جواسيس “إسرائيل” يكتبون أخبار أميركا

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

«بعد مرور عام على هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، ها هو نتنياهو يحقّق سلسلة من الانتصارات»، هذا عنوان مقال نشرته أكسيوس مؤخّراً، تصف به رئيس الوزراء الإسرائيلي كمستفيد من موجة انتصارات لا تقبل الهزيمة. وتشمل هذه «النجاحات» العسكرية المدهشة، بحسب كاتب المقال باراك رافيد، قصف اليمن واغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية وأمين عام حزب الله حسن نصر الله وهجوم النداء الآلي (البايجرز) ضد لبنان.

حصد مقال سابق للكاتب نفسه انتشاراً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ ادّعى أنّ الهجمات الإسرائيلية ضد حزب الله «لا تهدف إلى إشعال حرب، إنما هي محاولة للوصول إلى التهدئة من خلال التصعيد». سَخِر مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي من رافيد ومنطقه الأورويلي الغريب. لكن، ما فات الكثيرين هو أنّ باراك رافيد كان، حتّى وقت قريب، جاسوساً إسرائيلياً. عمل رافيد كمحلّل سابق في وكالة الاستخبارات الإسرائيلية في الوحدة 8200، وحتّى العام الماضي كان لا يزال جندي احتياط في الجيش الإسرائيلي.

تُعتبر الوحدة 8200 من أكبر وحدات الاستخبارات الإسرائيلية، وربّما أكثرها إثارة للجدل. هي مسؤولة عن الكثير من عمليات التجسّس والإرهاب البارزة، بما فيها عملية تفجير البايجرز التي تسبّبت بإصابة الآلاف من المدنيين اللبنانيين. وكما سوف يكشف هذا التحقيق، رافيد ليس العميل الإسرائيلي السابق الوحيد الذي يعمل في وسائل إعلام أميركية، ويجهد لصناعة دعم غربي لأنشطة بلاده.

مخبر من داخل البيت الأبيض
أصبح رافيد، وبسرعة، واحداً من أكثر المؤثّرين في هيئة الصحافة المعتمدة في الكابيتول هيل. في نيسان/أبريل الماضي، فاز بجائزة «التميّز الشامل في تغطية البيت الأبيض»، وهي واحدة من أعلى جوائز الصحافة الأميركية ويحصل عليها الصحافيون المعتمدون في البيت الأبيض. وقد عبّر الحكّام عن إعجابهم بما وصفوه بـ«المستويات الدقيقة للمصادر في الولايات المتحدة الأميركية وخارجها» واختاروا ست مقالات باعتبارها مقالات صحفية نموذجية.

معظم هذه المقالات تنقل عن مصادر مجهولة من البيت الأبيض أو الحكومة الإسرائيلية، لجعل هذه المصادر تظهر جيّدة، وكذلك لإبعاد الرئيس بايدن عن أهوال العدوان الإسرائيلي على فلسطين. وعلى هذا النحو، لا يوجد أي فرق وظيفي بين هذه المقالات وتصريحات البيت الأبيض. على سبيل المثال، اختار الحكّام قصّة تحت عنوان «سبق صحفي: بايدن يخبر بيبي أنّ وقف القتال لثلاثة أيام قد يساعد في إطلاق سراح بعض الرهائن»، وقد قدّمت الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة على أنه إنساني وعازم بشدّة على تخفيف المعاناة. كما وصفت قصة أخرى مدى «الإحباط» الذي يشعر به بادين بسبب نتنياهو والحكومة الإسرائيلية.

وقد دعا متظاهرون المراسلين لتجاهل الحدث (أي تسلّم الجائزة) تضامناً مع زملائهم الذين سقطوا في غزّة، وقد بلغ عددهم، حتّى كتابة هذا التقرير، 128 صحافياً على الأقل. لم تتمّ مقاطعة الحدث فحسب، بل منح المنظّمون أرفع جائرة لمسؤول استخبارات إسرائيلي تحوّل إلى مراسل، واكتسب صيتاً من كونه ربما أكثر كاتب إخلاصاً للسلطة في واشنطن.

