النادي النيابي كانت قليلة نسبيًا فيما الخلفيات السياسية والحزبية والطائفية للجميع مازالت هي نفسها منذ ما قبل الانتخابات. لذا تم التصويب على الموازنة وعلى خطط الكهرباء وخطة شركات الهاتف الخليوي وخطط مواجهة الفساد التي عرضها نائب حزب الله حسن فضل الله وغيرها. وفي وقت جهدت أوساط الحراك على طلب إجراء انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون انتخابي جديد حيث يعتقد الأميركيون ان انتخابات المقبلة ستكون “بداية تغيير المسار السياسي في لبنان”. بينما شككت أوساط الحراك بالانتخابات قبل حدوثها معتبرين أن لا صوت حر يُسمع وسط سيطرة حزب الله على السلطة، إذ لا يُعقل لهذه السلطة التي وضعت قانون انتخابي على قياس مصالحها أن تجري الانتخابات التي ستتمول من الخارج بناء على ارتباط شخصياتها به. يأتي ذلك في إطار الاستمرار في سوق الاتهامات للحزب بالسيطرة على الحكومة وحتى البرلمان والقرارات، وللعهد بالعمل على إفشال الحراك، الذي وُلد ميتًا أصلًا دون مشروع إلا ما يوحى إليه من السفارات وسفراء الخارج.

في سياق آخر، استفحلت في الآونة الأخيرة، خاصة فترة الحراك، ظاهرة فرض العقوبات على كوادر من حزب الله (لا سيما نوابه) بتهمة الإرهاب وعلى حلفاء الحزب بتهمة دعم الإرهاب. كما فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على أشخاص وشركات اتُّهِمت بتمويل الحزب لتلاقيها دعوات للتصدي لمخططات الحزب عبر توسيع دائرة هذه العقوبات لتشمل مختلف الحلفاء من شتّى الطوائف خاصة المسيحية منها، وهذا ما أكده مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر نهاية 2019.4 فيما ذهب البعض إلى استجرار “قانون ماغنيسكي العالمي” للاستجابة لمتطلبات المتظاهرين عبر عرقلة مخطط صمود حزب الله ورفع سيطرته، حسب زعمهم، على الموانئ البحرية والمطار وطرق التهريب غير القانونية، داعين أميركا للاستفادة من زخم الشارع.

وفي إطار الاتهامات التي تساق للحزب، عمد بعض المحللين في الصحف الغربية الذين أجروا عدة دراسات عن اللاجئين السوريين في لبنان، عمدوا على طلب ممارسة المرونة في التعامل مع اللاجئين في مناطق نفوذ حزب الله لتقليل من اعتمادهم على الجهات الفاعلة في الحزب في حين تعرضهم للتهديد من قبله.

هذا ولا يمكن التغاضي عن مسرحية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي أعلنت في آب 2020 حكمها الضعيف المبني على فرضيات وليس أدلة في تعبير صريح عن فشل تلك المحكمة التي لم تحظى بقول حزب الله وحلفائه، في وقت شكلت المحكمة ورقة ضغط على المقاومة في نظرهم بينما هي كانت مزراب من مزاريب الهدر والفساد المفروض خارجيًا على لبنان.

4 – النشاط النقابي والعمل على تأسيس واقع من أجل تشكيل إحباط شعبي من قوى السياسية الحاكمة
منذ بداية الحراك لم يكن هناك تبني رسمي من الإتحاد العمالي العام للمشاركة في التظاهرات، لكن حسبما صرح رئيس الإتحاد بشارة الأسمر في حديث صحفي: “نحن لم ندعُ رسميًا للمشاركة، لكن بكل الأحوال الذين كانوا في الشارع، عمال وطلاب وغيرهم، هم أيضا اتحاد عمالي”. وكذلك كان موقف النقابات الأخرى المنضوية وغير المنضوية تحت الإتحاد وبعضها فضّل عدم الخوض في هذه التحركات لأسباب متعددة من سياسية إلى حزبية وقد تكون وظيفية أو إدراك واضح للواقع والأهداف. إنما ذلك لم يُلغِ إحباط الشعب ككل من القوى السياسية الحاكمة وتجلّى ذلك في انتخابات نقابتي المحامين والمهندسين الذين استطاع الحراك والشباب الذين يحسبون أنفسهم من قوى التغيير، من كسب معظم المقاعد في مواجهة القوى السياسية.

5 – القوات اللبنانية أداة لتنفيذ الدور السعودي
لسنوات طويلة، كانت الحريرية السياسية المدخل الأساس لعلاقة المملكة السعودية مع لبنان وحلفائها في الداخل. كانت كل أموال” مملكة الخير” وهباتها وهداياها واتعاب حلفائها البارين تمر عبر آل الحريري، إلى أن حصل ما حصل (تطور الأمور إلى اعتقال رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية وإرغامه على تقديم استقالته من هناك) وفكّ الرباط السعودي معهم. في حين كانت القوات اللبنانية بشخص رئيسها سمير جعجع أبرز حلفاء المملكة سابقًا، استمر كذلك عبر قنواته الخاصة المباشرة مع المملكة في عهد محمد بن سلمان. بات جعجع الراعي الرسمي لمصالح السعودية في لبنان. صوّب سهامه ناح حزب الله في استكمال لمشروع قادته في تصنيف المقاومة بالمغامرة والارهابية.

في وقت يسعى جعجع للوصول إلى رئاسة الجمهورية في أي ثمن، يعلم هو ومموّله السعودي أن هذا لا يتم بوجود حزب الله ومنافسه الأول على الساحة المسيحية “التيار الوطني الحر”. لذا عمل على جمع الطرفين في كل اتهامات الفساد وجر لبنان للحرب وتوهين الانتصارات والانجازات وجعل من الحراك هدفه الأساسي. حاول أن يستميل الحراك نحوه بركوب موجته وتصويب سهامه على السلطة. هو فعلًا يُدرك أته رجل متسلّق غلى الوقائع والفرص لتقديم أوراق اعتماد صحيحة للسعودي والعمل على تنفيذ أجندته في الداخل اللبناني.

ثانيًا: المسار الأمني
في أي نظرة سياسية إلى لبنان، لا يمكن فصل المسار الأمني عن ذاك السياسي خاصة بعد مرحلة 17 تشرين. فهما متلازمتان من الوجود الصهيوني في فلسطين والمنطقة، إلى الأحداث الأمنية التي رافقت الحراك، إلى ما كنّا نخشاه من استيقاظ خلايا نائمة داعشية وغيرها. وكان عجز الدولة أمام الحرائق التي اجتاحت لبنان وأمام زلزال انفجار المرفأ المسبب الرئيسي في تتالي الأحداث الأمنية وتفاقمها.

1 – التوترات وقطع الطرق
منذ اليوم الأول من الاحتجاجات وتحركات تشرين 2019، برزت موضة قطع الطرقات من قبل المتظاهرين وتسكيرها أمام المواطنين ، وليس السياسيين، وفي أوقات حساسة صباحًا ومساءً لشل الحركة العملية وحتى الاقتصادية للمواطن والبلد برمّته. وانتشرت هذه الظاهرة من الحدود إلى الحدود تحت شعارات مختلفة. كانت تُقطع الطريق استنكارًا لأي حدث كان كالغلاء، ارتفاع سعر صرف الدولار، اختفاء المحروقات وغيرها. وترافقت هذه الظاهرة مع أعمال شغب متنقلة من خلدة إلى عاليه ووسط بيروت وطرابلس وغيرها، ذهب ضحيتها عدد من الشباب. هذا وكان لأرزاق الناس النصيب الأكبر من التكسير والسرقة والنهب خاصة في وسط بيروت، كما نالت السيارات نصيبها من التكسير وكأن المستهدف هو الناس وليس السلطة ومن يقف خلفها. اتّخذت تلك الأعمال طابع الفوضى المنظمة والممنهجة واعتمدت استعمال شعارات استفزازية في مناطق كجسر الرينغ والخندق الغميق وغيرها. كلها كانت قنابل موقوتة بانتظار رد حزب الله والحلفاء بالمثل فيما كان موقف أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله واضحًا بضرورة ضبط النفس وترك الشارع، ما فوّت الفرصة على المصطادين بالماء العكر من افتعال فتنة تخدم العدو.

أمام استفحال هذا المشهد، كان على عاتق القوى الأمنية مسؤولية حماية الأملاك العامة والخاصة والمراكز الرسمية وحتى سلامة المواطنين، فاتهمت أنها نزلت مقابل “الثوار” دفاعًا عن السلطة والسياسيين. وذهب البعض إلى اتهام حزب الله بالاعتداء على المتظاهرين ، والبعض الآخر أوصى الأميركي والمجتمع الدولي وفرنسا بفرض عقوبات على عناصر الجيش وقوى الأمن الذين يواجهون الاحتجاجات وحتى اشتراط تقديم الأسلحة والمساعدات للقوات المسلحة بحماية المتظاهرين وعدم مواجهتهم.

