لم يأتِ خبر عزوف الرئيس سعد الحريري عن خوض الانتخابات وتعليق عمل تيار المستقبل السياسي مفاجئًا، فقد كان حديث البلد لعدة أسابيع سبقت القرار، حتى أنّ مناصريه الذين زاروه قبلها بيوم كانوا يعلمون أنه قرار لا رجوع عنه.
أتى وقع القرار باهتًا في الشارع الذي تزعّمه الحريري منذ العام 2005، فالتحرّكات كانت خجولةً وجاءت دون التوقعات، فالحريري كان في السابق صاحب التمثيل الشعبي الأكبر في لبنان وصاحب الكتلة النيابية الأكبر في البرلمان، فلماذا مرّ الخبر مرور الكرام شعبيًا؟
ما هو تيار المستقبل؟
أُعلن تيار المستقبل تيارًا سياسيًا عام 2009، جاء ذلك بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005 وتعرّف اللبنانيين على نجله سعد الذي ورث عن أبيه منصبًا ومالًا وطاقم عمل ومستشارين وعلاقات ودعمًا خارجييْن، واستفاد من موجة الغضب والتعاطف في الشارع الذي حمّل النظام السوري مسؤولية الاغتيال محقّقًا نصرًا بعد بضعة أشهر بانسحاب الجيش السوري من لبنان.
نشط تيار المستقبل بعد ذلك بمكاتبه وخدماته الاجتماعية، فكانت مكاتبه تنتشر في أغلب المناطق اللبنانية لا سيّما ذات الأكثرية السنية والفقيرة، فاستفاد العديد من الناس من إعاشاتٍ وأدوية وحتى من بعض فرص العمل (في إحدى مؤسسات الحريري أو في الدولة).
بعد انتصار المقاومة في حرب تموز، الذي أظهر الأمين العام السيد حسن نصر الله قائدًا عربيًا استطاع كسر الكيان الصهيوني والانتصار عليه واستقبال النازحين وفتح المنازل لهم، كان صعبًا إقناعُ الناس أنّ لبنان ذاهبٌ لفتنةٍ سنية شيعية، ولكن بعد أقل من عامين جرت أحداث السابع من أيار التي اعتبر الرأي العام السنيّ بعدها أنّ حزب الله يمشي بعقيدةٍ لديه تُجيز للشيعي استباحة دم السنيّ ويسعى لقتل السنّة في لبنان تيمنًا بفكر وعقيدة أي فصيل إرهابيّ آخر، فصار ضروريًا عدم كسر الحريري في الانتخابات التي نال بعدها التفافًا شعبيًا كبيرًا ليصبح بمثابة الضمانة الذي سيواجه حزب الله ويردعه عن أي استباحة مستقبلية.
إذًا، تيار المستقبل هو حالة سياسية فرضتها ظروف معيّنة في لبنان وأحداث خدم الخصم فيها الحريري ليصل عام 2009 بأكبر كتلة نيابية وأكبر عدد أصوات انتخابية وكرسيّ رئاسة الحكومة.
محطات جدلية بعد انتخابات 2009
- عام 2011 استقالت حكومة الحريري، وهنا كانت الغيبة الأولى، وهنا خان وليد جنبلاط حليفه الحريري واختار نجيب ميقاتي رئيسًا للحكومة عوضًا عنه.
- عاد الحريري عام 2014 وبدأ باستراتيجية كانت أكثر براغماتية من السابق، وتحوّل من المناهض للسلاح الإيراني إلى شخصية “اليونغ والكول” الذي يلتقط السيلفي مع الشباب ويحتفل معهم في الشارع وفي رأس السنة
- التسوية الرئاسية
- استقالة الحريري من المملكة العربية السعودية، وهنا خانه سمير جعجع الحليف المفترض الثاني الذي طلب إكمال الحياة السياسية بينما طالب خصومه بعودته إلى لبنان وسعوا إلى ذلك حتى استطاع العودة إلى لبنان وتراجع عن استقالته.
- انتخابات 2018 التي نزل فيها عدد نوابه من 36 نائبًا إلى 20 نتيجة أزمة مالية ناتجة عن عدم تمويل المملكة له ومقاطعة الكثير من جمهوره السابق الذي اعتبره فشل في السابق
- استقالة حكومته بعد اندلاع ثورة 17 تشرين وعدم تمكنه من تشكيل حكومة بعدها عام 2021.
لماذا سقط تيار المستقبل؟
أهمّ أمر نبدأ به هو العامل الخارجي. تيار المستقبل أو المشروع بأسره منذ أيام الرئيس الراحل رفيق الحريري كان مدعومًا بشكل أساسيّ من المملكة العربية السعودية التي لا يخفى على أحد أنها كانت من تموّل وتدعم رفيق الحريري، ونجله سعد بعدها، حتى أنها كانت ممّن هندس النظام الاقتصادي في لبنان أو ما عُرف لاحقًا بالحريرية السياسية، والتي هي سبب كبير في أزمتنا اليوم.
ارتباط التيار بالمملكة، دعمًا وتمويلًا، فرض عليه خيارات عديدة في السياسة، بل معظم الخيارات، واستقالة الحريري من السعودية بعد احتجازه وعدم لقائه ولي العهد منذ نحو ثلاث سنوات دليل كافٍ للاعتقاد أنّ قرار الاعتكاف اليوم جاء نتيجة المقاطعة السعودية ووقف الدعم عن تيار المستقبل ورئيسه، حتى أنّ مناصريه يعلمون هذا الأمر ويحمّلون السعودية مسؤولية في ما حصل.
عسى أن يكون هذا درسًا للأحزاب ومناصريها بأنّ دوامَ الحال مُحال وعلى اللبنانيين المسارعة لتسوية خلافاتهم داخليًا بعيدًا عن أيّ إملاءات خارجية لا تخدم الصالح العام الوطني، وأن يكون للدولة اللبنانية علاقات خارجية واضحة وعداء واضح وأصدقاء واضحون ولا يكتفي كل حزب بصنع علاقاته الخارجية وأعدائه بنفسه.
السبب الثاني هو تخلّي حلفائه عنه في مفاصل مهمة مثل القوات والحزب التقدمي الاشتراكي، وقد يكون هذا التخلي بإملاءٍ من الخارج كذلك.
السبب الثالث هو قوة خصمه السياسي المتمثل بحزب الله وحلفائه الذين استطاعوا فرض أمور عديدة عليه من تسويات واستقالات وتشكيل حكومات وقوانين انتخابية تناسبهم، وغيرها العديد من الأمور التي استطاع حزب الله وحليفه التيار الوطني الحر فيها أخذ مكتسبات وتعطيل العديد من مشاريع الحريري على مرّ السنوات.
السبب الرابع الفشل على الصعيد المحليّ والإنمائي والسياسي والوعود التي أعطاها مرارًا وتكرارًا للناس دون أي نتيجة.
شعبية تيار المستقبل والحريري اليوم
اليوم، إن مررت بنفس الطرقات التي كانت يومًا تعجّ بأعلام المستقبل وصور الحريري ستجدها إمّا ممزقة أو أكل الزمن عليها وشرب. تغيب الصور اليوم في الطريق الجديدة سوى من بضعة منازل تُحصى. الأحد كان هناك مواصلات تنقل المناصرين من جميع المناطق ولم ينزل سوى بضع عشرات بعد أن كانت ساحة الشهداء يومًا ما لا تتسع لمناصريه. لم يعد هناك من شيء يقدمه، لم يعد هناك من حاضنة تثق به كما في السابق، لم يعد رجل المرحلة.
الحريري، ومنذ قدومه إلى الساحة اللبنانية، اعتبره أغلب اللبنانيين يافعًا لا خبرةَ لديه، وأنّ من يديره هم مستشارو والده، فرافقه شعار “هو منيح بس اللي حواليه ما مناح” حتى اليوم، ولذلك لم ترَ احتفالات تعمّ الشوارع بقرار اعتزاله وتوزيع حلوى كما لو كان اعتزل أو مات أحد الزعماء الآخرين، حتى خصومه في السياسة عبّروا أنّهم ليسوا فرحين بهذا القرار. (دهشة، ما فيك تلعب ليخة بـ3 لاعبين). وكأنّ الناس تطمح أن يكون زعيمها مجرّد أداة.
نجاح التجربة
ربّما يعدّ تيار المستقبل التجربة الوحيدة التي استطاعت احتواء الطائفة السنية التي هي الأصعب في الاحتواء والجمع لعدة أسباب، أبرزها أنّ السنة هم الوحيدون في لبنان الذين لا يعدّون أقليّة في الشرق، فكان زعيمهم هو الزعيم العربي كالرئيس الراحل جمال عبد الناصر مثلًا. ومن الأسباب الانتشار المناطقي الذي يصعّب على أولاد الطائفة التقارب، فالظروف التي يعيشها ابن بيروت لا يعيشها ابن عكار مثلًا. ومن الأسباب أيضًا صعوبة الذهاب لخطاب التهديد الوجودي وشدّ العصب ولو أنه نجح نوعًا ما بفضل حزب الله في 7 أيار.
أما موضوع غياب رئيس الاعتدال السني فهو غريب نوعًا ما، ماذا يقصدون بالاعتدال؟ وماذا يقصدون بالتطرف؟ هل الشخص بسبب غياب زعيمه سيتغذّى بعقيدةٍ قائمة على وجوبِ قتلِ كلّ من لا يبايعه ويتبع معتقداته سواءٌ كان سنيًّا أم شيعيًا أم مسيحيًّأ أم درزيًّا؟ (الحرب السورية أعطت كل الأدلة أنهم لا يفرّقون بين سنيّ وغير سنيّ). كان في لبنان محاولة لجرّ سنّة لبنان لا سيّما الفقراء لهذا المشروع خلال الحرب السورية من خلال نماذج عديدة أثبتت فشلها وأن لا بيئة حاضنة حقيقية لها ولم يتبعها سوى بضعة أشخاص لن يتجاوز عددهم بضع مئات. ليس الحريري من جعل السنّة في لبنان معتدلين، بل اعتدال السنّة هو من جعل مِن الحريري زعيمًا في مرحلة من المراحل فضّلوه فيها على غيره من المتطرفين أكثر.
كُرِّست الحاجة للزعيم حتى أنها صارت قاعدةً عند الشعب، كرّس زعماء الطوائف وأمراء الحرب هذا الواقع حتى صار شعبهم لا يستطيع حتى تخيّل لبنان من دونهم ولا حياةً إن لم يكن زعيمهم موجودًا.
ماذا يريد السنّة؟
البعض يريد من الحريري العودة، وسيقاطع الانتخابات. البعض يعتبرون حزب الله شريكًا أساسيًّا مهمًّا وصديقًا. البعض يرى أي مرشح ضد حزب الله هو مرشح جيّد. ولكن الغالبية ملّوا من هذا الأداء، وفي 17 تشرين كانوا العصب الأقوى في العواصم الثلاث والبقاع، يريدون أملًا وسط كلِّ الإحباط كسائر غالبية اللبنانيين، يريدون رجل دولة.
أمام واقع بلد منهار وإفلاس وأزمات اقتصادية ونقمة على السياسيين، غياب أحد مواد التجييش (معه وضده) قد يكون فرصةً في المناطق ذات المقاعد السنية للمبادرة بتجربة يحسدهم عليها باقي المناطق، ألا وهي “نحن حالنا بغياب الزعيم كما كان بوجوده” ليتشجع غيرهم للإذعان بأنّ الحاجة للزعيم هي وهمٌ في عقولهم فحسب. لا نحتاج منفردين لزعيم، بل كلّنا نحتاج إلى دولة، وهذه يستحيل تطبيقها بوجود باقي زعمائكم.
من كان من مناصري الحريري لن يختار جعجع الذي يعتبرونه اليوم غدّارًا، ولن ينتخبوا جبران باسيل الذي اتهمهم بالداعشية، ولن ينتخبوا مرشّح المملكة التي حمّلوها مسؤولية التخلي عن الحريري والسعي لتوريطهم بحرب أهلية، ولن يصوّتوا لمن يعتبرونه وصوليًّا. الميل سيكون إمّا للمقاطعة وإمّا انتخاب وجوه جديدة. هل هناك من سينزل عليهم في المظلّة ويأخذ شرعيّتهم؟ أم هل سيكونون السبّاقين لإعلان رغبتهم في دولة فحسب ومن دون وجود “زعيم طائفة” أركانها أشخاص من صلب المجتمع نظيفو الكفّ ودعاة لمن ما زال يعتبر انتماءه للطائفة يسبق انتماءه للبنان الالتحاق بصفوفهم؟ هذه البلاد لنا، نموت معًا أو نعيش معًا، ولكننا لن نعيش كي يموت الآخر. هو مجرّد رجاء، ولكن نأمل أن يكون هو الخيار.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.