مع انطلاق الحراك الملون في لبنان منذ 17 تشرين جهدت القوى المنظمة لهذا الحراك على إطلاق التسمية الأكثر قبولًا في ذهنية الناس ألا وهي “الثورة”، هذا المصطلح الجذّاب الذي يشد القاصي والداني ويأخذه في حالة من السكر المعنوي لترسّخه في الأذهان بأن الثورة هي حالة تغييرية داخل المجتمعات والدول على غرار الثورة الفرنسية، والبلشفية، والصينية، والكوبية، والإيرانية، والجزائرية…
مع بداية الربيع العربي اليابس عمم هذا المصطلح على المجتمعات العربية اليائسة، وخاصة الشباب العربي اليائس الذي عانى طوال فترة حكم الأنظمة البائسة التي خلقها سايكس ـ بيكو. في العقد الأخير انتهت مفاعيل سايكس ـ بيكو السياسية، واهترأت الأنظمة الناتجة عنه، وحان الوقت عند الأميركي لتبديل الوجوه التي تنفذ سياسة تقييد المجتمعات الى وجوه ثانية تنفذ سياسة تحطيم المجتمعات، ذلك لأن المستعمر الغربي والأميركي فقد بالصيغة الأولى السيطرة بفضل نشوء حركات المقاومة، وأنظمة المقاومة، وتشبيكها بطريقة ذكية وعصية على أنظمة الاحتلال، والتطبيع، ومخلفات الاستعمار.
جاء “جين شارب” منظر ثورات اللاعنف وبإيعاز من الإدارة الأميركية، ومراكز ومعاهد الفوضى الخلاقة وتحت عناوين الحرية والثورة الملونة، وبدعم إعلامي غير مسبوق لاستغلال وإدارة معظم الشباب الذي يريد أن ينفض اليأس الواقع فيه نتيجة فساد الأنظمة وسرقة ثروات الدول، وبدل أن يفهم الجيل الشاب والقادر على التغيير نقاط القوة التي يجب أن يعمل عليها تم خداعه وتوجيهه نحو تدمير واستباحة كل شيء، واعتماد أساليب وخطاب إعلامي يسيطر عليه اللاعبون وراء الستار، عبر منظمات وجمعيات لها سمة المجتمع المدني لتشكل هذه المنظمات حكومة ظل لإدارة الفوضى في الشوارع، وتوجيه هوى الشارع العام نحو العداء للفئة التي لها الإدراك الصحيح والوعي الكامل لما يحدث، والعارفة بما تريده الولايات المتحدة بشكل دقيق.
إذًا، فبدل أن تكون الثورات في بلادنا ثورات وعي هادفة، تم تحويلها الى ثورات ملونة تريد أن تلطخ بألوانها القذرة التشكيلة الرافعة بشكل صحيح للبلاد من حركات، وأنظمة مقاومة، وهذا ما تمت تجربته بثورة خضراء في ايران، وسوداء في سوريا والعراق، ومتعددة الألوان في لبنان.
كان لبنان المفصل الأساسي في ما سمي بالربيع العربي، وقد جربت نسخات عديدة بدءا من ثورة الأرز وصولا الى 17 تشرين مرورا بمشروع الشرق الأوسط الجديد 2006 حيث كانت السفارة الأميركية تمارس أشكالًا متعددة من الدورات “الثورية” صعودًا وهبوطًا حسب العوامل التي نمر بها.
ما حصل في لبنان كان زائدًا عليه دور مفرط في الظهور العلني للسفارة الأمريكية، ودورها في التنظيم، والترتيب، والإدارة عبر اعتمادها جمعيات مدنية أفرزتها الأحزاب التابعة للسياسة الأمريكية، وكذلك دخول الإدارة الأمريكية على الساحة بفرض حصار غير معلن على لبنان لتسريع عملية انهيار الدولة والمجتمع اللبنانيين.
القوى المعادية للولايات المتحدة وعلى رأسها حزب الله عملت إعلاميًا على تسليط الضوء على الهدف الأميركي من الحراك الذي بدأ في 17 تشرين، وقاد السيد نصر الله شخصيًا الهجوم الإعلامي المعاكس بنجاح، وحصر المسرح الذي حضرته السفارة الأمريكية عند القوى التابعة لها ومنع التمدد الفوضوي له. ومع مرور الوقت بدأت الرؤيه يتوضح عند معظم القواعد الشعبية، أن هناك حصارًا أميركيًّا غير معلن ينفذ عبر وكلائها الإقليميين والداخليين في لبنان لإسقاط ما تبقى من صورة للدولة على رؤوس الجميع.
حشدت السفارة الأميركية في لبنان كافة القوى المعادية للمقاومة في لبنان، وألبستهم لبوس “الثوره” الزائف. ومع الضخ الإعلامي صدقت شريحه واسعه من اللبنانيين أن هناك من يريد التغيير فعليًا، ومع توسع الضغط الأمريكي على البلد، والحصار الاقتصادي الذي طال الجميع بدأ التململ الشعبي من الحصول على نتيجة فعلية لما يحدث، ومع وصول البلل الى كل الشعب اللبناني من الخبز إلى الدواء والمحروقات، كانت اللحظة المناسبة لقيادة المقاومة لإعلان بدء الهجوم المعاكس والمباشر على السفارة الأميركية وأزلامها، وكان تحطيم الحصار عبر إعلان استقدام النفط من الجمهورية الإسلامية.
مفاعيل القرار النفطي صدمت الإدارة الأميركية بطريقة الإعلان والتجهيز والتنفيذ. وقد جاءت هذه الخطوة بمثابة ضربة ثلاثية الأبعاد، فالبعد الأول كسر كل مفاعيل الحصار، والبعد الثاني إجبار الأميركي على كسر قانون قيصر عبر خط الغاز المصري، والبعد الثالث إنهاء كل مفاعيل منظمات المجتمع المدني على الأرض والانتهاء من الثورة الزائفة التي كانت الحصان الرابح الذي راهن عليه الأميركيون.
باختصار بنى الأميركيون سفينة حصارهم على أخشاب مسندة من قوى سياسية زرعوها بين ظهرانينا على مدى عقود فيها الكثير من التقلبات السياسية. ومع فشل كافة تجاربهم في إضعاف التمدد المقاوم قرروا الاستعانة بأشرعة ملونة وسوارٍ من المنظمات المدنية، فجاء النفط المقاوم من الجمهورية الإسلامية وأحرق سفن الحصار الأميركي وثورته الملونة وأقام جدارًا كان يريد أن ينقض وحفظ كنز العزة لأشرف الناس.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.