على حافّة بيروت، تداخل ذات تهجير مخيّمان: صبرا وشاتيلا، صارا مدينة مصغّرة تضمّ في بيوتها وأزقّتها ومرافقها الطبيّة والتجارية الصغيرة فلسطينيين ولبنانيين وسوريين ومصريين وجنسيات أخرى. المشترك بين الجميع كان الهويّة الثقافية والوطنية الواضحة، والفقر بدرجات متفاوتة، والشعور بالانتماء إلى قضيّة فلسطين، والعداوة تجاه المشروع الصهيوني الذي كان في طور التشكّل في لبنان، والاستشهاد في ليلات المجزرة.
في أيلول ١٩٨٥ صار اسم تلك المدينة المثخنة بالهمّ وبالتعب يختصر حكاية تتفوّق تفاصيلها على كلّ ما يمكن أن يمرّ في خيال كتّاب حكايات الرعب. “صبرا وشاتيلا”، اسم كلّما مرّ في أيامنا يفوح بدمِ شهداء لم تجزم أيّ جهة تعدادهم بدقّة؛ فلهول المشهد والحدث، لم يتمكّن أيّ أحد من تأكيد العدد النهائي لمن قضوا قتلًا وغدرًا في الظلام. بدا أن كلّ مواجع الأرض اجتمعت في مكان واحد، وكلّ شرور العالم انسكبت في بقعة واحدة، وحلّت على أجساد الناس بالبلطات وبالسكاكين وبالرصاص وبالخناجر.
كان القتلة يجوبون المخيّم كمصاصي الدماء، يهاجمون الناس حيثما وجدوهم، في البيوت وفي الشوارع وفي المحال، يهاجمون كلّ الأحياء، حتى الأجنّة في أرحام أمهاتهم، ولا يتركونهم إلّا جثثًا غارقة في دمها، وفي حزننا الذي لا تزيله الأيام.
بلغت اليوم مجزرة صبرا وشاتيلا عامها التاسع والثلاثين. كبرت وكبر معها غضبٌ مخضّب بالقهر وبالدم المظلوم وبالغدر وبالحزن الذي لا ينطفىء. كبرت ولم تزل مدينة للفقراء، وما زال بإمكان العين أن تلمح على جدرانها خيالات القتلة وهم يتسلّلون إلى البيوت النائمة فوق قهرها، وما زال يمكن أن تسمع في الأزقة شهقات الذين قضوا مظلومين وقد صارت كومة من لعنات تلاحق كلّ من أمر ونفذ وسهّل وبرّر وصمت تحت أيّ ذريعة.
“صبرا وشاتيلا” مدينة صارت مجزرة، وحياة لم تغفُ منذ ذلك اللّيل، تمضي العمر بعينين مفتوحتين ويدٍ تشير أبدًا إلى القاتل.
ولأن التاريخ لا يُزوّر مهما امتدت أيدي القتلة إلى الحقائق كي تمحو منها ما يفضحها ويدينها.
لأن الدم لا يهون ولا يُنسى ولا يصير ماءً أو غبارًا.
لأن في دمِ كلّ حيّ فينا صلة قرابة أو معرفة أو حكاية عن شهيد ارتفع إلى السماء من صبرا وشاتيلا، أو عائلة أُخرجت من جداول أسماء الأحياء، أو ناجٍ ما زال يحدّق في ذلك العتم كأن الصبح لم يشرق بعده.
ولأن “صبرا وشاتيلا” حكايتنا التي كُتبت على الجدران بدمنا، والتي تحدّثنا عن المدى الذي قد يبلغه الشرّ الصهيوني وأدواته اللعينة في ابتكار أساليب قتلنا، حين يستطيع إلى قتلنا سبيلًا.
ولأن التاريخ الذي ندوّنه صادقين هو الحقيقة الباقية، وهو الحكاية التي سنتداولها جيلًا بعد جيل، كي لا ينسى طفلٌ من أطفالنا تفصيلًا صغيرًا من حكايتنا على هذه الأرض.
لأجل هذا كلّه، يفرض علينا الواجب الأخلاقي والإنساني والتوعوي تجاه أنفسنا وتجاه أولادنا وتجاه ذاكرتنا الجماعية أن لا تمرّ ذكرى المجزرة بلا التوقف عندها مطوّلًا، وتناولها من كافة زواياها.
لذا، وبمشاركة “دار المجمّع الإبداعي”، ينضمّ إلى ملفاتنا في موقع الناشر ملف “صبرا وشاتيلا” كمحطة نعود منها إلى عام 1982، كي نرى ونروي الحكاية بكلّ تفاصيلها، حكاية “صبرا وشاتيلا” التي لا تنقضي بمرور الزمان.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.