بين الخطاب السياسي والانفعالات الطائفية.. شارل جبور مثالًا

27

يشكّل شارل جبّور أحد النماذج الإعلامية – الحزبية في المشهد اللبناني المعاصر، وخصوصًا ضمن الخطاب الذي تنتجه بعض المنصّات القريبة من حزب “القوات اللبنانية”. وقد برز جبّور خلال السنوات الأخيرة كأحد أكثر الأصوات حدّةً وفظاظةً في مقاربة ملفّ المقاومة وبيئتها، حيث تجاوز خطابه السقف السياسي التقليدي نحو مستويات ذات طابع طائفي – ديني، ترافقت أحيانًا مع تموضع كلامي تحريضي يتقاطع ويتماهى إستراتيجيًا مع المواقف الإسرائيلية في قضايا تتعلّق بسلاح المقاومة وجمهورها، وبنية الأمن الاجتماعي اللبناني، ومسارات الصراع في المنطقة والإقليم.

هذه المقالة لا تهدف لإصدار أحكام شخصية، ولست خبيرًا سيكولوجيًا، بل تسعى لقراءة المنظومة النفسية الخطابية التي تحكم سلوك شخص ما مثل شارل جبّور، عبر تحليل ما يظهر من مواقف ولغة وسلوك إعلامي، وكيف تساهم تلك العناصر في إنتاج خطاب يستدعي تفكيكًا أعمق لخلفياته من مجرد الخلاف السياسي.

يمكن مقاربة جبّور ليس كفرد معزول، بل كجزء من خطاب حزبي يشتغل على إعادة تعريف “الهوية السياسية” للجمهور المسيحي كما يدّعون عبر ثنائية “الأمن الوجودي والتهديد الديموغرافي”، وتأطير المقاومة وتقديمها كخطر بنيوي لا كطرف سياسي لبناني، مع إعادة تموضع وإنتاج للسردية حول العدو بحيث يتراجع البعد الإسرائيلي لمصلحة التركيز على “العدو الداخلي”.

بهذا المعنى، يصبح جبّور نتاجًا لتركيبة سياسية – إعلامية تعيد إنتاج نفسها عبر أشخاص تمتلك القدرة على التعبئة الانفعالية الطائفية، وإدارة التوتّر، وإعادة تدوير الخوف الجماعي.

يدلّ تتبّع خطاب جبّور إلى تفكك اللغة السياسية التقليدية وتحوّل لافت للغة تتجاوز النقد السياسي إلى التوصيف والفرز حسب الهوية (كعادتهم منذ الحرب الأهلية في العام 1975) باستخدام تعبيرات تُسقِط على بيئة المقاومة صفات جماعية ذات طابع ديني وطائفي أو ثقافي، ما يحوّل الخلاف من سياسي إلى وجودي وفق اعتقاده.

وبدلًا من مقاربة المقاومة كتنظيم سياسي – عسكري له خياراته الوطنية والسيادية في مواجهة العدوان والاحتلال الإسرائيلي، تجري شخصنة الصراع وتعميمه، ويتحوّل النقد إلى هجوم على “جماعة” أو “ثقافة” أو “عقيدة”، وهذا أحد أوضح مؤشرات الانزلاق الطائفي، بل يذهب الخطاب في أحيان كثيرة إلى تفكيك مفهوم الاختلاف حول القضايا الوطنية إلى مستويات من الاتهام والشيطنة تُصعِّب وتُعقِّد إجراء أي حوار سياسي لاحق.

هذا النوع من الخطاب لا يُقرأ بمعزل عن التحوّلات الاجتماعية والسياسية التي مرّ بها لبنان، ولا عن رسائل قوى اليمين الانعزالي التي يمثلها جبّور ويعبِّر عن ثقافتها ومكنوناتها ومواقفها.

من غير الممكن إطلاق تشخيص نفسي لشخصية عامة، لكن يمكن تحليل البنية الخطابية للكشف عن مكوّنات سيكولوجية تظهر في الأداء الإعلامي. خطابه يقوم على الدفاع عن “جماعة” محدّدة، ما يجعل أي نقد أو هجوم على المقاومة وبيئتها يبدو في وعيه امتدادًا لـ “معركة بقاء”. هذا النوع من الخطاب ينتج انفعالات حادّة لا يعلم إلا الله متى تجري ترجمتها على الأرض، ويُقصي المنطق التحليلي لصالح الاستنفار الشعوري.

يميل جبّور في خطابه إلى بناء ثنائيات حادّة مثل نحنُ وهُم ، خيرٌ وشر، دولةٌ ودويلة، شرعيةٌ ولاشرعية، هذه الثنائيات هي آلية دفاع نفسي وشيء من خطاب رد فعل انفعالي، علَّها تساعده على تبسيط تناقضات الواقع والعمل على استقطاب الشارع (المشحون أصلًا) بوصفه آلية حماية نفسية، وتمنع الاعتراف بالتعقيد الحاصل في المشهد العام للبلاد.

عند تصعيد الخطاب إلى مستويات طائفية، تظهر محاولاته الفاشلة الهزيلة والمكشوفة لتبرير الموقف على أنه “قراءة واقعية” أو “تحذير وجودي”، وكل هذا يوحي بوجود توتّر داخلي بين اللغة المستخدمة وبين إدراك المتحدِّث لخطورة تعبيراته.

يظهر جبّور غالبًا في موقع من يقدّم “حقيقة مطلقة” لا تقبل المراجعة وباستعلاء في حاجة إلى إظهار التفوّق المعرفي، وهذا يشير إلى نمط نفسي يقوم على تعزيز الأنا عبر اليقين العدائي، لا عبر البحث المعرفي.

من خلال تتبّع أدائه الإعلامي يظهر لديه الاضطراب السلوكي في الخطاب شكلًا ومضمونًا، وعدم اتساق في المواقف بين التحليل السياسي الهادئ والمداخلات الانفعالية ذات الطابع الطائفي، مشفوعة بتصعيد لغوي متدرّج يصل إلى حدود لم تكن جزءًا من العرف الإعلامي اللبناني في كثيرٍ من المراحل السابقة، مع تكرار مفردات تُحاكي الخطاب الإسرائيلي عن “الخطر الشيعي” أو “سلاح الخارج”، ما يعطي انطباعًا بالتماهي السياسي أو الخطابي (تلامس حدود الدور)، الأمر الذي يعزّز حالة التوتّر الطائفي الداخلي.

هذا التذبذب اللغوي والسلوكي لديه يعكس بنية داخلية متوتّرة لدى حزب القوات اللبنانية ومناصريه، تتعامل مع المشهد اللبناني باعتباره ساحة صراع وجودي وليس تنافسًا سياسيًا.

يمكن تلخيص أبرز العوامل والأسباب التي تولّد الحدّة والعداء في موقف جبّور تجاه المقاومة وبيئتها، أولها العامل الهويّاتي الطائفي، حيث تتموضع مواقفه داخل سردية تعتبر أن توازن القوى الحالي يهدّد “الهوية السياسية” للمسيحيين، في استحضار للنكسات والهزائم التاريخية التي مُني بها مشروع المارونية السياسية الانعزالي “السياسي والسلطوي” منذ العام 1943 وحتى اليوم، وبالتالي تصبح المقاومة في هذا الوعي بمثابة خطر على الوجود لا على السلطة فقط.

وثانيها العامل الحزبي، حيث يلعب موقع جبّور كناطق إعلامي لحزبه دورًا في تضخيم الخطاب، إذ يتقاطع أداؤه مع إستراتيجية “الحدّ الأقصى” في العدائية التي تعتمدها بعض القوى اللبنانية اليمينية وغيرها في مواجهة المقاومة.

ثالثها، أنَّ الخطاب يغلب عليه طابع نفسي مشحون وحنق مكبوت، ويظهر غالبًا في شكل انفجار لغوي عند مناقشة ملفات تتعلق بالمقاومة، ما يدل على شحنة غيظ انفعالية طائفية تتجاوز الإطار السياسي.

رابعها، التقاطع مع خطاب بعض القوى الدولية والإقليمية المناهضة والمعادية للمقاومة يجعل اللغة المستخدمة جزءًا من منظومة أوسع من الدعاية السياسية لتدخل في إطار التحريض والتماهي مع رواية العدو.

إن تحليل شخصية شارل جبّور كما تتجلّى في الخطاب الإعلامي، يكشف عن حالة مركّبة ومعقَّدة تتشابك فيها السياسة بالهوية، واللغة بالانفعال، والموقف الحزبي بالبنية النفسية. فخطابه ليس مجرّد اختلاف سياسي مع المقاومة أو مع بيئتها، بل يحمل سمات توتّر جماعي ينعكس على شخصية المتحدث والأداء لديه وآخرين من حزبه.

إن تجاوز الخطاب السياسي إلى الطائفية، والتقاطع في بعض العبارات مع سردية العدو، لا يُقرأ كخيار فردي بقدر ما يشكّل جزءًا من إستراتيجية حزب مبنية على تعبئة غريزة “نحنُ وهُم، ما منشبهن ولا بيشبهونا” لدى الجمهور وتعبِّر عن هزالة التثقيف السياسي والوطني لدى أحزاب اليمين الانعزالي في لبنان.

ولذلك فإن فهم شخصية جبّور بعقدها وأزماتها الموروثة تاريخيًا يصبح مدخلًا لفهم ديناميات الانقسام اللبناني المعاصر، الذي لم يعد خلافًا على السياسات، بل على تصوّر أصل وجود هذا الكيان وهويته ووحدته وتنوّعه والعيش المشترك فيه.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.