تسلّم رافيد الجائزة بنفسه من الرئيس بايدن، الذي عانقه كأخ. حقيقة أن يتمكّن عميل استخبارات إسرائيلي (سابق) من معانقة بايدن بهذه الطريقة تقول الكثير، ليس فقط عن العلاقة الحميمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بل أيضاً عن مدى قدرة وسائل الإعلام الرسمية على محاسبة السلطة.

صنع رافيد اسماً لنفسه عبر نشر معلومات مغرية حصل عليها إمّا من الولايات المتحدة أو من الحكومة الإسرائيلية وقدّمها على أنها سبق صحافي ومن دون أي نقد. كتب في نيسان/أبريل الماضي، «الرئيس بايدن وجّه إنذاراً أخيراً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في اتصال جرى بينهما نهار الخميس: إذا لم تغيّر إسرائيل مسارها في غزة لن نستطيع دعمكم»، وأنه «يقوم بأقصى جهوده لإنهاء القتال في غزة بعد ستة أشهر من الحرب، ويحذّر للمرة الأولى من أنّ سياسة الولايات المتحدة بشأن الحرب سوف تعتمد على التزام إسرائيل بمطالبه»، والتي تتضمّن «وقفاً فورياً لإطلاق النار». في تموز/يوليو، كرّر، نقلاً عن مصادر مجهولة، أنّ نتنياهو وإسرائيل يسعيان للتوصّل إلى «حل دبلوماسي»، وهو ادّعاء آخر مشكوك به.

وهذه بعض المقالات الأخرى لرافيد تتبع النمط نفسه:

سبق صحفي: بايدن يخبر بيبي أنه لا يريد سنة من الحرب في غزة
سبق صحفي: البيت الأبيض يلغي اجتماعاً ويوبّخ نتنياهو احتجاجاً على فيديو
بايدن ينفذ صبره مع بيبي مع وصول حرب غزة إلى يومها المئة
تصاعد حدة الخلاف بين بايدن وبيبي مع اتّهام الولايات المتحدة بتقويض الحكومة الإسرائيلية
«الخطوط الحمراء» في رفح تضع بايدن وبيبي على مسار تصادمي
بايدن على ميكروفون مفتوح: أخبرت بيبي أننا بحاجة إلى لقاء حاسم بشأن غزة
سبق صحفي: البيت الأبيض يفقد ثقته في الحكومة الإسرائيلية مع تفاقم الأزمة في الشرق الأوسط
توبيخ وزير إسرائيلي في البيت الأبيض بشأن غزة واستراتيجية الحرب
سبق صحفي: بايدن أخبر بيبي أنّ الولايات المتحدة لن تدعم هجوماً مضاداً إسرائيلياً على إيران
أثار هذا التبييض المستمر لإدارة بايدن سخرية واسعة على الانترنت.

كتب دايفيد غروسمان على منصّة X «حصرياً أكسيوس: بعد بيع أسلحة بقيمة ملايين الدولارات لنتنياهو، كان بايدن يشغّل بصوتٍ عالٍ أغنية تايلور سويفت Bad Blood. وقد تمكّن الجميع من سماعه، بحسب مصدر مقرّب من بايدن». أمّا الكوميدي حسين كسفاني فقد ردّ ساخراً على آخر مقال لرافيد عندما قال على لسان بايدن: «مستمرّ في تسليم رزم كبيرة من النقود والأسلحة، لكنني أهزّ برأسي حتى يعلم الجميع أنني غير موافق على ذلك»، معتبراً أنّ عدم ثقة بايدن بالحكومة الإسرائيلية في تزايد.

واصلت إدارة بايدن، في ظلّ هذا الانقسام المفترض بين الولايات المتحدة وإسرائيل، التعبير الحماسي عن دعمها للهجمات الإسرائيلية ومنع قرارات الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار وإقامة دولة فلسطينية، كما أرسلت أسلحة بقيمة 18 مليار دولار إلى إسرائيل في الأشهر الإثني عشر الماضية. لذلك، فإنّ تقارير أكسيوس، وبغض النظر عن مدى مصداقيتها، أدّت دوراً حيوياً بالنسبة لواشنطن وتسمح لإدارة بايدن بأن تنأى بنفسها عما وصفته الهيئات الدولية بأنه إبادة جماعية. لقد تجلّت وظيفة رافيد بصناعة قبول للحكومة عند النخبة الليبرالية التي تقرأ أكسيوس، ما يسمح باستمرار الاعتقاد أنّ الولايات المتحدة هي وسيط نزيه للسلام في غرب آسيا وليس عامل تمكين رئيسي لإسرائيل.

لا يخفي رافيد ازدراءه العلني تجاه الفلسطينيين. في أيلول/سبتمبر الماضي، أعاد نشر تغريدة تقول:

«إنها طريقة الفلسطينيين-النازيين… يحصلون على التنازلات من دون تقديم أي شيء في المقابل، ثم يستخدمون هذه التنازلات كأساس للجولة التالية من المفاوضات. لا يعرف الفلسطينيون-النازيون كيف يقولون الحقيقة».

وبعد أقلّ من أسبوع، روّج لادّعاء وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، المشكوك فيه، بأن الجيش الإسرائيلي عثر على صورة لأطفال قائد كتائب القسام السنوار يحتفلون أمام صورة كبيرة للطائرات التي تضرب مركز التجارة العالمي. وصرّح غالانت أنهم وجدوا هذه الصورة (في إشارة واضحة لربط الفلسطينيين بأحداث 11 أيلول/سبتمبر) في نفق «حيث كان يختبئ السنوار وإخوانه مثل الفئران».

وكالة استخبارات سيئة السمعة

تأسست الوحدة 8200 في العام 1952، وهي أكبر فرقة عسكرية إسرائيلية وأكثرها إثارة للجدل.

منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، تتصدّر هذه الوحدة اهتمام العالم، وهي المسؤولة عن العمليات السرية والتجسّس والمراقبة والحرب السيبرانية. وأصبح معروفاً على نطاق واسع أنها تقف وراء هجوم البايجرز الفظيع في لبنان، الذي أدّى إلى وفاة ما لا يقل عن تسعة أشخاص وإصابة نحو 3,000 آخرين. في حين أشاد الكثير في إسرائيل (بمن فيهم رافيد) بنجاح هذه العملية، إلا أنها كانت مدانة في جميع أنحاء العالم بوصفها عملاً إرهابياً فظيعاً، بما في ذلك من قبل المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية ليون بانيتا.

كما أنشأت الوحدة 8200 قائمة قتل في غزة عبر استخدام الذكاء الصناعي، تدعو إلى اغتيال عشرات الآلاف من الأفراد (من ضمنهم نساء وأطفال). وقد اعتمد الجيش الإسرائيلي هذا البرنامج كآلية رئيسة للاستهداف في خلال الأشهر الأولى من هجومه على القطاع المكتظ بالسكان.

تُعتبر الوحدة 8200، التي توصف بأنها هارفرد إسرائيل، واحدة من أعرق المؤسّسات في إسرائيل. عملية الاختيار تنافسية للغاية، إذ ينفق الأهالي مبالغ طائلة على دروس الرياضيات والعلوم لأولادهم متأملين أن يتم اختيارهم للخدمة في الوحدة، ما يفتح المجال أمامهم لمهنة مربحة في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي المزدهر.

كما تُعدّ هذه الوحدة حجر الزاوية في جهاز الدولة القمعي في إسرائيل. باستخدام الكم الهائل من البيانات التي تمّ جمعها عن الفلسطينيين عبر تتبّع كل تحركاتهم من خلال كاميرات التعرّف إلى الوجوه التي تراقب مكالماتهم ورسائلهم وبريدهم الالكتروني وبياناتهم الشخصية، خلقت الوحدة 8200 شبكة مراقبة قاتمة تستخدمها لمراقبة الفلسطينيين ومضايقتهم وقمعهم.

تقوم الوحدة 8200 بجمع ملفات عن كل فلسطيني، بما في ذلك تاريخهم الطبي وحياتهم الجنسية وتاريخ البحث الذي يقومون به عبر الإنترنت، حتّى يتمّ استخدام هذه المعلومات لاحقاً للابتزاز أو التهديد. على سبيل المثال، إن كان أحد الأشخاص يخون زوجته وبحاجة ماسة إلى عملية طبية، أو إن كان مِثلياً ولا يعلن عن ذلك، فمن الممكن استخدام هذه المعلومات كوسيلة ضغط لتحويل المدنيين إلى مخبرين وعملاء لإسرائيل. صرّح أحمد العاملين السابقين في الوحدة 8200 أنه وكجزء من تدريبه، تمّ تكليفه بحفظ مفردات عدّة لكلمة «مثلي» حتّى يتمكّن من التقاطها في المحادثات التي يتنصّت عليها.

ووصل الأمر بعملاء الوحدة 8200 بإنشاء بعض أكثر التطبيقات تحميلاً في العالم، بالإضافة إلى الكثير من برامج التجسّس سيئة السمعة بما في ذلك بيغاسوس. اسُتخدم بيغاسوس لمراقبة العشرات من القادة السياسيين حول العالم، بما فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا ورئيس باكستان عمران خان.

سمحت الحكومة الإسرائيلية ببيع برنامج بيغاسوس إلى وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA)، بالإضافة إلى بعض الحكومات الأكثر استبدادية على هذا الكوكب، من ضمنها السعودية التي استخدمت هذا البرنامج لمراقبة الصحافي جمال خاشقجي في واشنطن بوست قبيل اغتياله على يد عملاء سعوديين في تركيا.

ووجد تحقيق أجرته MintPress مؤخّراً أن حصة كبيرة من سوق الـ VPN العالمي تملكها وتديرها شركة إسرائيلية يرأسها ويشارك في تأسيسها أحد خريجي الوحدة 8200.

في العام 2014، صاغ 43 من جنود الاحتياط في الوحدة 8200 بياناً مشتركاً يعلنون فيه أنهم لم يعودوا مستعدين للخدمة في الوحدة بسبب ممارساتها غير الأخلاقية والتي تشمل عدم التمييز بين المواطنين الفلسطينيين العاديين والإرهابيين. كما أشار البيان إلى أنّ هذه المعلومات الاستخباراتية كانت تُمرّر إلى سياسيين محليين نافذين ويستخدمونها حسب ما تقتضيه مصلحتهم الخاصة.

أثار هذا البيان غضب رافيد تجاه زملائه. وفي أعقاب انتشار هذه الفضيحة، توجّه رافيد إلى إذاعة الجيش الإسرائيلي لمهاجمة المبلّغين عن المخالفات. واعتبر رافيد أنّ معارضة احتلال فلسطين هي معارضة إسرائيل نفسها، نظراً لأنّ الاحتلال جزء «أساسي» من إسرائيل. وقال «إن كان الاحتلال هو المشكلة، فإنّ ضرائبك هي أيضاً مشكلة – هي تموّل الجندي عند نقطة التفتيش والنظام التعليمي… وأنّ الوحدة 8200 تمثّل جزءاً مهماً من ذلك».

بغض النظر عن تعليقات رافيد، فإنّ السؤال الذي يطرح: هل من المقبول حقاً أن يشارك أعضاء من مجموعة متخصّصة للتسلّل ومراقبة السكان الأجانب واستهدافهم، والتي طوّرت بعضاً من أخطر تقنيات التجسّس في العالم ويُعتقد على نطاق واسع أنها تقف وراء عدد من الهجمات الإرهابية الدولية المتطورة، في كتابة الأخبار الأميركية عن إسرائيل وفلسطين؟ كيف ستكون ردة الفعل إذا تمّ الكشف عن شخصيات بارزة في الإعلام الأميركي كعناصر استخباراتية في حزب الله أو حماس أو جهاز الأمن الفيدرالي الروسي؟

أخبار إسرائيل تأتي إليكم من إسرائيل

غير أنّ رافيد ليس الصحافي الوحيد المؤثّر في الولايات المتحدة ولديه علاقات عميقة مع الدولة الإسرائيلية. أمضت شاكار بيليد ثلاث سنوات ضابطة في الوحدة 8200، وقادت فريقاً من المحللين في مجالات المراقبة والاستخبارات والحرب السيبرانية. كما خدمت محللة تكنولوجية في جهاز المخابرات الإسرائيلي الشاباك. في العام 2017، تمّ تعيينها منتجة وكاتبة لدى شبكة سي أن أن، وأمضت ثلاث سنوات في إعداد مقاطع لبرنامجي فريد زكريا وكريستيان أمانبور. فيما بعد، وظّفتها غوغل خبيرة إعلامية.

تال هنريش، عميلة أخرى في الوحدة 8200 ذهبت للعمل في شبكة سي أن أن. أمضت هنريش ثلاث سنوات في الوحدة 8200. بين عامي 2014 و2017، عملت كمنتجة ميدانية وفي قسم الأخبار في مكتب سي أن أن في القدس المعروف بدعمه لإسرائيل، وكانت واحدة من الصحافيين الأساسيين الذين كوّنوا فهم الولايات المتحدة لعملية الجرف الصامد، وهو الهجوم الإسرائيلي على غزة الذي أدى إلى مقتل أكثر من 2000 شخص وترك مئات الآلاف نازحين. فيما بعد، غادرت هنريش شبكة سي أن أن وهي الآن المتحدّث الرسمي باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

تستمر شبكة سي أن أن في ميلها إلى توظيف شخصيات حكومية إسرائيلية حتّى يومنا هذا. على سبيل المثال، تعمل تامار ميكايليس حالياً في الشبكة، وتنتج الكثير من محتواها الإسرائيلي-الفلسطيني. هذا على الرغم من كونها خدمت سابقاً في الجيش الإسرائيلي كمتحدث رسمي باسم الجيش.

في الوقت نفسه، قامت صحيفة «نيويورك تايمز» بتوظيف انات شوارتز، وهي ضابطة سابقة في المخابرات الجوية الإسرائيلية ولا تتمتّع بأي خبرة صحفية. شاركت شوارتز في كتابة تقرير «الصراخ من دون كلمات» السيئ، الذي فقد مصداقيته بعد أن ادّعى أنّ مقاتلي حماس قاموا بشكل منهجي بالاعتداء الجنسي على إسرائيليين في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وقد انتفض طاقم العمل في الصحيفة نفسها ضد هذا التقرير نظراً لافتقاره إلى الأدلة ولعدم دقّة المعلومات فيه.

هناك الكثير من موظفي «نيويورك تايمز»، بمن فيهم الكاتب الشهير دايفيد بروكس، الذين لديهم أبناء خدموا في الجيش الإسرائيلي. وعلى الرغم من كتابة آرائهم بشأن المنطقة إلّا أنّ الصحيفة لا تفصح لقرّائها عن تضارب المصالح الواضح. كما لم تكشف عن قيامها بشراء منزل في القدس لمدير مكتبها، وهو المنزل الذي سُرق من عائلة المفكرة الفلسطينية غادة كرمي العام 1948.

أجرت MintPress العام الماضي مقابلة مع كرمي عن كتابها الأخير والمحاولات الإسرائيلية لإسكاتها. ترك الكاتب السابق في صحيفة «نيويورك تايمز» ورئيس التحرير الحالي لمجلة «ذا أتلانتيك»، جيفيري غولدبيرغ (أميركي الجنسية) جامعة بنسلفانيا للتطوّع في الجيش الإسرائيلي كحارس سجن في خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وكشف غولدبرغ في مذكراته أنه، وفي خلال فترة خدمته في الجيش الإسرائيلي، ساعد في التستّر على إساءة معاملة السجناء الفلسطينيين.

كذلك شركات وسائل التواصل الاجتماعي، فهي مليئة بعملاء سابقين من الوحدة 8200. إذ وجدت دراسة أجرتها MintPress في 2022، أن ما لا يقلّ عن 99 عنصراً سابقاً من الوحدة 8200 يعملون في شركة غوغل.

كما أنّ فايسبوك يوظّف العشرات من العملاء السابقين من هذه الوحدة المثيرة للجدل. من بين هؤلاء إيمي بالمور وهي عضو في مجلس الرقابة في شركة ميتا. يقرّر هذا المجلس، المؤلّف من 21 شخصاً، اتجاهات فايسبوك وإنستغرام وغيرها من تطبيقات ميتا، ويعمل على فرز المحتوى لتحديد ما هو مسموح، وما يتم الترويج له، وما هو ممنوع. لقد تمّت إدانة ميتا لقمعها الممنهج لأصوات الفلسطينيين على منصاتها، من قبل هيومن رايتس ووتش التي وثّقت أكثر من ألف حالة من الرقابة العلنية المناهضة للفلسطينيين في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2023. تبرز مؤشرات هذا الانحياز من حقيقة أنّ إنستغرام أدخل كلمة «إرهابي»، تلقائياً، في الملفات الشخصية للمستخدمين الذين وصفوا أنفسهم كفلسطينيين.

وعلى الرغم من الادّعاءات الواسعة من قبل السياسيين الأميركيين باعتبار تيك توك بؤرة مناهضة لإسرائيل ومعادية للسامية، إلا أنّ هذه الشركة توظّف الكثير من العملاء السابقين من الوحدة 8200 في مناصب رئيسة. على سبيل المثال، وظّفت شركة تيك توك العام 2021 آساف هوخمان، مديراً للاستراتيجية والعمليات العالمية لمنتجاتها. قبل انضمامه إلى تيك توك، أمضى هوخمان أكثر من خمس سنوات كعميل استخبارات إسرائيلي. وهو الآن يعمل في شركة ميتا.

رقابة مؤيدة لإسرائيل من الأعلى إلى الأسفل
لطالما انحازت وسائل الإعلام لإسرائيل عندما تشنّ هجوماً على جيرانها. على سبيل المثال، تمتنع صحيفة نيويورك تايمز، بشكل مستمر، عن تحديد هوية مرتكب أعمال العنف عندما يكون الجيش الإسرائيلي، وقد وصفت الإبادة (التطهير العرقي) التي جرت في العام 1948 بحقّ نحو 750 ألف فلسطيني على أنها مجرّد «هجرة». وجدت دراسة عن تغطية الصحيفة أنّ كلمات مثل «مذبحة» و«مجزرة» و«مروّع» تظهر أكثر بـِ 22 مرة عند الحديث عن مقتل الإسرائيليين مقارنة بالفلسطينيين، على الرغم من التفاوت الهائل في أعداد القتلى بين الطرفين.

نشرت سي أن أن عنواناً رئيسياً عن الجنود الإسرائيليين الذين أطلقوا 335 رصاصة على سيارة كانت تقل طفلة فلسطينية ثمّ أطلقوا النار على عمّال الإنقاذ الذين جاؤوا لإنقاذها، ويقول التقرير أنه تم «العثور على فتاة فلسطينية تبلغ من العمر 5 سنوات ميتة بعد أن حُصِرت في السيارة مع أقاربها المتوفين»، وهو عنوان يمكن تفسيره على أنّ موتها على كان حادثاً مأساوياً.

هذه التقارير ليست صدفة، بل هي تُدار مباشرة من أعلى المستويات. فقد كشفت مذكّرة مسرّبة من صحيفة نيويورك تايمز في تشرين الثاني/نوفمبر عن تعليمات مباشرة للمراسلين بعدم استعمال كلمات مثل «إبادة» و«مذبحة» و«تطهير عرقي» عند الحديث عن الأعمال الإسرائيلية. كما يتوجّب على فريق العمل الامتناع عن استعمال عبارات مثل «مخيم اللاجئين» و«الأراضي المحتلة» وحتّى «فلسطين» في تقاريرهم، ما يجعل من الصعب نقل بعض الحقائق الأساسية إلى جمهورهم.

يخضع موظّفو شبكة سي أن أن لضغوطات مشابهة. ففي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أصدر المدير التنفيذي الجديد مارك تومبسون مذكرة وجّه فيها تعليماته بالتأكيد على إظهار حماس (وليس إسرائيل) على أنّها المسؤولة عن أعمال العنف، والتشديد على الاستخدام الدائم لمصطلح «الخاضعة لسيطرة حماس» عند الحديث عن وزارة الصحة في غزة وأعداد القتلى المدنيين، كما منع نقل وجهة نظر حركة حماس، حيث وصفها مدير المعايير والممارسات الإخبارية لفريق العمل بأنها «غير جديرة» بالنقل وترتقي إلى مستوى «الخطاب التحريضي والدعاية».

قامت كل من التايمز وسي أن أن بطرد عدد من الصحافيين بسبب معارضتهم للأفعال الإسرائيلية أو دعمهم لتحرير فلسطين. وفي تشرين الثاني/نوفمبر، أجبرت صحيفة التايمز جازمين هيوز على الاستقالة بعد أن وقّعت على رسالة مفتوحة تعارض الإبادة الجماعية في فلسطين. كما أنهت الصحيفة عقد حسام سالم السنة الماضية بعد حملة من جماعة الضغط، Honest Reporting، الداعمة لإسرائيل. وفي العام 2018، تمّ طرد مذيع شبكة الـ سي أن أن مارك لامونت هيل بشكل مفاجئ لمطالبته بتحرير فلسطين في خطاب ألقاه في الأمم المتحدة.

لا شكّ أن المؤسسات الكبيرة مثل أكسيوس وسي أن أن ونيويورك تايمز تعرف جيداً من تقوم بتوظيفه. وهي تُعتبر من أكثر المؤسسات طلباً للوظائف في مجال الصحافة ويُتوقع أن تتقدّم مئات الطلبات لكل وظيفة. لكن حقيقة اختيار هذه المؤسسات لجواسيس إسرائيليين على حساب الآخرين تثير تساؤلات جدية بشأن مصداقيتها الصحفية وأهدافها.

يجب أن يكون توظيف عملاء من الوحدة 8200 لإنتاج الأخبار الأميركية أمراً غير مرفوضاً تماماً، كحال توظيف مقاتلين من حماس أو حزب الله كمراسلين. ومع ذلك، ها هم الجواسيس السابقين في الوحدة 8200 مكلّفون بمهمة إطّلاع الرأي العام الأميركي على الهجمات المستمرة التي تقوم بها بلادهم ضد فلسطين ولبنان واليمن وإيران وسوريا. ما الذي يقوله ذلك عن مصداقية وتحيّز وسائل الإعلام لدينا؟

بما أنّ إسرائيل لا تستطيع مواصلة هذه الحرب من دون الدعم الأميركي، فإن المعركة للتأثير على العقل الأميركي لا تقلّ أهمية عن العمليات على الأرض. ومع استمرار الحرب الدعائية، تتلاشى الحدود الفاصلة بين الصحافي والمقاتل لتصبح ضبابية. وما يؤكّد ذلك هو حقيقة أنّ الكثير من كبار الصحافيين الذين ينقلون الأخبار عن الوضع الإسرائيلي الفلسطيني هم حرفياً عملاء سابقون للمخابرات الإسرائيلية.

آلان ماكلويد – ترجمة:نيڤين حشيشو – موقع الصفر

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد