بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وتفككه إلى 15 دولة، بدا واضحا أن عصر القطبية الثنائية الذي ساد لعقود قد ولى، حيث لم يعد بإمكان روسيا في ذلك الوقت أن تكون منافسا مكافئا للولايات المتحدة، لكن الأنظار بدأت تتجه سريعا إلى قطب جديد يتقدم بهدوء ومن دون ضجيج، وهو العملاق الصيني.
وإذا كانت القوة العسكرية على مدى قرون هي المعيار الأبرز لقوة الدول، خاصة تلك التي ترغب في السيطرة والهيمنة، كما رأينا مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي ومن قبلها إمبراطوريات عديدة، كالعثمانية والبيزنطية، فإن الصين جاءت بنموذج مختلف هذه المرة لا يعطي الأولوية للقوة العسكرية التقليدية.
وتوضح الأرقام ذلك بشكل يغني عن كلام كثير، ففي عام 2021 كانت هناك 800 قاعدة عسكرية أميركية تنتشر في 70 دولة من دول العالم ينتشر بها ما يتراوح بين 150 و200 ألف جندي، وذلك مقابل 31 قاعدة فقط لكل من روسيا وبريطانيا وفرنسا والصين مجتمعة.
وكان نصيب الصين من هذه القواعد العسكرية قاعدة وحيدة أقامتها في جيبوتي على الساحل الشرقي لأفريقيا عام 2017، وكانت أول قاعدة عسكرية لها في الخارج مقابل مئات القواعد للولايات المتحدة، التي باتت منذ انهار الاتحاد السوفياتي القطب الوحيد في هذا العالم.
لكن هذا لا يناقض حقيقة أن الصين نجحت -خلال أقل من 70 عاما- في أن تتحول من دولة معزولة إلى واحدة من أعظم القوى الاقتصادية في العالم، بل -ربما لا نبالغ إذا قلنا- إنها أصبحت أو توشك أن تصبح قطبا حقيقيا.
يبدو أن الاقتصاد إذن هو القاطرة الرئيسية لتقدم الصين إلى مكانة القوة العظمى في العالم، لكن القوة العسكرية أيضا ليست بعيدة عن الحسابات وإن بطريقة أخرى كما سنرى.
الاقتصاد
حسب دراسة نشرها مركز بلفور للعلوم والشؤون الدولية -التابع لكلية كينيدي بجامعة هارفارد الأميركية- مارس/آذار 2022، فإن الولايات المتحدة ظلت الاقتصاد الرائد عالميا منذ تفوقت على بريطانيا العظمي في سبعينيات القرن التاسع عشر، لكنها باتت الآن تواجه منافسا جديًا وهو الصين، التي نجحت في سد الفجوة مع الولايات المتحدة في معظم السباقات الاقتصادية، بل وتجاوزتها في بعض السباقات.
وتشير الدراسة إلى ما تسميه النمو الاقتصادي المعجز للصين الذي بلغ 4 أضعاف مثيله في الولايات المتحدة على مدى العقود الأربعة الماضية.
وارتفع الناتج المحلي الإجمالي للصين ليصل إلى نحو 17 تريليون دولار عام 2021 مقارنة بـ1.2 تريليون فقط في بداية القرن الحالي، لتقلص الفارق مع الولايات المتحدة التي بلغ ناتجها الإجمالي عام 2021 نحو 23 تريليون دولار، علما بأن التوقعات تشير إلى أن الصين ستقفز إلى الصدارة في غضون عقد من الزمان.
ووفقا للدراسة نفسها، فقد تفوقت الصين في عدة مجالات؛ حيث أصبحت ورشة التصنيع الأولى في العالم، كما أنها الشريك الاقتصادي الأول لمعظم الدول في العالم، وهي أيضا الحلقة الأكثر أهمية في سلاسل التوريد العالمية الحيوية في العالم، وكذلك هي موطن العدد الأكبر من الشركات العالمية الأكثر قيمة.
وبدا أن الصين نجحت في تحويل الزيادة السكانية إلى نعمة، فمع عدد سكان بلغ في 2020 نحو 1.4 مليار نسمة، بما يعني أن خُمس سكان العالم يعيشون في الصين، تجاوز حجم القوة العاملة أكثر من 800 مليون شخص بما يفوق إجمالي سكان قارة أوروبا، كما تجاوز عدد خريجي الجامعات حاجز 9 ملايين عام 2021، حسب صحيفة الشعب الصينية.
الذكاء الاصطناعي
الحديث عن التفوق الاقتصادي للصين بات مكررا ومعروفا للكافة، لكن الأمر يختلف في مجال القوة العسكرية، خاصة السعي الحثيث من جانب الصين للاستفادة بالتقدم التكنولوجي، وخصوصا الذكاء الاصطناعي لتحقيق التفوق العسكري.
فمنذ عام 2019، تتبع الصين مفهوما جديدا للحرب، يعرف باسم “الحرب الذكية” أو “الحرب القائمة على الذكاء الاصطناعي”. ويستند هذا المفهوم على تفعيل الذكاء الاصطناعي، وتوظيف المنصات غير المأهولة (الطائرات بدون طيار، على سبيل المثال) بطريقة تحقق هزيمة العدو في نهاية المطاف، من دون اللجوء إلى الحرب التقليدية الساخنة.
وتنقل وكالة الأنباء الألمانية عن تحليل للكاتبة جوديث بيرغمان -نشره “معهد غيتستون” (Gatestone Institute) الأميركي- أن ما يميز سعي الصين وراء الحرب الذكية يتمثل في الجوانب المعرفية الخاصة بالحرب الذكية، وليس التركيز على الذكاء الاصطناعي، وحشد أسراب الطائرات بدون طيار.
وجاء في التقرير السنوي المقدم للكونغرس الأميركي عام 2019 بشأن “التطورات العسكرية والأمنية الخاصة بجمهورية الصين الشعبية”، الذي أعده مكتب وزير الدفاع الأميركي، “يعمل جيش التحرير الشعبي الصيني على استكشاف مفاهيم عملياتية خاصة بالجيل القادم في ما يتعلق بالحرب القائمة على الذكاء الاصطناعي، مثل حرب الاستنزاف بواسطة الأسراب الذكية، والحرب التي تنتقل عبر مجالات مختلفة، والمواجهات القائمة على الذكاء الاصطناعي، وعمليات السيطرة المعرفية”.
السيطرة على الإرادة
وتضيف بيرغمان أنه حسب الكولونيل كويشيرو تاكاغي، من قيادة قوة الدفاع الذاتي البرية باليابان، فقد أوضح المفكرون في الصين علنا أن المفهوم العملياتي الأساسي للحرب الذكية هو التحكم المباشر في إرادة العدو. وتكمن هذه الفكرة في توظيف الذكاء الاصطناعي للسيطرة المباشرة على إرادة كبار صناع القرار، بما في ذلك الرئيس ونواب البرلمان، والقادة المقاتلين، والمواطنين.
وأوضح تاكاغي أن واضعي النظريات في الصين يعتقدون أن الحرب التقليدية، التي نعرفها، توشك أن تتغير؛ إذ يقول إنهم “يتطلعون إلى ما هو أبعد من ذلك، فيعتقدون أن تطور تكنولوجيا المعلومات وصل إلى أقصى حدوده، وأن المجال المعرفي سيكون ميدان الحروب في المستقبل”.
وتؤكد ذلك دراسة أعدها كل من بن نون، الباحث المساعد في معهد “أميركان إنتربرايز”، وكريس باسلر، الزميل بمركز التقييمات الإستراتيجية والميزانية، أيلول/سبتمبر الماضي، إذ يقولا في دراستهما إن منظري الجيش الصيني يعتقدون أنه في ساحات المعارك سيكون هناك دور كبير للذكاء الاصطناعي المتطور بحيث يسمح باتخاذ قرارات أفضل تعطي التفوق للجانب الذي يستطيع الدمج ما بين الإبداع البشري والحسابات الروبوتية.
وأضاف الباحثان أن الذكاء الاصطناعي سيهدف، في المقام الأول، إلى تحقيق مزايا في الحرب النفسية، إذ يدرس الصينيون نموذج “مواجهة معرفية” يهيمن فيها قادة جيش التحرير الشعبي نفسيا على القادة المنافسين، عبر قرارات أفضل وأسرع.
ويبدو أن الولايات المتحدة تدرك خطورة هذه الأبحاث الصينية، ولذلك أقدمت في ديسمبر/كانون الأول الماضي على فرض عقوبات على 12 من معاهد الأبحاث الصينية، و22 من مؤسسات التكنولوجيا في الصين، وعلى رأسها الأكاديمية الصينية للعلوم الطبية العسكرية ومعاهد الأبحاث الـ11 التابعة لها، بسبب استخدام هذه الجهات التكنولوجيا الحيوية لدعم الاستخدامات العسكرية الصينية، بما يشمل أسلحة التحكم في العقول.
وحسب 3 تقارير، أعدها جيش التحرير الشعبي الصيني تعود لعام 2019، حصلت عليها صحيفة “واشنطن تايمز” (Washington Times) الأميركية، أجرت الصين على مدار عدة سنوات أبحاثا تتعلق بالتحكم في العقول، أو حرب العقول، في إطار مساعيها بمجال تطوير الحرب الذكية.
وجاء في أحد هذه التقارير “بدأت الحرب في التحول من السعي إلى تدمير الأجسام إلى شل الخصم والسيطرة عليه.. والتركيز هنا يكون على مهاجمة إرادة العدو على المقاومة، وليس الدمار المادي”، من أجل أن يصبح “العقل هو الهدف الأساسي للهجوم والدفاع” وبالنسبة للأسلحة ذات المفهوم الجديد فإن تحقيق الانتصار من دون قتال لم يعد أمرا بعيد المنال.
المعلومات
ويشير الكولونيل الياباني تاكاغي إلى أن مجال الحرب المعرفية يتطلب كميات ضخمة من المعلومات، وأن الصين لديها ذلك بالفعل؛ فقد جمعت الصين كما هائلا من المعلومات الشخصية عن مسؤولي الحكومة الأميركية وعن مواطنين أميركيين عاديين، مما يضمن لها توفر أساس للتأثير على إدراك هؤلاء الأشخاص.
وبهذه الطريقة، تراكمت لدى الصين كميات ضخمة من البيانات على مدار سنوات، ويمكن توظيفها كسلاح في المستقبل. وقد نجحت بكين في تحديد عملاء الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي إيه” (CIA) في العديد من دول العالم باستخدام هذه البيانات. وكانت هناك محاولات لاستخدام الوسائل الرقمية بهدف التأثير على العملية الانتخابية في الانتخابات الرئاسية التي جرت في تايوان مؤخرا.
وترى بيرغمان أنه رغم أن معظم الناس ينظرون إلى الحرب المعرفية على أنها تنتمي للخيال العلمي، فإن الخبراء يحذرون أنه يتعين على الولايات المتحدة أن تأخذ هذا التهديد على محمل الجد. ويقول تاكاغي إنه يتعين على “أميركا وحلفائها تحليل الحرب الذكية لتجنب أي هجمات مفاجئة في حروب المستقبل”.
أنس زكي – الجزيرة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.