2 – حرائق الأحراش
في النصف الأول من تشرين الأول 2019، وبعد مضي فصل صيف طبيعي وهادئ بيئيًا، لفت اشتعال لبنان في ليلة وضحاها من شماله إلى جنوبه وسط ذهول مؤسساتي وحكومي وشعبي. ما يزيد عن مئة حريق حسب الدفاع المدني اللبناني امتدّ ليطال المنازل والسيارات وسط غياب خطة طوارئ لمواجهة الكارثة وتعطل طوافات إطفاء الحرائق التي استلها الجيش كهبات أو بآلاف الدولارات من أميركا الحليفة لجل الطبقة الحاكمة في لبنان.
تنادى اللبنانيون لمساعدة بعضهم البعض وتجلّى التلاحم الشعبي بين مختلف أطيافه وسط سقوط عدد من الشهداء والجرحى من المواطنين والدفاع المدنين مع غياب فاضح لمؤسسات الدولة رغم الإيعازات التي وجهها رئيس الجمهورية للتحرك ومساندة المنكوبين.

3 – انفجار مرفأ بيروت
قبيل السادسة من مساء 4 آب 2020 هز لبنان والضمير الإنساني إنفجار ضخم في مرفأ بيروت في العنبر 12 حيث تم تخزين 2750 طن من نترات الأمونيوم في ظروف غامضة وواضحة في الوقت عينه. أدى الإنفجار إلى استشهاد نحو 200 شهيد وآلاف الجرحى وتشريد الآلاف. الأضرار المادية والبشرية كانت جسيمة. التبعات السياسية والسيادية شهدت تأرجحات كبيرة. الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون وبتفويض أميركي زار لبنان قبل رفع الأنقاض وإجراء المسوحات. أمّا الأبرز كان من اللحظة الأولى للإنفجار فيما الجرحى والشهداء ما زالوا على الأرض وتحت الأنقاض، انبرت محطات التلفزة ووسائل الإعلام كافة الإلكترونية والمسموعةن إلى توجيه أصابع الاتهام لحزب الله والمقاومة. من صواريخ للحزب انفجرت، إلى مخازن ذخيرة وأسلحة إلى مواد تستخدم في صناعة أسلحته، إلى أن أفاضو بنسج الروايات حول علاقة الحزب بنيترات الأمونيوم المشحونة لصالح النظام في سوريا. كل المحطات المأجورة عملت وعلى مدى أيام في رسم سيناريوهات واختلاق روايات ليس آخرها ما بثته تلك القنوات في الذكرى الأولى للانفجار. فيما فرضية العدوان الصهيوني ما زالت مطروحة من باب تواجد 3طائرات عسكرية أميركية و3 صهيونية فوق الشواطئ اللبنانية قبل بيوم من الانفجار وهذه الطائرات متطورة وتؤدي مهام خاصة دون ارسال أية إشارات.

وكالعادة الاستجداء الدولي سيّد الموقف. علت الأصوات من فوق الركام كما في 14 شباط 2005، تستجدي تحقيقًا دوليًا، فيما رفعت توصيات لمرسلي الهبات بعدم تسليمها للدولة بل للصليب الأحمر اللبناني أو منظمات المجتمع المدني مبررين ذلك بغياب الثقة بالسلطة. وقد طُرحت هاتين المسألتين كشرط قبل طلب الحكومة لأي مساعدات دولية. وتحت الضغط الشعبي واحترامًا للدماء التي سقطت، استقالت حكومة الرئيس حسّان ذياب في 10 آب فيما يسعى القضاء المسيّس إلى تحميل حكومة البضعة أشهر مسؤولية وجود النيترات التي عمرها من العام 2014.

4 – المسار الاقتصادي
مع دخول الحريرية السياسية إلى لبنان في نهاية الحرب الاهلية، عمل الرئيس رفيق الحريري على دعم سياسة اقتصادية تتمثّل بالنيوليبرالية والتي حسب الدكتور دعنا “مكّنت أصحاب رؤوس الأموال تحديدًا أو شريحة صغيرة منهم من استخدام البلد وموقعه الجيوسياسي، أهمية لبنان في الإقليم والمنطقة وقربه من سوريا وكل هذه القضايا لتحقيق مصالحهم وزيادة ثروتهم.” من هنا فعليًا بدأت مشكلة لبنان الذي تحوّل إلى بلد خدماتي يعتمد على الهبات والأموال الخارجية والعمليات المصرفية. وهذا القطاع معرض للإنهيار في أي لحظة وأمام أي ظرف خاصةً وسط هذه المجموعة الفاسدة مِن مَن استلموا السلطة على مدى ثلاثين عامًا.

5 – ارتفاع سعر صرف وتفلت سوق الدولار
منذ العقود الثلاث الماضية، كان مصرف لبنان يعمد إلى تمويل الإنفاق، وهذا ما يُشكل صلب مشكلة النقد والاقتصاد اللبناني اليوم. “لب المشكلة كانت في مسألتين: دعم سعر صرف الليرة، وغياب سياسات اقتصادية حكومية. من الضروري إعادة التذكير أن مصرف لبنان موّل إنفاق كل المقيمين في لبنان من خلال أموال المودعين بالعملات الصعبة في المصارف اللبنانية.” وبعد الأزمة السورية وانخفاض العملة الصعبة في المصارف، بات واضحًا لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة المصير الذي سيصل إليه البلد. وبالتالي، بغياب دعم الليرة سترتفع أسعار الصرف ضاربة بعرض الحائط كل قرارات ضبط سوق الصيرفة منتجةً بذلك طبقة جديدة من الفقراء بالتوازي مع طبقة من الأغنياء ماحيةً بذلك الطبقة الوُسطى.

من جهةٍ أخرى، استفادت جهات كبيرة داخليًا وخارجيًا مما آلت إليه الأمور. فالجهات المانحة الأحنبية لا سيما “المجموعة الدولية لدعم لبنان” بدأت تعرض مساعداتها المذيّلة بالشروط لا سيما المقاومة وسلاحها. فيعتبر البعض أن حزب الله حاول الالتفاف على الأزمة من خلال استلام وزارات حساسة كالصحة والمالية لحليفته “حركة أمل”. وبالتالي بات القرار الحكومي مرتهن أكثر وأكثر للحزب الذي سمح للحكومة بلقاء وفد “صندوق النقد الدولي” الذي زار لبنان في شباط 2020. ويعيب البعض على مسؤولي حزب الله وضوحهم بأن ما حصل ما هو إلا مساعدة فنية غير مُلزمة ولن توضع موضع الترجمة أبدًا في برنامج كامل يطبّقه الصندوق في لبنان. واستشهد هؤلاء لدعم فرضيتهم بما صرح به نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم خلال مؤتمر صحفي في 25 شباط: “نحن لا نقبل الخضوع لـ «صندوق النقد الدولي» ليدير الأزمة”.

6 – فقدان السلع والأدوية والمحروقات
“بطبيعة الحال، ارتفاع أسعار الصرف سيُضعف القوة الشرائية للمواطن بشكل عام، ويُضعف حركة التجارة والعملية الاقتصادية وعملية الانتاج بما فيها الانتاج المحلي ومكوناته محليًا وخارجيًا، كاستيراد السلع أو مكونات انتاج السلع المحلية. بالتالي يشكل هذا فجوة بين العرض والطلب على السلع وفجوة في عملية الانتاج والعرض تجاه شح المواد والموارد، إضافة إلى تراجع قدرة المستوردعلى شراء السلع الأجنبية ومكوّناتها أو مكوّنات بعض السلع التي يُمكن أن تُنتج ويحتاج إليها من الخارج.” هذا ما شرحه لنا الأستاذ محمد حيدر مشيرًا، أيضًا، إلى أن اختفاء السلع من السوق كالدواء والمحروقات وحتى المواد الغذائية يعود بالدرجة الأولى إلى جشع التجار واحتكارهم وتأخير بيع تلك المواد ليستفيد قدر المستطاع من لعبة ارتفاع الصرف وضرورية الحصول على هذه المواد. في حين يعتبر حيدر أن التاجر عندما يبيع ما عنده بقيمة لا تسمح له من الاستيراد مرة أخرى فيلجأ إلى تخزين البضاعة ريثما يُسوّي وضعه المالي. فيقع الضرر على المواطن من الناحيتين: ارتفاع سعر الصرف وبالتالي المواد وقلة المعروض من المُنتج.

لكن وصل الحد في الاحتكار إلى قدر من الفجور تجاه المواطنين وأصحاب الحق. ملايين براميل المازوت والبانزين ضبطت عند المحطات والأفراد وجهات سياسية كانت تشكل قنابل موقوتة في صيف حار بين الأحياء والبلدات فيما المواطن ينتظر ما يزيد عن نصف النهار في طابور الذل للحصول على ما يسد به حاجته لا زيادة. ومن جهةٍ أخرى، يموت المرضى ويعانون بشدة، خاصة مرضى الأمراض المستعصية، وآلاف علب الأدوية مخزّنة في مستودعات مستوردي الدواء ووكلائهم في مختلف المناطق اللبنانية، فيما ضبط الكثير منها منتهي الصلاحية. كل هذا وسط اتهام مستمر لحزب الله بتهريب المحروقات والأدوية والدولارات والسلع من مواد غذائية وغيرها إلى سوريا. وللتذكير أن الهبة العراقية التي استلمها لبنان والمكونة من مواد غذائية لا سيّما الطحين للأفران، قد خُزّنت في مستودعات تحت المدينة الرياضية في بيروت وتعرضت للمياه والرطوبة العالية فتُلف ما تُلف منها ويعلم الله بالباقي. بينما لا يزال شهداء وجرحى انفجار خزانات المازوت في التليل العكارية من عسكريين ومدنيين خير شاهد على الاحتكار الجائر وعلى دور الأجهزة الامنية في الكشف عن الاعمال المشبوهة.

7 – أزمة الكهرباء
الحديث في ملف الكهرباء يطول وهو سلسلة من الفساد الذي يتعدى الحرب الأهلية والأزمة الاقتصادية الحالية. ولكن الآن ووسط أزمة شح الأموال لا سيما العملة الأجنبية لدى مصرف لبنان، رزح لبنان وما زال منذ بداية 2021 تحت تقنين بساعات التغذية يشمل كل لبنان، حتى بيروت الإدارية، ويصل لحد الساعة فقط في اليوم. في وقت عمد المواطنون للاستفادة من مولّدات الكهرباء في البلدات والأحياء، التي استفادت من المرحلة ورفعت تعرفة الإشتراك الشهري. في حين لم تلبث هذه الأخيرة أيضًا من أن وقعت في فخ التقنين مع غياب مادة المازوت وصعوبة الحصول عليها سوى من السوق السوداء وبأسعار تفوق الخيال. والمفارقة هنا أنّ الاتهام موجه لحزب الله بحجّة الاستفادة من غياب الكهرباء لتشغيل مولّداته التي يزعمون أنه يمتلكها في الأحياء وبالتالي سرقة الناس بالأسعار الخيالية.

رغم كل هذا الإجحاف، تمكّن الحزب من مساعدة الحكومة في تأمين فيول عراقي لاستبداله مع فيول إماراتي يصلح لمعامل الكهرباء في لبنان. وهنا برز التسويف والمماطلة التي لمستها بوضوح وزارة النفط العراقية وطالبت بتوقيع الطرف اللبناني المتأخّر دون سبب وجيه.

8 – سيولة المالية ورواتب العسكريين وموظفي الدولة
يبلغ عدد القوى الأمنية والعسكرية 120 ألف عنصرٍ، وتنقسم على الشكل الآتي: 80 ألف عنصر بالجيش، و28 ألفا بالأمن الداخلي، و8 آلاف بالأمن العام، و4 آلاف بأمن الدولة، وفقا للأرقام الدولية للمعلومات. وقد أظهرت المعلومات أيضا قيمة الرواتب للعسكريين من جنود وملازمين ومعاونين وضباط وعمداء، والتي تتراوح -وفقًا لرتبهم- بين مليون ليرة (800 دولار وفق سعر الصرف الرسمي، وتوازي بعد انهيار الليرة نحو 70 دولارًا) وبين 7 ملايين ليرة (4 آلاف دولار وفق سعر الصرف الرسمي، وتوازي حاليًا نحو 450 دولارًا). فوفق هذا الترتيب يصبح الراتب لا يكفي العسكري لتأمين أساسيات الحياة ومشتلزمات عائلته في وقت يُحذَر عليهم العمل في وظائف أخرى. وهذا الحال هو نفسه مع موظفي القطاع العام في ظل غياب اعتمادات تساهم في تصحيح الأجور في هذه المرحلة الصعبة. كما يبرز هذا الترهل المادي في مختلف دوائر الإدارات الرسمية من مأمورية النفوس إلى مكاتب الوزارات وغيرها.

رابعًا: المسار الاجتماعي
في ظل الأزمات الراهنة التي استفحلت في البلد، تبرز المشاكل الإجتماعية المتنوعة من جرائم السرقة والنشل والقتل وصولًا إلى تهدّم أساسات البناء المنزلي والعائلي من استقرار مادي وإجتماعي. إضافة إلى أزمات البلد، كان لجائحة كورونا الدور الأسمى في ضرب البنيان الاقتصادي والاجتماعي المترهّل.

1 – حالات الفقر وانخفاض القدرة الشرائية
بسبب النخفاض القيمة الشرائية لليرة وارتفاع سعر الصرف، بات أكثر من 55% من اللبنانيين تحت خط الفقر بمصروف أقل من 4$ في اليوم. باختصار هذا هو الحال لدى كل من كان يُعَد من الطبقة المتوسطة، فكيف مع من كانوا أصلًا فقراء؟! كل هذا له تداعياته الإجتماعية على العائلات التي بات رب المنزل فيها يعمل واصلًا نهاره بليله لتأمين أبسط مستلزمات الحياة من مأكل وملبس وأجار منزله.. وسط حرمان مدقع للأطفال من بديهيات الحياة العصرية؛ فعادت الطرقات مسرح لهوهم والألعاب المبتكرة من حواضر المنزل أدوات تسليتهم. فيما سجلت هذه الأزمة عدد من حالات الانتحار ضيقًا من الوضع المتردي.

2 – تأثيرات كورونا اقتصاديا واجتماعيا
تظاهرات 17 تشرين 2019 أظهرت الأزمة على حقيقتها الصعبة، ولكن جائحة كورونا أكملت بشد الخناق الاقتصادي على البلد. فقد تسببت الجائحة في تأجيل عدد من المناقصات للتنقيب عن النفط والغاز في وقت كانت تجبر الحكومة على إغلاق المرافق الاقتصادية الأساسية ما أثر سلبًا على الحالة الاقتصادية بشكل عام. كما فاقمت الجائحة أعداد المحال التجارية التي أقفلت أبوابها بسبب الإقفال وتراكم الخسائر على أصحابها.

من جهةٍ أخرى، برزت العديد من الجمعيات الأهلية في البلدات والأحياء التي عملت على بلسمة جراح المتضررين من تراكم المصائب في هذين العامين، وكان لها الوقع اللافت في استمرارعائلات كثيرة قادرة على الصمود ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

رأي وتحليل
بعد كل ما تقدّمن يبدو واضحًا الاتجاه الذي تسير فيه الأمور منذ سنوات حتى اليوم. مختصر الحالة أنّ المقاومة في لبنان قد كسرت هيبة ومشاريع الاحتلال ومن خلفه الولايات التحدة الأميركية، ورسمت بوجهه معادلة ردع واضحة وقويّة منذ تحرير 2000 مرورًا بنصر 2006 والتحرير الثاني 2017 الذي كان من تبعاته تصاعد الضغوطات على العهد ممثّلًا بالرئيس ميشال عون ومن خلفه التيار الوطني الحر وحزب الله والحلفاء. فأميركا التي تدّعي محاربة الارهاب، هي مَن صنعت داعش وغيرها في سوريا والعراق، وكان هدفها تثبيتها في لبنان كقوة مواجهة بوجه حزب الله لأجل راحة الكيان الصهيوني الذي لم يالُ جهدًا في دعم ومساندة تلك الجماعات إنسانيًا وحتى عسكريًا. وبالتالي كان صعبًا عليها كسر صناعتها، التي تحارب بها كبديل عنها في سوريا وجرود لبنان، وذلك في معركة “تحرير الجرود” و”إن عدتم عدنا” المشتركة بين الجيشين اللبناني والسوري والمقاومة الإسلامية في لبنان. من هنا جاء إصرار الرئيس عون على تحرير الجرود بالتعاون مع المقاومة ليشكّل صفعة لأميركا وسفيرها ومشروعها في ثاني تحدٍ للمشروع الأميركي تشهده الرئاسة بعد تحدّي الرئيس الأسبق إميل لحود لمادلين أولبرايت. هكذا بدأ الضغط بالعقوبات وحقن الشارع بوجه المقاومة والعهد عبر منظمات المجتمع المدني والإعلام الذين ينفذون أجندا أميركية بحتة لتضليل الرأي العام، وباعتراف دايفيد هيل دفع الملايين من الدولارات لدعم ذلك وكلها باءت بالفشل.

هذا وساهم ضعف المنظومة السياسية اللبنانية المبنية على الفساد والمحسوبية والارتهان للخارج، ساهم بضرب البنى التحتية للدولة واستمراريتها. وقد استفاد الأميركيون من ذلك وكانت القرارات المشبوهة التي حاولت التغطية على الانهيار الفادح الذي كان يلوح بالأفق. خرجت الناس إلى الشارع وسرعان ما سُرِقت تحرّكاتهم ونظّمت من قبل السفارات والسفراء مباشرة، ودُفع بذلك البلد إلى الانهيار وسط شروط تطالب برأس المقاومة قبل أي مساعدة مباشرة للبنان. وعند ثبات حزب الله والعهد على مواقفهم وانتصاراتهم، تُرِك لبنان لوحده يواجه مصيره دون مساعدة من أحد.
ولكن، شكّل ذلك نقطة قوّة للبنان، حيث استطاعت المقاومة الانتصار حيثما فشِلت السلطة من كسر قانون قيصر (قانون العقوبات الأميركية) الموجه ضد سوريا ولبنان، وكسر الحصار على البلدين وحتى عن إيران عبر استجرار المحروقات منها عبر البحر مرورًا بسوريا فلبنان، وسط تخبط صهيوني بين الاعتداء على البواخر من عدمه، وفي الحاتين هو في مأزق.

هنا قُلِبي الصورة، وباتت السفيرة الأميركية تعطي حلالًا وتسهيلات دون العودة إلى إدارتها من باب التغطية فقط على مساعدات الحزب التي شملت كل شرائح المجتمع اللبناني من كل الطوائف والمناطق. حتى المتضررين من انفجار الوقود في التليل العكارية كان لهم نصيبهم من المساعدات والتعويضات، فحضر حيث غابت الدولة ليكون سندًا للبنانيين وليس عالةً عليهم كما يصوّره الأميركان وحلفائهم للتغطية علة ما يقومون به من سرِقة لثروات المنطقة لا سيّما ما يحاولون السيطرة عليه من بلوكات النفط في مياه لبنان الإقليمية والعمل على تقاسم مواردها بين أميركا والكيان الصهيوني، وكالعادة الفتاة تكون حصّة حلفائهم.

لذا يتّضح الآن أنّ كل ما مرّ فيه لبنان من سنوات مُرّة لكسر إرادته ونقطة القوّة فيه قد وصلت إلى حائطٍ مسدود وانقلب السّحر على السّاحر وخرجت المقاومة وجمهورها وحلفاؤها وحتّى العهد منتصرين.

سيناريوهات وفرضيات
وفق الأستاذ محمد حيدر، فإنّ الأزمة قد تفاقمت وبرزت أكثر بعد تظاهرات 17 تشرين. ولكن لهذه الأزمة أيضًا أوجه إيجابية عدة حيث فتحت فرص جديدة للعمل والانتاج المحلّي وانتاج مكوّنات للإنتاج المحلّي وانتاج سلع محلّية بديلة مقابل استيرادها من الخارج. والمهم هو فهم هذه الفرص والعمل على تطويرها ووضعها لحل مشاكل كانت قد تفاقمت. وبالتالي يحتاج ذلك إلى استراتيجية عمل جدّية تلحظ هذه القطاعات واحتياجات الناس بدءًا من كسر كل الأطُر التي تسمح بالاحتكار من أي شكل ونوع كانت (نفط، دواء، وكالات خاصة…) وأن لا تبقى الفرص الاقتصادية حكرًا على عائلات محددة أو شخصيلت محددة من المكوّن اللبناني. إضافة إلى ذلك، شدد حيدر على ضرورة العمل على حل أزمة موظفي الدولة في السلكين العسكري والمدني. كما العمل على حل مشكلة الكهرباء بالطاقات البديلة كالشمسية والهوائية والمائية على رغم من رفض ذلك من من قبل كرتلات النفط التي يتعارض ذلك مع مصالحها.

وبالتوازي، يعتبر الدكتور سيف دعنا أن الحلول التي تم طرحها لحل الأزمة هي الأزمة نفسها، إذ أنّ غياب طرح الحلول حول التمَوضع الإقليمي والدولي للشريحة الحاكمة في لبنان، واستمرار ربط تلك الحلول بتغيير شخص مكان شخص هو عين المراوحة. بينما الحل الأمثل هو تغيير وجه لبنان النيوليبرالي وفك ارتباط سياسيي لبنان عن الخارج والإقليم لما يخدم مصالح أميركا والكيان الصهيوني والسعودية والذين يعملونعلى جعل لبنان بلد غير مستقر بوجه المقاومة ما يخلق ضغط عليها في القضايا الداخلية وإلهائها بها بدل لعب دورها الإقليمي والدولي.

لذا نجد أن لبنان ما زال يرزح تحت عبء الاقتصاد المرهون للخارج (النظام النيوليبرالي) والمعتمِد على الخدمات بدل الصناعة والزراعة. وبالتالي، أي حركة عملية انتاجية استهلاكية لبنانية داخلية هي مرهونة بالعملة الأجنبية التي بات البلد رهينة ارتفاعها أو انخفاضها، وباتت قدرة المواطن الشرائية تتآكل بسبب ذلك. لذا، فك ارتباط لبنان بالدّولرة والعملة الصعبة يُشكل اول مدخل لحل جذري للاقتصاد اللبناني المصرفي المتآكل.

اما سياسيًا فقد تشكّلت حكومة جديدة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي. حكومة رئيسها جزء من المشروع الاميركي وجزء من وزراىها من نفس المشروع. وقد أتت هذه الحكومة في مرحلة صعبة ومرحلة ضغوطات سياسية كبيرة وبالتالي عليها الكثير من الاعباء التي قد لا تُحسن التعامل معها. كما انها حكومة الانتخابات النيابية. لذا نحن امام سيناريوهات عدة تتلخص بثلاثة أساسية:
اولًا: في حال حصلت الحكومة على الثقة ستواجه ضغط الفساد المستشري، وقد تصل إلى مرحلة مشابهة بالحكومة السابقة إذ لا إمكانيات مادية في يدها والتي سترزح تحت ضغوطات العقوبات الأميركية، لا سيّما قيصر والعقوبات على حزب الله وحلفائه. وبالتالي ستُنهي ولايتها دون اي تغيير يُذكر من ناحية الفساد والوضع الراهن.

ثانيًا: قد تصل الحكومة، بعد كل الضغوطات والازمات التي ستواجهها، وكونها من ضمن منظومة سياسية قاىمة على الارتهان للخارج الاميركي وكي تساهم في زيادة الوضع تعقيدًا، قد تُقدِم على الإستقالة قبل 4 او 6 أشهر من موعد الانتخابات النيابية تاركةً البلد في أزمة عدم إقرار قانون انتخابي جديد وعدم إجراء الانتخابات في موعدها. فنصل إلى فراغ حكومي ونيابي أو يضطر المجلس النيابي إلى التمديد لنفسه كما حصل سابقًا (إذا وافق الرئيس عون)، وبالتالي سيُظهَّر حزب الله أنّه عرّاب التمديد مع رئيس مجلس النواب الرئيس نبيه بري.

ثالثًا:إضافة إلى انّ لا شيء سيتغيّر في الوضع الاقتصادي والسياسي، قد تُقدِم الحكومة بمباركة خارجية على الاستقالة قبل إجراء الانتخابات. وبالتالي، الدخول في فراغ حكومي ونيابي حتى موعد الانتخابات الرئاسية. لا مجلس نيابي له صلاحيات انتخاب رئيس ولا سلطة تنفيذية لإجراء الانتخابات، وبالتالي يصبح الفراغ سيد الموقف في السلطات الثلاث (رئيس الجمهورية يرفض مبدأ التمديد تحت أي ظرف) ويدخل البلد في المجهول والتدويل او التلويح بحرب إقليمية لعوامل متعددة.

هذه هي أبرز السيناريوهات التي نتمنى ان لا تتحقق بل ان تتمكن الحكومة من الإصلاح وإجراء الانتخابات في موعدها. ولكم من منظار آخر قد تنقلب الصورة رأسًا على عقب. فإذا استمرت الحكومة في عدم تلبية احتياجات الشارع والمواطنين والمقيمين في لبنان كما يجب، وإذا بقي حزب الله هو من يحضر المحروقات والأدوية والمواد الغذائية إلى البلد رغم انوف الرافضين، فستنقلب كل الموازين. فالشعب لم يعد يعنيه من يُؤمّن حاجاته وكيف، يعنيه فقط وجودها وبأسعار معقولة. لذا ما كان يُحضّر من تضييق الخناق على المقاومة وحصارها وإدخالها في اتون صراعات مع شعبها قبل باقي اللبنانيين سيبوء كله بالفشل، وسيصبح حزب الله هو المنقذ الوحيد للبلد ومن خلفه إيران وسوريا وسيصبح ما كانت تخشاه اميركا حقيقة واقعة لا مجال لتجاهلها.

وعلى هامش الحديث: قرار الحزب استجرار المحروقات من إيران وإعلانه فقط عن انطلاق السفن قبل حتى أن تصل إلى لبنان، كان كفيلًا بكسر ثلاث حصارات على كل من لبنان وسوريا وإيران، وفتح قنوات التواصل بين الحكومة اللبنانية، أي لبنان الرسمي والقيادة السورية برئاسة الدكتور بشار الاسد بمباركة أميركية لتنسيق استجرار الغاز والكهرباء من مصر والأردن فلبنان عبر سوريا. في حين وصول المازوت الإيراني إلى سوريا وقبل ان يصل حتى إلى لبنان، كان كفيلًا بفتح اعتمادات بواخر الفيول المنتظرة في عرض البحر منذ فترة، بانتظار صرف الاعتمادات لها.
وقد صدق من قال إن ما بعد 17 تشرين ليس كما قبله، ولكن على طريقة المقاومة.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد