لا شك أن الصراع القائم حاليًا بين محور المقاومة والمحور الأميركي ابتدأ صاخبًا مع بداية هذا العقد؛ فتمدد القوة التي أحرزها محور المقاومة على خريطة غرب آسيا وتمظهرها القوي على البقعتين اللبنانية والفلسطينية، مع فشل الحروب “الإسرائيلية” في إعادة عقارب الساعة إلى الخلف في لبنان وفلسطين، دفعت أطراف المحور المقابل لبدء حربهم الاستباقية التي شنوها على سوريا والعراق واليمن في سبيل عزل المقاومة في فلسطين ولبنان عن العمق الاستراتيجي المتمثل بالجمهورية الإسلامية وقطع شريان إمداد أساسي للسلاح الذي يصل إلى غزة بشكل أساسي والذي رأى الاميركيون أن مساره إيران ـ اليمن ـ السودان ـ سيناء ـ غزة. ومنذ أن فتحت أبواب هذه الحرب أدرك الجميع أنها حرب أميركية لحماية “إسرائيل” في سباق الجغرافيا السياسية لغرب آسيا.
هذه الحرب هي ضمن السلسلة الأخيرة من المعارك الخاسرة التي خاضها المحور الأميركي بواجهة خليجية على مساحة غرب آسيا. لقد كان في حساب التحالف السعودي ـ الأميركي أنهم قادرون على حسم الموقف خلال فترة زمنية قصيره مع تشكيلة من الدول التابعة لهم تحت عنوان “التحالف العربي” الذي من مهماته الأساسية إعطاء غطاء سياسي وإعلامي للحرب.
ضمن الخطة الكبرى لصفقة القرن، ومع التيقن “الإسرائيلي” بأن البحر المتوسط لم يعد آمنًا لحركة سفنه التجارية والحربية وأن صواريخ المقاومة تستطيع أن تفرض وبسهولة حصارًا بحريًا عليه، كان خيار البحر الاحمر أساسيًا في مواجهة هذه الحالة، باعتباره محميًّا من مجموعة الدول المشاطئة له والتي تسعى لتنفيذ مخطط صفقة القرن، ومنها السعودية التي تمتلك أطول الشواطىء على البحر الأحمر، ثم مصر. أما دول القرن الإفريقي فلا خوف منها بسبب الوجود الغربي الكبير فيها في قواعد عسكرية برية وبحرية.
ما تبقى لتحويل البحر الأحمر إلى بحيرة “إسرائيلية” آمنة كان السودان واليمن. تولت الدول الخليجية جر السودان إلى التطبيع بعد تقسيمه وإزاحة البشير ثم شراء من تبقى من ضباط وقوى سياسية واستئجار الجيش السوداني للقتال في اليمن، وإدخال الخرطزم في علاقات مع الكيان الصهيوني، وبهذه الطريقة أصبح الساحلان الشرقي والغربي للبحر الاحمر آمنين بشكل كامل للحركة البحرية “الاسرائيلية” باستثناء اليمن. فالموقع الجيوسياسي لليمن إذا لم يكن بيد المحور الأميركي يُفشل كل الخطة المرسومة للبحر الأحمر في سياق صفقة القرن وتحويل هذا البحر إلى بحيرة “إسرائيلية”، فمن يسيطر على باب المندب له الكلمة واليد العليا في التحكم بكامل البحر الأحمر، ولأجل الأمن “الإسرائيلي” شنت الحرب على اليمن.
كيف انعكست صورة الحرب على اليمن في الداخل السعودي؟
الصورة الحالية للحرب التي تنفذها السعودية أصبحت أكثر من عبثية، بل أصبحت بمثابة حياة أو موت بالنسبة للنظام السعودي الذي يقوده محمد بن سلمان على وجه الخصوص؛ فالصراع القائم بين فروع وأجنحة الأمراء السعوديين جعل الكثير منهم في انتظار انتهاء هذه الحرب على أحر من الجمر للانقضاض على جناح ابن سلمان؛ فخسارته لهذه الحرب ستفتح عليه أبواب الانتقام من منافسيه على كرسي العرش، وبالتالي ستوصل إلى حرب داخلية تأكل هذا النظام وتسقط ما تبقى من هيكلة قائمة؛ فهذه الحرب أدت إلى استنزاف الاقتصاد السعودي بشكل هائل، ووفقًا لمجلة فورين بوليسي وصلت التكلفة المتعلقة بصفقات التسلح في بداية الحرب فقط إلى 725 مليار دولار، ومع مرور السنوات السبع أصبح المستنقع اليمني بمثابة ثقب أسود للاقتصاد الخليجي والسعودي.
إن إخضاع اليمن مسألة أخذها ابن سلمان على عاتقه من ضمن الصفقة الكبرى، أي صفقة القرن، التي تضمن له أولًا عرش المملكة مقابل إزالة التهديد اليمني المتمثل بقوة أنصار الله المتنامية، وثانيًا يستفيد منه أن حالة الطوارىء التي تعيشها السعودية نتيجة الحرب على اليمن تبقي حالة الخلاف الداخلي على السلطة تحت الرماد بانتظار التحول الذي ستنتجه الحرب. وإن لم يستطع ابن سلمان حسم الموقف في اليمن، وهذا ما يبدو حاصلًا، فستتحول رؤية 2030 الى هباء منثور، وسيخرج من خياله التربع على عرش المملكة. والمحيطون بابن سلمان يدركون جيدًا أن فشل تنفيذ المشاريع الأميركية المطلوبة ينتج عنه تدحرج الرؤوس التي أخذت على عاتقها عملية التنفيذ. والمشهد القطري غير بعيد فبعد أن كانت قطر الرافعة الأساسية تمويلًا وإعلامًا في الحرب على سوريا شاهدوا كيف تم استبدال الشيخ حمد ووزير خارجيته مباشرة بعد فشل المشروع الأميركي، لذلك فهم لا زالوا يعيشون حالة نكران أن مشروعهم في اليمن خسر وفشل، ومع انتهاء هذه الحرب فإن رؤوسهم ستتدحرج وأولها رأس ابن سلمان.
في المشهد ما قبل الأخير حاول ابن زايد الهروب من المستنقع اليمني وترك ابن سلمان وحيدًا يواجه مصيره المحتوم، إلا أن الأمر الأميركي أعاده الى الساحة لأنه كان شريك ابن سلمان في رفع راية الحرب. وقد رأينا مشهد الهجوم الانتحاري الذي شنته القوات الموالية له في حريب وشبوة ومأرب مع مئات الغارات الجوية التي شنها طيران الإمارات في محاولة جديدة لإحداث تغيير عسكري على محاور القتال؛ فكانت الضربات التي استهدفت العمق الإماراتي وأعادت إظهارهم سياسيًّا وإعلاميًّا وعسكريًّا على أنهم أكثر هشاشة وأن الحرب الإعلامية التي شنوها لم تعطهم أي إنجاز على الأرض.
ماذا بعد انتهاء الحرب على اليمن؟
أصبح واضحًا أن أول حدث سيحصل هو إعلان وفاة مجلس التعاون الخليجي، وأن الهزة التي ستحدث في قلب النظام السعودي ستمتد لتشمل كامل مشيخات الخليج، وستكون القوة التي تبنى في اليمن هي التي لها السيادة على كامل اليمن وعلى مدخل البحر الأحمر في مقابل الدويلات المنضوية تحت العباءة الأميركية، وانتصار اليمنيين سيضاف إلى سجلات الهزائم الأميركية في المنطقة على طريق خروج الأميركيين من كامل غرب آسيا. وما المجازر الانتقامية التي تحصل حاليًّا الا تعبير عن الإفلاس الذي وصل إليه تحالف العدوان ومفصل أساسي في اتجاه إعلان الهزيمة، وسيعود بعد انتهاء هذه الحرب التوجه إلى قلب منطقة الصراع أي فلسطين، وسيتوجه مجددًا المجهر الأميركي للتركيز على الخطر القريب من الكيان الصهيوني أي المقاومة في فلسطين ولبنان، وهناك ستكون آخر جولة من الهزائم الأميركية والاندحار الكامل من كامل غرب آسيا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.