فيما كان الجميعُ منشغلًا بقضاء يوم العطلة في المنتجعات السياحية وقرب المواقد بمختلف أنواعها بهناء وسرور وبحبوحة، كانت المناضلة الأممية دوروثي شيا تكدُّ وتشقى في مطار بيروت الدولي لتحضر لنا، نحن اللبنانيين ناكري الجميل الأميركي، كميّة من اللقاحات ضد وباء كورونا، والتي ثبتت فعاليتها التجريبية.
عجيب أمرنا، كيف نسيء تقدير الجميل الذي ترتكبه هذه السفيرة معنا، والذي بالمناسبة ليس الأول من نوعه، فقد سبقت هدية اللقاحات هدية كمامات لأفراد الجيش من الوباء الشرّير، وحقائب مدرسية مزيّنة بالعلم الأميركي، وأكياس من التموين للجيش بالإضافة إلى قناني زيت القلي.
نعود إلى الهبة الأخيرة. صحيح أنّ الفعالية المخبرية المثبتة إلى الآن هي في قدرة لقاح جونسون أند جونسون على تحقيق أعلى نسبة إصابات بتخثّر الدم، ولكن دعنا من هذه التفاصيل التافهة، فالتخثّر يُعالج بالمسيّلات. مهلًا، نحن نواجه أزمة دواء حادّة! أووه! دعنا من هذا التفصيل أيضًا، فالمهم ليس في نوعية اللقاح وكونه قاتلًا، وليس في تسبّب دولة شيا بأزمة دواء تمنعنا أصلًا من التداوي بحال التعرض لتخثر الدم أو حتى لاحتراقه غضبًا أمام تدهور الوضع المعيشي، أحد مفاعيل الحصار الذي تفرضه دولتها. كلّها تفاصيل تافهة، فالمهم هو أن السفيرة المتصابية أحبّت أن تقلّد فتيات التيك توك وغيره، وأن تشعر بقيمتها كممثلة دبلوماسية لدولة مشهورة بـ”المساعدات”، فما كان منها إلّا أن رقصت لنا في المطار لتزفّ إلينا خبر الهبة الأميركية.
شرّ البليّة ما يضحك، وبعض الضحك تحسّر على كرامة الناس التي لم يترك الأميركيون فرصة إلّا وحاولوا تدنيسها، بموافقة فرقة السياديين اللبنانيين للأفراح والليالي الملاح، وتصفيق ذليل حاد ممّن أكل شرفهم وهْم الجودة الأميركية والشعور بالدونية تجاه “الرجل الأبيض” حدّ القبول بالتحوّل لفئران تجارب يُجرّب فيها المجرَّب. ربما من المنطقي أن لا يخشى هؤلاء على دمهم من التخثر، فهم بحسب ما بدا منهم “بلا دم” أصلًا.
إذًا، على وقع تمايل شيا التي بحمد الله فاتها أن تدعو فرقة موسيقية عسكرية تعزف لها، منّت علينا أميركا بهبة جونسون أند جونسون. الأمر برمته حركة “بايخة” إلّا أنّها تستدعي الكثير من التساؤلات التي تتعدّى مخاطر اللقاح المتبرّع به. هذه التساؤلات موجّهة إلى الجماعات الذين تحولوا يوم طُرح موضوع الدواء الإيراني إلى خبراء في الصناعات الدوائية وإلى متخصّصين في التركيبات العلاجية. يومها، فات هؤلاء الخبراء الذين لم يختبروا شيئًا (على طريقة شاهد ما شفش حاجة) أنّ الصناعة الدوائية في إيران حائزة على الثقة العالمية أصلًا، وقرروا اعتبار الدواء الإيراني محاولة لقتلهم، مصرّين على أنّهم محور الكون وأنّ المختبرات الطبية في إيران اجتهدت طوال السنين الماضية لصناعة عقاقير تستهدف الجينات الفينيقية وتقتل حامليها. وصل هذا التعاطي الهستيري مع الموضوع بالبعض إلى حدّ التوصية برفضهم للتداوي بأي عقار إيراني الصنع مهما ساءت أحوالهم الصحية. هؤلاء الخبراء، عادوا بالأمس إلى حجمهم التافه الطبيعي، ووقفوا يصفقون للقاح أميركي ثبت مخبريًا أنّ أعراضه الجانبية تشبه بمفاعيلها الدولة التي تصنّعه، ببساطة. تخلوا عن رهابهم الصحّي وعن مخاوفهم وعن خبراتهم في التركيبات الدوائية وبلعوا ألسنتهم.
عجيب أمرنا. عجيبة دونية بعضنا. عجيبة قدرة هذا البعض على الازدواجية. ونقول الازدواجية على سبيل حسن الظنّ واستبعادًا لاحتمال الحقد على الإيراني ولو أهداهم ماء العين، والخضوع للأميركي ولو حقن في أعينهم سمًّا قاتلًا. هم لا يريدون دواء إيرانيًا ثبتت فعاليته عالميًا، لكنهم يقبلون بلقاح أميركي ثبتت مخاطره إلى حدّ منعه عالمياً. هاتان الجملتان تختصران حال الكثيرين من لبنانيي عوكر وتوجزان أسلوب تعاطيهم مع سائر الملفات. لم تكذب الأمثال الشعبية يومًا، ولو شئنا استحضارها اليوم لكان أوّل الحاضرين ذلك الذي يقول: “نكاية بالطهارة…”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.