في حرب المصطلحات.. “الكيان المؤقت” ضربة موجّهة للعدو

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

زينب فرحات – خاص الناشر |

لطالما شكّلت المصطلحات أهميّة كبيرة في الخطابات السياسيّة والثوريّة الموجّهة إلى جمهور معين، ولذلك إذا ما جرى التدقيق في خطابات كبار القادة المؤثرين في العالم، لوجدنا أن مصطلحاتهم قد اختيرت بعناية، وحملت في مضامينها أثرًا من التاريخ السياسي والاجتماعي للجمهور المتلقّي، ومن موروثه الديني والثقافي، فما يجعل الخطاب مقبولًا لدى أي جمهور هو أن يكون مألوفًا بالنسبة إليه، ومتناغمًا مع ماضيه وحاضره. وهذا ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي “غوستاف لوبون”، في كتابه “سيكولوجيا الجماهير”، بالعوامل البعيدة التي تحدّد آراء الجماهير، أي تلك التي تجعل الجماهير قادرة على تبنّي قناعات معيّنة دون أخرى، وهي التي تمهّد الأرضيّة لتبرعم وانبثاق أفكار جديدة ومدهشة.

يعرّف المصطلح بأنه كلمة أو تعبير له معنى محدّد في بعض الاستخدامات أو خاص بعلم أو فن أو مهنة أو موضوع. أي المعنى هو الأصل في فهم ذواتنا، والآخرين، والأحداث، والأشياء، والمواضيع. وبناءً عليه نكوّن آراءنا التي ستبنى عليها فيما بعد مواقفنا، ثم سلوكيّاتنا. من هنا بحثت الدول الاستعماريّة باكرًا عن أدبيّاتها التي تستطيع من خلالها الهيمنة الفكريّة على شعوب العالم، بعد تقسيمه إلى شرق وغرب، وشمال وجنوب، ومتقدّم ومتخلّف، لتغدو هذه المفاهيم واقعًا يلهم شعوبًا ويحاصر أخرى بصورة نمطيّة مقيتة، وكرّسوا ذلك من خلال المصطلحات. يعبّر د. علي شريعتي، المفكّر الإيراني، بشكل دقيق، عن أثر الصورة النمطيّة في أذهان الشعوب المُستعمَرة، إذ يرى في كتابه “النباهة والاستحمار” أن سياسة الاستعباد والاسترقاق تقتضي التحقير أوّلًا، أي أن يُحقّر الذي يُراد استرقاقه حتى يظن أنه من طبقة دنيا وأسرة منحطّة، ثم يتقبّل الذلّة بصدر رحب، وتحديدًا هذا ما عملت عليه الدول المستعمرة مستعينة على ذلك بالمصطلحات.

تترك المصطلحات أثرًا نفسيًّا كبيرًا في الشعوب، سواء أكان إيجابيًّا أم سلبيًّا، يُحدّد ذلك بحسب الجهة المنتجة لها والقصد من ورائها. يجادل “جورج ميد”، عالم الاجتماع، وأحد مؤسسي نظرية التفاعل الرمزي Symbolic interactionism، بأن الناس يطوّرون صورتهم الذاتيّة من خلال اللغة والتفاعل مع الآخرين، بينما استخدم “تشارلز كولي”، عالم الاجتماع وشريك “ميد” في تأسيس نظرية التفاعل الرمزي، مصطلح “المظهر الزجاجي الذاتي” للتعبير عن فكرة أن معرفة الشخص بمفهومه الذاتي يُحدَّد إلى حد كبير من خلال ردود فعل الآخرين من حوله. وبالتالي، يكون الأشخاص الآخرون بمثابة “مرآة زجاجيّة” تجعلنا نحكم على أنفسنا من خلال النظر إليها.

لكن، إذا كان للدول الاستعماريّة أن تفرض مصطلحاتها على شعوب الأرض، فقد آن للشعوب المُستعمَرة أن تجد في المقابل المصطلحات التي تمثّل آراءها، وتوجّهاتها، وثقافتها، وبالتالي تعكس روحها كجمهور موحّد في سياق معركتها الوجوديّة مع المستعمرين. ولعلّ معركة المصطلحات تتجلّى بأبرز صورتها في صراعنا الوجودي مع “الكيان المؤقت”.

مصطلح “الكيان المؤقت”
“الكيان المؤقت” هو مصطلح ابتُكر بمبادرة فرديّة قام بها “مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير”، وجاء ردًّا على مسمّيات أخرى أطلقها العدو لترسيخ وجوده كدولة شرعيّة في فلسطين مثل “اسرائيل”، وهذه الكلمة حتى لو وردت بين شرطتين تعني أن العالم يعترف بالعدو كدولة لكن أنا لا أعترف. “الكيان المؤقت” أُطلق ليحلّ أيضًا مكان مصطلحات أخرى لم يطلقها العدو لكنها لم تزعجه كونها لم تتعارض مع أيديولوجيته مثل “الكيان الصهيوني”، ذلك أن الصهيونيّة هي صفة ملحقة بالشتيمة، إذ يتضمن دلالة التزاميّة مع الاحتلال والتهجير والعنف وغيرها من الممارسات الإسرائيلية، إلا أن هذا المصطلح معتمد لدى كيان العدو بكل فخر.

بعد إطلاق المصطلح الجديد، أكّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أن “”إسرائيل” هذه ستزول من الوجود وهذا كيان مؤقت وأنا أؤيد اعتماد هذه التسمية”، وأوضح أن “هذا الكيان الصهيوني مؤقت وذاهب إلى الزوال وإذا فرضت حربًا على لبنان فسترى كلَّ بأسنا المتوفر في ذلك الوقت”. تصريحه هذا ورد في مقابلة على قناة “المنار” عن مسيرة السيد عباس الموسوي، ليكون بمثابة إعلان رسمي لاعتماد مصطلح الكيان المؤقّت في أدبياتنا السياسيّة والإعلاميّة، أما بالنسبة للديمومة ومستوى التأثير فالأمر يبقى رهنًا لعملية التأكيد والتكرار التي تعدّ قوام نجاح أيّ خطاب إعلامي يُراد به أن يحفر مجراه للأبد.
يتميّز مصطلح “الكيان المؤقت” بالبساطة، إذ لا يحتاج المرء إلى قاموس ليصل إلى معناه، فهو مفهوم بشكل واضح من قبل الجميع. وهو ليس فقط مصطلحًا يحتوي على أفكار وبروباغندا دعائيّة بل يتمتع بالمصداقيّة التاريخيّة والظرفيّة، ووجوده المؤقت هو استشراف علمي ووعد إلهي. يتمتّع هذا المصطلح بأنه ذو مقدرة تفسيريّة عالية على مستوى فعاليته اللغويّة والمفاهيميّة التي يفترض أن تخاطب الإدراك العربي والصهيوني في آن، فهو من جهة يكرّس حتميّة زوال الكيان في الخطاب العربي الذي بدأ يتصدّع بفعل التنظير المفاهيمي الانهزامي، ومن جهة أخرى، يخاطب مصطلح الكيان المؤقت آمال الشعوب المستضعفة وأحلامها، وهو ما تريد سماعه وتصديقه وتثبيته للخلاص من الظلم والعدوان وكل ما يحصل عليها من مشقات وعقوبات دولية بسبب هذا الكيان.

الواقع أن “الكيان المؤقت” عدا عن كونه يحمل رسالة سياسية مباشرة إلى قادة العدو، فهو يعدّ بمثابة إعلان حرب نفسية على العدو، فكلّما ذكرنا كيانه، ذكّرناه بأنه “مؤقت”، خاصّة أن العدو يعيش حاليًا أزمة وجود كونه تحسّس آثار أزماته الداخلية، والتهديدات التي تحيط به نتيجة سياساته العدوانية التي لم تعد تسكت عنها المنظمات الدوليّة كـ”منظمة العفو الدولية” التي طالبت بمساءلة السلطات الإسرائيلية على ارتكاب جريمة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين. وها هو “كارمي غيلون”، رئيس سابق لجهاز الشاباك، يقول: “استمرار السياسات المتطرفة ضد المسجد الأقصى ستقود إلى حرب يأجوج ومأجوج ضد الشعب اليهودي وستقود إلى خراب إسرائيل”.

أما الشأن الداخلي، فربما لم يصفه مسؤول صهيوني بدقّة كما فعل “غادي آيزنكوت”، رئيس أركان جيش الاحتلال السابق، حين قال: “الأهم من كل التهديدات الخارجية، هو تراجع التماسك الاجتماعي والداخلي في إسرائيل، لأن الصدع في المجتمع الإسرائيلي، والقطيعة المتبادلة بين القادة، وتدهور الحكم، وتراجع الثقة في مؤسسات الدولة والمحاكم، وانتشار الجريمة، هو أكبر تهديد يواجه مستقبل الدولة”. فيما تنبّأ “بنيامين نتنياهو”، رئيس الوزراء السابق، بالنهاية الحتميّة لكيان الاحتلال بقوله: “سأجتهد لأن تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المائة لكن هذا ليس بديهيًا، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تعمر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة وهي دولة الحشمونائيم”.

من جهة أخرى، يأتي مصطلح “الكيان المؤقت” ليسحق محاولات العدو، بدعم من الولايات المتحدة، في ترسيخ كيانه كدولة شرعية في بلادنا، وخاصة خلال السنوات الأخيرة، لا سيما في إعلان “القدس عاصمة أبدية لـ”اسرائيل”” في مقابل “أبو ديس” عاصمة لفلسطين، وفي اتفاقيات ما يسمونه بـ “السلام” بين العدو والإمارات والبحرين والسودان، فيما تنشط الشبكات الإعلاميّة والدبلوماسيّة في أوساط المطبّعين العرب بشكل غير مسبوق في إطار جعل العدو حالة ثابتة لا مجال لتبديلها. “الكيان” المؤقت ينسف هذه المفاهيم التي يعمل عليها العدو مع المتخاذلين العرب منذ سنوات، ليؤكّد لقادته وجيشه والمستوطنين فيه، أنهم جميعًا حالة مؤقتة ستنتهي عاجلًا أم آجلًا.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد