كنت قد هممت بالكتابة حول هذا الموضوع، والمتعلّق بمنظومة القيادة والسيطرة لدى حزب الله في اليوم الثاني أو الثالث لاستشهاد سماحة السيد حسن نصر الله رضوان الله عليه، ولكن حال بيني وبين ذلك أمران اثنان، أولهما أنّ مرارة الفقد، وفداحة الفاجعة التي ألمّت بروحي من جرّاء هذ الغياب كانت أكبر من أن يتمّ تجاوزها خلال أيام قليلة، أما الثاني فهو عدم إعطاء الفرصة لجوقة المثبّطين من أفراد وجماعات للتشكيك فيما أقول، لذا آثرت التريّث حتى تنجلي الحقيقة، وتظهر من دون أيّ عوائق، ويتبيّن للقريب والبعيد، والعدو والصديق ما لم نشكّ فيه ولو لدقيقة واحدة، ليس لأننا نملك معلومات، بل لأننا نؤمن تمام الإيمان بأن أهل الحق لا يُهزمون، وأن حزباً قدّم خيرة قادته شهداء، وفي المقدّمة منهم اثنان من أمنائه العامّيين لا يمكن له أن ينكسر، ولا يمكن له بعد هذه السنوات الطويلة من القتال في وجه “دولة” الإجرام والقتل الإسرائيلية، وبما اكتسبه من خبرات ميدانية وتنظيمية أن يتفكّك بكلّ هذه السهولة التي يدّعيها البعض، ولا أن يفقد منظومة القيادة والسيطرة التي بناها بكثير من العمل، وبكثير من التعب والعرق والدماء.
وفي حقيقة الأمر فإنّ المحافظة على منظومة بهذه الأهمية يعدّ أمراً بالغ التعقيد، ولا سيّما في ظل الضربات التي تعرّض لها الحزب، والتي طالت مفاصل العمل الرئيسية فيه، إلى جانب قيادته العليا متمثّلة في قادة أركانه ووحداته العسكرية وقوته الضاربة، إلى جانب أمينه العام الشهيد أبي هادي، وهو الذي يُعدّ رأس الحزب ومصدر إلهامه، وصوته الهادر الذي كان يشكّل لوحده جبهة قتال في وجه الأعداء حتى من دون إطلاق رصاصة واحدة.
وحتى نعرف أهمية وحساسية هذه المنظومة في عمل الدول والجماعات والجيوش سنلقي نظرة سريعة عليها، حتى يتبيّن للقارئ الكريم حجم الأهداف التي كان يسعى العدو إلى تحقيقها من وراء عدوانه على لبنان، وخصوصاً تلك التي استهدف من خلالها قيادة حزب الله، في عمليات بدت في بعض مراحلها بأنها تمّ التخطيط لها منذ عدة سنوات، واستُخدمت فيها كل الوسائل التكنولوجية والسيبرانية، إلى جانب الكثير من المعلومات الاستخبارية الموجودة لدى كلّ دول محور الشر، وليس فقط تلك التي يملكها العدو الصهيوني، إذ إنّ ما جرى يتجاوز بمراحل قدرات هذا العدو المجرم، التي خبرناها في مراحل كثيرة من تاريخ الصراع في المنطقة.
في الحروب القديمة كانت مفاتيح منظومة القيادة والسيطرة محصورة في يد قائد الجيش، مع بعض الصلاحيات التي تُوزّع على بعض القادة الميدانيين، إذ إن طريقة القتال التي كانت في ذلك الوقت كانت تعتمد على القوات الراجلة، إلى جانب مجموعة من الجنود يمتطون صهوة الجياد، أو في أحسن الأحوال يركبون العربات العسكرية التي كانت مصنوعة من الخشب وأحياناً من الحديد.
في تلك الحروب كان بإمكان القائد أن يرى من مكانه في القلب كلّ محاور القتال، وكان يعطي أوامره بحسب مجريات المعركة للمقاتلين في أجنحة الجيش، سواء من خلال المناداة عليهم، أو إرسال المساعدين، ولاحقاً مع تطوّر نظام المعارك، واتساع رقعة القتال تمّ اللجوء إلى رفع رايات بألوان مختلفة تشير كلّ منها إلى قرار معيّن يصدره القائد.
في ذلك الوقت كان مقتل القائد ـــــ منظومة القيادة والسيطرة ـــــ أو غيابه يمثّل هزيمة مدوّية لكل أفرع الجيش، وكانت الصفوف تتفكّك، والقطاعات العسكرية تنكسر، والمقاتلون بغض النظر عن أعدادهم التي وصلت في بعض الحروب إلى عشرات الآلاف تفرّ من ميدان القتال، وكانت نتيجة الحرب تُحسم بصورة شبه نهائية للطرف الذي بقي قائده على قيد الحياة.
بعد هذه الفترة تغيّرت أساليب القيادة والسيطرة، وخصوصاً بعد اكتشاف خطوط الاتصال بواسطة الأسلاك، ومن ثم الموجات عبر الأثير، حيث بات بإمكان القادة أن يكونوا داخل أماكن محمية، وبعيدة في معظم الأحيان عن ميادين القتال، وهو ما مكّنهم من نقل أوامرهم للقادة الميدانيين والفرعيين بطرق مختلفة وصلت في العهد الحديث إلى درجة عالية من التعقيد التكنولوجي، والتواصل الرقمي، الذي يعتمد على الأقمار الاصطناعية، والرسائل المشفّرة، والتقنيات التي لم تشهد البشرية مثيلاً لها خلال عقود خلت.
على كل حال، وحتى لا نغوص كثيراً في التاريخ سنعود مجدداً إلى موضوعنا الأساسي، والذي يتعلّق بمنظومة القيادة والسيطرة لدى حزب الله، حيث تعرّض لضربات قاسية لم يعهدها من قبل، وهو الأمر الذي يشبه إلى درجة كبيرة ما تعرّضت له هذه المنظومة لدى فصائل المقاومة في فلسطين تحديداً، إذ إنها فقدت خلال أعوام مضت الكثير من قادتها المؤسسين ولا سيّما في الجانب العسكري، إلى جانب مجموعة من أمنائها العامّين أمثال الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، والقائد أبي علي مصطفى، وأخيراً رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية.
وهنا سنُلقي نظرة سريعة على هرمية القيادة لدى فصائل المقاومة في المنطقة، وفي المقدّمة منها حزب الله بحسب المعلومات المتاحة والمعروفة لدى جميع المتابعين والمهتمين، وهي أي هذه القيادة تُعدّ المسؤولة عن استمرار وكفاءة منظومة “القيادة والسيطرة”، لنستدلّ بعد ذلك على ما نريد الوصول إليه من أنّ هذه الجماعات والفصائل لا يمكن لها أن تنكسر بسهولة، بل وفي معظم الأحيان خرجت من هذه المحنة أشدّ قوة، وأمضى عزماً، وواصلت طريقها بكلّ عنفوان وثبات.
تتكوّن فصائل وجماعات المقاومة في المنطقة من العديد من الوحدات، والكثير من التشكيلات، التي يقف على رأسها، وفي المقدمة منها الأمين العام للجماعة، أو مسؤول المكتب السياسي كما في جماعات معيّنة، وفي بعض الأحيان يحمل هذا الشخص لقب القائد أو الزعيم وغير ذلك من مسمّيات، ولكن في كل الأحوال يبقى هو رأس الجماعة، وصاحب القرار المركزي فيها، مع عدم إغفال دور بقية اللجان المختلفة من مجالس شورى، ومكاتب سياسية، ومكاتب تنفيذية، ومجالس عسكرية، وغيرها.
فيما يخصّ الجانب العسكري والذي يهمّنا في هذه المرحلة أن نشير إليه نظراً لطبيعة المعركة، يُعدّ الأمين العام أو ما يوازيه من مسميّات أخرى بمثابة القائد العسكري الأعلى للجماعة أو الحزب، وهو وإن كان ليس قائداً عسكرياً متخصّصاً، إلا أنه يُعدّ صاحب كلمة الفصل في أيّ نشاط أو تحرّك عسكري يقوم به حزبه أو جماعته. في المرتبة الثانية بعد هذا القائد الأعلى يأتي النائب الأول، والنائب الثاني كما هو الحال في بعض الجماعات، أما في أخرى فهناك إلى جانب النوّاب مساعدون ومعاونون يُناط بهم متابعة الكثير من المهمّات ولا سيّما على الجانب التنفيذي.
في الجانب العسكري تحديداً يأتي ما يُطلق عليه القائد العام للجناح العسكري للحزب أو الجماعة في المرتبة الثانية بعد القائد الأعلى، وفي بعض الأحيان يُسمّى قائد الدائرة العسكرية، أو رئيس الأركان وغير ذلك من التسميات، وهو أيضاً لديه نواب ومعاونون يتفاوتون بين نائب ومعاون واحد، وفي بعض الأحيان يصلون إلى ثلاثة من كلّ نوع.
بعد ذلك يأتي المجلس العسكري، أو الجهادي، والذي يتكوّن من مسؤولي الوحدات المختلفة، مثل الوحدة الصاروخية، ووحدة الاستخبارات الداخلية والخارجية، ووحدة التعبئة، والإعلام الحربي، وغيرها، إلى جانب مسؤولي الألوية المقاتلة، واللواء هنا يعني في معظم الأحيان مدينة معيّنة أو محافظة، وفي أحيان أخرى مجموعة من المدن يتمّ وضعها تحت إطار لواء واحد، وهؤلاء القادة جميعهم لهم أيضاً نواب ومعاونون ومساعدون يعرفون كلّ خفايا العمل، ويطّلعون على التفاصيل الصغيرة والكبيرة فيما يخصّ مجال عملهم.
هذا الأمر ينطبق على باقي المسؤولين سواء قادة المحاور القتالية، وما يتبع لهم من قادة السرايا، والمجموعات، والتي تنطبق عليها مواصفات المراكز العليا نفسها في الجانب العسكري سواء من خلال التراتبية التنظيمية والصلاحيات، أو من خلال جاهزية النواب والمعاونين لتحمّل المسؤولية بشكل تلقائي في حال غياب المسؤول الأول لأيّ سبب من الأسباب.
وبناء عليه فلا يمكن لأيّ حادث اغتيال أو غياب لقائد أو مسؤول مهما بلغت أهميته أن توقف عمل الحزب أو الجماعة، ولا سيّما أنّ الخطط الموضوعة سلفاً لأيّ مواجهة مع “جيش” العدو بغض النظر عن حجمها تبقى على حالها، وهي تتحوّل إلى خطط تنفيذية في اللحظة المناسبة لذلك، ولدى القادة الجدد في المواقع كافة كلّ الصلاحيات لتنفيذها بحسب ما هو متفق عليه.
وبالتالي وبما أن حزب الله كما هو حال باقي فصائل المقاومة الأخرى يعمل وفق هذه الاستراتيجية الثابتة، والتي تشبه عمل معظم الجيوش في العالم مع فوارق بسيطة، فإنه يمكن لنا أن نستنتج أن منظومة القيادة والسيطرة لديه ما زالت بالكفاءة نفسها، وتعمل وفق الخطط التي رسمها القادة الذين غابوا، ولا تشهد أي خلل يُذكر سواء في الميدان القتالي، أو على صعيد المواقف السياسية التي أكدها نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم قبل يومين في خطابه الثاني.
وحتى لا يُقال إننا نتحدّث في العموميات والمثاليات، سنشير إلى بعض الشواهد والدلائل التي تدعم بما لا يقبل مجالاً للشكّ ما ذهبنا إليه، وهو الأمر الذي يؤكده أيضاً معظم الخبراء والمختصين ومن ضمنهم خبراء إسرائيليون.
أولى هذه الشواهد هي الانضباط القتالي لمجاهدي الحزب على الحافة الأمامية للحدود مع فلسطين المحتلة، وفي جبهة الجنوب عموماً، والذي اتّسم خلال الأسبوع الأخير بشكل خاص بانضباطية عالية، إلى جانب التنفيذ الدقيق للخط العملانية والتكتيكية الموضوعة سلفاً، على الرغم من حجم الاستهداف الجوي والمدفعي والضخ الإعلامي المعادي الذي يتعرّضون له.
وهذا العمل الفريد من نوعه والذي يتمّ في ظلّ غياب المسؤول الأول عن هذه الجبهة الشهيد القائد “علي كركي”، والذي نتج عنه سقوط عشرات الجنود الإسرائيليين من قوات النخبة بين قتيل وجريح، لا يمكن له أن يتمّ بهذه النجاعة من دون وجود منظومة قيادة وسيطرة بديلة تدير المعركة، وتوزّع المهام، وتستدرك أيّ تطوّرات أو مستجدّات، وتضع الخطط المناسبة لمواجهتها.
الشاهد الثاني هو عمل الوحدات الصاروخية لحزب الله، والذي على الرغم من غياب قائدها الأول نتيجة الاغتيال الصهيوني إلا أنها تواصل عملها بكفاءة منقطعة النظير، وتستمر في دكّ مواقع العدو العسكرية سواء في مستعمرات الشمال التي تمّ تحويلها إلى مناطق عسكرية مغلقة، أو تلك الموجودة في حيفا وجوارها، بالإضافة إلى مدينة “تل أبيب” و”نتانيا” و”هرتسيليا” وغيرها بمئات الصواريخ يومياً، وهي تصيب أهدافها بشكل دقيق بنسبة تفوق السبعين بالمئة، كما حدث في “كريات شمونة” ظهيرة اليوم، وتوقع قتلى وجرحي وتحدث دماراً كبيراً، رغم أنف منظومات الدفاع الجوي التي يمتلكها العدو والتي تُعدّ من الأفضل على مستوى العالم.
هذا الحال ينطبق أيضاً على وحدات الطائرات المسيّرة، والتي تواصل عملها هي الأخرى بصورة ملفتة، وتضع منظومات التصدّي الإسرائيلية أمام اختبار حقيقي، ثبُت بالدليل القاطع وبالصوت والصورة بأنها لم تنجح فيه في معظم الحالات.
كلّ ما سبق على صعيد القدرة الصاروخية والطائرات المسيّرة يشير من دون أدنى شك إلى سلامة منظومة القيادة والسيطرة لدى حزب الله، وأنها تدير عملياتها المنوطة بها بكل اقتدار، وهنا يجب الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية وتثير الكثير من التساؤلات، وهي تتعلّق بامتناع الحزب عن استخدام صواريخه الدقيقة وبعيدة المدى حتى الآن، والتي بإمكانها إصابة الأهداف الحيوية والحساسة داخل “الدولة” العبرية، ويمكنها الوصول من المطلّة شمالاً حتى “إيلات” جنوباً، وهو بحسب بعض التقارير الأميركية والإسرائيلية يمتلك الآلاف منها.
هذا الأمر بالتحديد يشير إلى سلامة وكفاءة منظومة القيادة والسيطرة لدى حزب الله، إذ لو أنه فقد هذه المنظومة سواء بشكل كلي أو جزئي، لشاهدنا هذه الصواريخ تنطلق من كل حدب وصوب باتجاه المدن والمستعمرات الإسرائيلية، وخصوصاً بعد استشهاد الأمين العام رضوان الله عليه، حيث أن القادة الأقل خبرة يمكن أن يلجأوا إلى استخدام كل الأوراق المتاحة في لحظة انفعال أو غضب، وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى خسارة مروحة واسعة من القدرات والإمكانيات التي تحتاجها معركة من هذا النوع، وخصوصاً إذا امتدت إلى فترة طويلة.
شاهد ثالث ونكتفي به حتى لا نطيل هو الأداء الإعلامي لحزب الله، سواء بشقّه العسكري أو السياسي، والذي شهد انكفاءة مؤقتة بعد استشهاد سماحة السيد نصر الله، وهو أمر طبيعي في مثل هذه الظروف، إلا أنه سرعان ما عاد إلى صورته المعهودة والتي دشّنها الظهور الأول للشيخ نعيم قاسم، ومن ثم تبعها بالظهور الثاني والذي ساهم في إسقاط كلّ المخاوف التي انتابت البعض حول انهيار قيادة الحزب، إلى جانب الأداء الإعلامي المميّز للإعلام الحربي للحزب، والذي كما العادة كان الصوت الصادق الذي يُظهر الحقيقة كما هي، ويوثّق الأحداث بالشكل الذي تظهر من خلاله كفاءة المقاتلين وشدّة بأسهم، ويفضح بما لا يدع مجالاً للشكّ سيل الأكاذيب والفبركات الصهيونية التي تحظى بمساعدة لافتة من كبريات المحطات الإعلامية الغربية، وفي كثير من الأحيان العربية أيضاً.
بالإضافة إلى كل ما سبق يمكن التدليل أيضاً بالأداء العالي والمهني للجان الاجتماعية التابعة للحزب، والتي هي نتاج لمنظومة القيادة والسيطرة أيضاً، إذ إنها ومنذ اللحظة الأولى للعدوان تقوم بدورها الحيوي في متابعة شؤون النازحين والمهجّرين، إلى جانب عوائل الشهداء والجرحى.
ختاماً يمكننا القول إن المعركة في لبنان ما زالت في بدايتها، وإن النشوة التي شعر بها نتنياهو ووزير حربه وباقي ائتلافه المتطرّف بعد تحقيق بعض الإنجازات التكتيكية ستزول سريعاً، حتى وهو يستخدم كل ما في جعبته من أدوات وإمكانيات، فما رآه من المقاومة اللبنانية حتى الآن هو جزء ضئيل مما تملك، وهي تدّخر مروحة واسعة من القدرات للأيام والأسابيع المقبلة، وكما قال لهم سماحة الشهيد السعيد حسن نصر الله في آخر إطلالاته التلفزيونية، الخبر ما ترون لا ما تسمعون.
أحمد عبد الرحمن – حضارات
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.