منذ زمن بعيد في العصر الحجري، اكتشف البشر أنه يمكنهم استخدام الصخور لطحن حبوب القمح البري لصنع الدقيق. قد يكون الكشف عن هذا السر، في الواقع، أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الناس إلى العيش في مجتمعات. ساعد القمح أسلافنا القدماء على إدراك أنهم يستطيعون زراعة الطعام وكذلك متابعة القطعان ورعايتها.
وكما أن انقطاعه وحظر تصديره، كما حصل في الحرب الأوكرانية مؤخراً، يهدد بمجاعة عالمية، فإن وفرته أدت منذ آلاف السنين إلى تشكيل المدن، على عكس نمط الحياة البدوي، وأدت إلى ظهور أشكال أكثر تعقيداً من التنظيم المجتمعي. مشابهة لتلك التطورات في الأمريكتين مع الذرة وفي آسيا مع الأرز.
بخلاف ذلك، يرتبط الخبز ارتباطاً وثيقاً بالزراعة. وفقاً للجمعية الوطنية لمزارعي القمح (NAWG) فقد جرى تدجين القمح في الهلال الخصيب (العراق). وبالنسبة إلى الخبز، فعُثر عليه في مواقع العصر الحجري الحديث في تركيا وأوروبا منذ نحو 9100 سنة.
رحلة عمرها 10 آلاف عام
وفقاً للآثار والموجودات التاريخية، صُنع أقدم خبز نحو 8000 قبل الميلاد في الشرق الأوسط، وتحديداً في مصر، بشكل شائع في أقرب شكل له مثل تشاباتي (الهند) أو التورتيلا (المكسيك). فيما تشير دراسات أخرى إلى أن خبزاً صُنع من القمح البري والشعير البري وجذور النباتات بين 14600 و11600 سنة قبل الميلاد في الصحراء السوداء في الأردن.
وحسب عديد من المؤرخين، فإن خبرة المصريين في التخمير جنباً إلى جنب مع المناخ الدافئ ساعداهم لإنتاج أول عجين مُخمّر في العالم. ومنها بدأت رحلة الخبز في جميع أنحاء العالم، وطورت البلدان في القرون التالية نسخها الخاصة من الخبز.
ومن المصريين أخذ اليونانيون صناعة الخبز إلى مرحلة متقدمة بعد أن توصلوا إلى فكرة الفرن القائم بذاته الممكن تسخينه مسبقاً، ومع قدوم القرن الخامس قبل الميلاد كان من الممكن شراء الخبز في أثينا من متجر خباز، ولاحقاً في روما، ظهر الخبازون اليونانيون في القرن الثاني قبل الميلاد.
وبحلول العام 450 قبل الميلاد، كان الرومان اخترعوا الطحن بالماء، وعلى هذا النحو، أخذوا الخبز إلى ما كان يعتبر لاحقاً شكلاً من أشكال الفن. ومن المثير للاهتمام أن أغنياء الرومان اعتبروا الخبز الأبيض أعلى جودة وأكثر ملاءمة للمتعلمين والأثرياء. وبالمثل، في العصور الوسطى البريطانية، أصبح خَبْز الخبز رمزاً للمكانة. فضّلت الطبقات العليا رغيف الخبز الأبيض الناعم، في حين تُركت الطبقات الفقيرة مع أرغفة الجاودار والنخالة والخبز الخشن.
وفي الرحلة التي استغرقت آلاف السنيين، شهدت زراعة القمح وصناعة الخبز تطورات كبيرة وثورية، لعل من أهمها اختراع المطحنة الفولاذية في سويسرا عام 1834، والتي بدورها كسّرت الحبوب بدلاً من سحقها، الأمر الذي سهل فصل مكونات الحبوب. فيما شهد القرن العشرون إضافة المواد الكيميائية التي بفضلها أصبح الخبز أكثر بياضاً ونعومة واستمر لفترة أطول دون تلف.
القمح.. غذاء العالم
منذ آلاف السنيين وحتى يومنا الحالي، يعتبر القمح واحداً من ثلاثة محاصيل (الآخران هما الذرة والأرز) وفرت سعرات حرارية مكنت سكان العالم من السباق نحو 10 مليارات شخص. واليوم، يُزرع القمح على مساحة من الأرض في جميع أنحاء العالم أكثر من أي محصول غذائي آخر.
وعند وصول القمح إلى المستعمرات الأمريكية في عام 1777، زرعه المستعمرون زراعة محصول هواية لا محصولاً غذائياً، وفقاً لـ NAWG. بمرور الوقت، طور الباحثون الأمريكيون تحسينات كبيرة في قدرات الإنتاج وعادات الاستهلاك في الولايات المتحدة والمستهلكين العالميين، وبفضل جهودهم تحول القمح إلى الغذاء الأساسي الذي نعرفه اليوم.
ووفقاً لبيانات عام 2020، بلغ إجمالي الإنتاج العالمي من القمح 760 مليون طن. تعد الصين والهند وروسيا أكبر ثلاثة منتجين فرديين للقمح في العالم، إذ يمثلون نحو 41% من إجمالي إنتاج القمح في العالم. فيما تصدر روسيا والولايات المتحدة وكندا وفرنسا وأوكرانيا نحو 64% من إجمالي الاستهلاك العالمي.
TRT عربي
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.