مستقبلنا أسودُ من حاضرِنا

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

نحبّ أسماء الكنية في بلادنا، وفي العديد من الأحيانِ نستخدمها أكثر من الاسم الأصلي، نعتبرها تعبّر عن حبّنا للمنادى أو طريقة مناداة تميّزنا أو تميّز المنادى. من الكنية الدينية مثل “حاج وحاجة” إلى مناداتهم الزوجين حسب اسم طفلهما البكر، أبو وأم وليد مثلًا، إلى الكنى التي تتعلق بمهنة المنادى أو فعلٍ أو قولٍ اشتهر به وغيرها، وهكذا كان لكلّ اسمٍ رسميّ كنية أو كنى عديدة خاصة به.

لبنان كان له نصيب وافر من الكنى، فكان سويسرا الشرق ومكتبة العرب ومنارة العرب ومستشفى الشرق الأوسط ولؤلؤة الشرق، وغيرها من كنى عبّرت عن حقب تميّز بها لبنان في تاريخه الحديث والمعاصر.

امتاز لبنان الحديث بأن كان بمثابة متنفّس للعرب، فكان مرتعًا للشعراء والأدباء العرب الذين وجدوا فيه رونقًا تميّز به وسط محيطه، فجمع لبنان أجمل ما في دول المحيط في بضعة كيلومترات. كان يتمتّع بحرية –وإن كان مبالغًا بوصفها حرية– تتفوق على كل البلاد العربية، فكان ملاذًا لكل من جاء يتكلّم بـ”تابو” بلده. كان أيضًا يُعتبر “منفتحًا” أكثر من سائر البلاد العربية على العادات الغربية، مسارح وصالات سينما وحفلات موسيقية، ملاهٍ ليلية ومسابح ونوادي تزلّج ومناظر طبيعية، مطبخٌ تجد فيه الأكل الصحي والأكل الثقيل والمطبخين الشرقي والغربي، تراث وحضارة وقلاع وآثار تعود لآلاف السنوات، كلّ ما قد يدفعك للسياحة موجودٌ في مساحة صغيرة اسمها لبنان ارتبط به معنويًا العديد من العرب من مصريين وسعوديين وعراقيين وكويتيين وغيرهم، فباتت زيارته بالنسبة لهم هي لحظة السكون تلك التي تشعر بها عندما تمرّ داخل نفق منتصف ليلة ماطرة، أحبّوه واعتبروه يخدم دوره بشكل ممتاز، سياحةً ومصرفًا وخدماتٍ.

الجيل الحالي قد لا يذكر، ولكن قبل نحو عشرين عامًا، كان وسط المدينة يعجّ بالسياح مدار العام، كنت تصل شارع الحمرا فتشعر وكأنك أصبحتَ داخل مجتمع آخر، فكنت ترى الخليجيين والإيرانيين والعراقيين أكثر من اللبنانيين، وإن كان موسم مهرجانات لرأيت الصفوف الأولى تعجّ بالعرب الذين كانوا مستعدين أن يحجزوا تذكرة طائرة لمجرد حضور حفلِ مطربٍ أو فنانةٍ ما في لبنان. هذا عدا عن المصايف كعاليه وبحمدون وبرمانا حيث كان سكان ومالكو الشقق السكنية يكتفون السنة كلها من عائدات موسم الصيف فقط.

في تاريخنا المعاصر تراجع هذا الدور نوعًا ما، لم نرَ سياحًا عربًا منذ زمن، وحديثًا لم يعد هناك ما يأتون من أجله حتى. وإن أردنا التفكير بالأسباب سنجد عواملَ عديدة أدّت لهذا التراجع.

سياحيًّا
الإجابة عن سؤال لماذا تدهورت السياحة يكون بسؤال: لماذا كان السياح يأتون إلى لبنان؟ ماذا تغيّر؟

السياحة في لبنان كانت نوعين رئيسيين: سياحة تراثية وسياحة ترفيهية. عمد العديد من السياح لزيارة لبنان للذهاب إلى مطاعمِه وتجربة طعامه، قصْد شواطئه وأسواقه وآثاره ومناخه، حضور المهرجانات الغنائية والراقصة ومسارحِه.

اليوم ذهب كل شيء. نتيجةً لغياب الكهرباء وغلاء الأسعار اضطرّ العديد من أصحاب المطاعم إلى شراء مقادير أرخص ذات جودة أقل، وساءت أكثر نتيجة عدم التخزين السليم، شواطئ لبنان من الأكثر تلوّثًا في العالم، أسواقُه باتت مقفلة، وأحراجُه تأكلها النيران واحدًا تلو الآخر.

اليوم لا يخفى على أحد حجم تنظيم المهرجانات خصوصًا في الخليج، في السعودية مهرجانا الرياض وجدة كانا من الأضخم عالميًا، الفنانون اللبنانيون باتوا يطرحون الأغاني باللهجة الخليجية -ليس عيبًا- للترويج لأعمالهم حيث المهرجانات والأموال بعد أن كانت في يوم من الأيّام هنا في لبنان. المعارض والمؤتمرات التي كانت تعقد دوريًا في بيروت باتت تعقد في بلدان أخرى، فخسر لبنان مكانته كقبلة للحريات في الشرق كذلك.

ومن الأسباب أيضًا تحذير أغلب دول العالم الأول ودول الخليج وغيرها رعاياها من القدوم إلى لبنان، وهو التحذير الذي كان شبهَ دائم منذ اغتيال الرئيس الحريري عام 2005 وحتى اليوم وصولًا لمقاطعته تمامًا.

تمشي اليوم وسط شوارع مظلمة موحشة فارغة، تتأمّل ذكرياتك في أسواقٍ باتت مقفلةً بالكامل كواقفٍ على الأطلال، مدينتي أضحت خاوية.

مصرفيًا
إن افترضنا عودة الأموال للمودعين بأعجوبةٍ ما، هل ستثق بالمصرف فورًا وتضع أموالك فيه مجدّدًا؟ طبعًا لا. فكيف بالأجنبي؟ وقعت المصارف بسبب قمارها في فخّ سيستغرق عقودًا من الزمن قبل أن تنساه الناس فخسر نموذج لبنان وجهًا اقتصاديًا من أبرز وجوهه.

استشفائيًا
في بلد يغيب فيه شتى أنواع الإحصاءات يكفي أن تدخل مستشفى وتسأل عن أرقام الأطباء الذين هاجروا في السنتين الأخيرتين لتعلم حجم الأزمة المستقبلية في هذا القطاع. أسعار الأدوية وتكاليف المستشفيات باتت عبئًا كبيرًا بعد أن كان لبنان يومًا مركزًا استشفائيًا إقليميًا لاحتوائه على أعلى نسبة أطباء حسب عدد السكان وتميّز قطاعه الطبي بالخبرات والتكنولوجيا التي لم تكن متوفرة في غيره.

اليد العاملة
هي أزمة قديمة جديدة. البطالة في لبنان من أبرز أسباب هجرة شبابه وطاقاته. وكان بديهيًا زيادةُ البطالة في السنتين الأخيرتين.
اليوم ترى صورًا يومية لأشخاص تعرفهم داخل المطار يودعون متابعيهم وأصدقاءهم. الأرقام أيضًا ليست دقيقة، ولكن أقلّ التقديرات أشار لنحو ثمانين ألف مهاجر منذ بداية الأزمة حتى اليوم، وأقصاها تحدث عن نحو مائتين وخمسين ألفًا. في بلد بحجم لبنان هذا رقم مخيف.

خريجو الجامعات يتسابقون بالتقديم لجامعات أجنبية وأعمال خارج لبنان من أجلِ تأمين مستقبلهم ومستقبل من سيبقى من عائلتهم هنا. ربما علينا الاقتناع بأنّ من ذهب لن يرجع، كما لم يرجع السابقون، كلنا صرنا على هذا الدرب سائرين.

قريبًا، حتى لو استطاع لبنان بأعجوبة أن يجذب استثمارات وأن يبدأ بمعالجة أزمته لن يستطيع أن يجد من يُستثمر فيه؛ لا طاقات، لا يد عاملة، لا مقيمين. وحتى لو أراد لبنان أن يلعب نفس الدور الذي لعبه سابقًا فقد أصبح متأخرًا كثيرًا حيث استفادت عدة بلدان من ضعفه وأزمته لكي تعزّز نفسها قبلةً جديدة للسياحة والاستثمارات والمعارض والمهرجانات وغيرها.

وهنا السؤال الجدي: ماذا سيكون شكل لبنان القادم إن بقي لبنان؟ هل سيبقى نموذجًا سياحيًا خدماتيًا ترفيهيًا مصرفيًا كما كان؟ مجاراةُ غيره باتت أصعب من الخروج من الأزمة الاقتصادية نفسها. هل نريد نموذجًا اقتصاديًا منتجًا واكتفاءً ذاتيًا؟ حسنًا، هل ستبقى خبرات وطاقات ويد عاملة ومتعلّمة كي تنفّذ هذا الأمر؟

هذه هي الخطورة، تغيّر المجتمع اللبناني كثيرًا في العقود الأخيرة، كان ليكون عندنا مجتمع آخر لولا الهجرة. التفكير بكمية الطاقات التي خسرها لبنان منذ الحرب الأهلية وحتى اليوم فقط أمر مرعب. أجيال كاملة تمّ التفريط بها والحكم عليها بالهجرة نتيجة صراعات وأزمات متتالية. عندما تحصل صدفة لا أحد يعلّق، إن حصلت صدفتان سيقال عجبًا، ولكن عندما تحدث صدفة تلو صدفة تلو صدفة تصبّ كلها في نتيجة واحدة تصبح أمرًا مدروسًا ومخططًا، تهجيرنا جميعًا حتى لا يبقى منا سوى من يهتف بالولاء دون طرح أي سؤال وأي اعتراض.

لا تُلام أيُّ دولة تستفيد من أزمة لبنان لسرقة طاقاته سوى أخلاقيًا، فهذه الدول تعمل لأجل مصلحتها ونحن بدورنا نعمل لمصلحة نفس الدول؛ ففي كل مرّةٍ وقع لبنان فيها خسر جزءًا كبيرًا من مجتمعه، وهو الثروة الأهم، فما فائدة النفط والغاز والذهب والماء وحتى الأرض، إن لم يكن لديك شعبٌ عليها؟

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد