وليد البخاري.. سفير الديموقراطية وحرية الرأي والتعبير!

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

منذ القرن السابع عشر الميلادي وهذا اللبنان الصغير موضع تجاذب بين مكوناته الطائفية مدعومة بقوى خارجية مؤثرة ووفقًا لولاءات هذه المكونات والتي كانت ترتبط بالباب العالي في إستانبول، الذي كان يعين ويقيل ويعزل وينفي الحاكم الذي لا يوافق سياسة الدولة العليَّة وأطماعها. وبموازاة ذلك كانت قد بدأت الدول شرقًا وغربًا ترسل قناصلها وخصوصًا الأوروبية منها، حيث راحت كل جهة من زعامات الطوائف والمناطق ووجهائها بين نصف جبل لبنان الشمالي وجنوبه تطلب ودّهم ورضاهم وتقدِّم الولاء والتبعية لهم تحقيقًا لطموحاتها في المزيد من توسعة القائمقاميات والإقطاعيات ومراكز النفوذ والتي بدأت تأخذ حيزًا من أشكال الدولة والنظام في العام 1845م بتوافقٍ وتشاورٍ بين حكومة الباب العالي وقناصل الدول الكبرى.

حقبةٌ لم تدم طويلًا بل أدخلت البلاد والعباد في ذلك اللبنان في دوامة من النزاعات والخلافات جعلت دور القناصل ونفوذهم أكبر، مارسها البعض منهم بشكلٍ لبِق والآخر بوقاحةٍ مقيتة في مناصرة حلفائهم وعملائهم في الداخل وتوفيرًا للحماية والحصانة لهم.

في هذه الأيَّام يروق للبعض أن يتقمَّص دور القناصل إياه حيث يطالعنا سفير مملكة آل سعود وليد البخاري بتصريحاتٍ مبهرةٍ عند كل مفرقٍ وزيارةٍ، يحدثنا فيها وبلهجة العارف حينًا والآمر أحيانًا عن الديموقراطية والانتخابات، ومنصِّبًا نفسه ناظرًا لاتفاق الطائف ومحذِّرًا وبلباقةٍ مصطنعة وابتسامةٍ صفراء من تجاوز الدستور والقانون والتزام رأي الجمهور من الناس بخياراتهم وتوجهاتهم السياسية، حتى يُخيَّلُ للسامع أن المتحدِّثَ قادمٌ من مملكةٍ هي من أعرق الديموقراطيات في العالم، الحكمُ فيها للشعب وفق دستور عصريٍّ يحميه مجلس نوابٍ منتخب ومجالس محليَّة تعكسُ رأي الناس، وإعلامٌ وفضاءٌ مجازيٌّ حُرّ، مملكةٌ تشهدُ لها ديموقراطيات العالم بتفوقها عليها من حيث حرية التعبير والصحافة الحرة وتعددية الأحزاب ونزاهة الانتخابات وممارسة للشعائر الدينية بعيدًا عن الاعتقال في السجون وضرب الأعناق، حريةُ رأيٍ مُطلقة دون تدخُّلٍ أو ضغطٍ أو شراءٍ للذمم كما فعل ويفعل حتى الآن هو وسفراء آخرون في لبنان وعند كل استحقاق وطني.

كذا فعل في موسم الانتخابات النيابية حيث لم يترك منطقة من المناطق ولا دائرةً من الدوائر الانتخابية تعتب على سعادته وراح يلتقي المرشحين فيها والناخبين على حدِّ سواء، يتدخل في من يترشّح من هذه الجهة أو تلك بل ويتدخل في تشكيل اللوائح الانتخابية وحتى يقرر لمن يُعطى الصوت التفضيلي، وبتنا نرى مرشحين ودائع مختلفةٌ أشكالهم وارتباطاتهم الخارجية وخلفياتهم السياسية في كل دائرة وعلى كُلِّ لائحة، ناهيك عن شراء الهواء المفتوح على قنوات الفتنة ووضيعي الذمة من صحفٍ ومواقع إلكترونية من “شغِّيلةٍ وكسبةٍ ومسترزقين” في الإعلام، وبتوجيه مباشر لهم في إدارة برامجهم ومواقف ضيوفهم، وكلُّنا شهِدنا دور ضابط الإيقاع رجل السفارة على إحدى القنوات يعطي التوجيهات لمقدّم البرنامج الهزيل كصاحبه، وعلى صفحات جرائدهم الصفراء كوجوههم. ورغم خيبات الأمل المتتالية التي مُني بها ذاك الوليد حديثًا في السياسة والغارق في الفشل المتعدِّد السقطات والذي أصابه ومن خلفه ومن معه، مما جعله عرضة للتقريع اللاذع والتأنيب من وليِّ نعمته على ما أهدره من أموال طائلة على ترشيحات وخياراتٍ فاشلة، واليوم يتابع سلوكه الخارج عن أصول الديبلوماسية ومفهوم السيادة الوطنية في التدخل بالشؤون الداخلية للبلد حيث راح مجدَّدًا يصول ويجول من مقر هذا إلى مكتب ذاك يعطي التوجيهات والأوامر للأزلام والمحاسيب: ممنوع انتخاب فُلان أو علَّان، وهذه هي الشروط والمواصفات لرئيس الجمهورية المقبل، آمرًا ناهيًا متأبطًا شرًّا وحقائبَ من الدولار والريال لزوم شراء الذمم والكرامات والسيادة الوطنية.

لقد غاب عن ذهن سعادته وآخرين أنَّ هذا اللبنان الصغير عصيٌّ على مشاريعهم الظلامية المشبوهة، الطائفية والمذهبية، منيعٌ في وجه مخططات تفتيته وتقليب الناس على بعضها البعض ودفعها نحو الاقتتال والفوضى ومحاولات التأثير على استحقاقاته الدستورية، مهما تواطأت معهم جهات داخلية أو خارجية ما زالت تحنُّ إلى زمنٍ بائدٍ لن يعود كانت لهم فيه يدٌ مغمسةٌ بدمِ اللبنانيين وتسلطٌ على مقدرات الدولة وحياة مواطنيها. وفاتهم أنَّ في لبنان عينٌ ساهرةٌ ومقاومة وطنية من كل الأطياف وعلى مساحة الوطن جاهزةٌ للتصدي لمشاريعهم وإفشالها كما حصل خلال الحرب الأهلية الأليمة وما تلاها من مشاريع تقسيمية لكانتونات وغيتوات تحت مظلة الاحتلال الإسرائيلي ودعمه ورعايته بقيت وهمًا يراود رؤوس المنهزمين.

إنَّ لبنان هذا لم يعد هامشيَّ الدور أو خارج الاهتمام الدولي بل هو في صلب الصراع في المنطقة والإقليم، بل هو جزءٌ من التقاطعات الجيوسياسية حول العالم من بحر الصين إلى شواطئ الأطلسي، ليس لقنصلٍ هنا أو سفير موهوم هناك قدرةٌ على التلاعب بمصيره أو بوحدة كيانه وخياراته السيادية، وعليهم وأسيادهم القيام بدراسة أعمق لواقع الجغرافيا والتاريخ والمجتمع في لبنان وما آلت إليه في العقود الأخيرة من تحولاتٍ وخياراتٍ وقدرات ليفهموا هذا اللبنان أكثر فأكثر.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد