د. أكرم شمص | خاص الناشر
تواجه “إسرائيل” في الوقت الراهن مجموعة من الأزمات المعقّدة والمتشابكة التي تهدّد بنية الدولة والمجتمع والجيش على حد سواء. ويعتبر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو محورًا للعديد من هذه الأزمات، حيث يُتهم بالفشل في إدارة شؤون الدولة والاستجابة للتحديات الأمنية والسياسية المتزايدة. من إضرابات العمال إلى الانقسامات الداخلية العميقة، ومن قضية الرهائن إلى الضغوط الدولية، نجد أن عوامل متعددة تساهم في زعزعة استقرار الحكومة الإسرائيلية وتزيد من الضغط على نتنياهو.
الانقسامات الداخلية: تحديات الحكومة من الداخل
الضغوط لم تأت فقط من الشارع، بل جاءت أيضًا من داخل الحكومة نفسها. شهدت الحكومة الإسرائيلية انقسامات حادة بشأن كيفية التعامل مع أزمة غزّة وقضية الرهائن. وزير الدفاع يوآف غالانت، على سبيل المثال، انتقد قرار الحكومة بالإبقاء على القوات الإسرائيلية في ممر فيلادلفيا واصفًا إياه بأنه “عار أخلاقي”، ودعا إلى التراجع عن هذا القرار. الانقسامات داخل الحكومة تشير إلى انعدام الثقة بين أعضاء مجلس الوزراء وتصاعد التوترات السياسية، مما يهدّد بتفكك الحكومة من الداخل.
إلى جانب الضغط الشعبي والمعارضة، تواجه حكومة نتنياهو أيضًا تحديات من داخل الائتلاف الحاكم. الانقسامات بين اليمين المتطرّف واليسار داخل الحكومة أصبحت أكثر وضوحًا مع تصاعد الأزمة. على سبيل المثال، شهدنا دعوات من داخل الحكومة لوقف العمليات العسكرية والتركيز على إيجاد حل دبلوماسي، في حين يصر آخرون على استمرار القتال لتحقيق أهداف سياسية وأمنية. وتواجه حكومة نتنياهو كذلك ضغطًا متزايدًا من المعارضة. يائير لابيد، زعيم المعارضة، دعا إلى “إغلاق اقتصاد البلاد” من خلال تنظيم إضراب شامل للمطالبة بإطلاق سراح الرهائن وإنهاء الحرب. ويرى لابيد أن استمرار الحرب دون تحقيق نتائج ملموسة يعتبر فشلًا سياسيًا وأخلاقيًا للحكومة، ويعزز من مواقف المعارضة في دعواتها لتغيير القيادة.
يعيش المجتمع الإسرائيلي حالة من الانقسام العميق حول مستقبل البلاد واتّجاهاتها. يتجلى هذا الانقسام في التباين الكبير في المواقف تجاه الحرب على غزّة وتجنيد “الحريديم” (اليهود المتدينين)، مما يهدّد التماسك الاجتماعي والاستقرار الداخلي. هذه التوترات قد تؤدي إلى تزايد الاضطرابات الداخلية وتشكّل تهديدًا لاستقرار الحكومة والتحالفات السياسية الحالية.
الانقسام الداخلي في “إسرائيل” يمثل أحد أكبر التحديات التي تواجه حكومة نتنياهو. تعمقت الخلافات بين اليمين واليسار، خاصةً في ظل احتجاجات متزايدة ضدّ السياسات الحكومية والإجراءات القمعية في الأراضي الفلسطينية. بالإضافة إلى ذلك، تظل قضية تجنيد “الحريديم” (اليهود المتدينين) في الجيش موضوعًا يثير الكثير من الجدل، حيث يعارض العديد من “الحريديم” التجنيد الإجباري ويرونه تهديدًا لهويتهم الدينية.
التوترات المتصاعدة بين المجتمع الحريدي والدولة تزيد من تعقيد الوضع الداخلي وتشير إلى تفكك محتمل في التماسك الاجتماعي. الاحتجاجات المستمرة من قبل “الحريديم” ضدّ التجنيد الإجباري تُظهر مدى تعمق الانقسامات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، مما يعزز من التحديات التي تواجهها الحكومة في الحفاظ على وحدة الصف الوطني.
المجتمع الإسرائيلي يمر بأزمة هوية داخلية تعكس تعقيدات السياسة والأيديولوجيا. الانقسامات بين اليمين واليسار، والمواقف المتباينة تجاه الحرب، وقضية تجنيد “الحريديم”، كلّ ذلك يعكس مجتمعًا متشظيًا يواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على وحدته واستقراره. هذه الانقسامات قد تكون مؤشرًا على تزايد الاضطرابات الداخلية التي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار التحالفات السياسية الحالية.
سوء إدارة الحرب على غزّة والاتهامات بالإبادة الجماعية
تشهد “إسرائيل” فترة من الأزمات الداخلية والتوتّرات السياسية التي تهدّد استقرار حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتكشف عن تحديات غير مسبوقة تواجهها البلاد. يتزامن ذلك مع الحرب على غزّة، التي تُعد واحدة من أكثر الحروب دموية وتدميرًا في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وقد أثارت هذه الحرب موجة من الانتقادات الدولية بسبب ما يعتبره الكثيرون “إبادة جماعية” ترتكبها “إسرائيل” ضدّ المدنيين الفلسطينيين، متجاهلة بذلك كافة المواثيق والقوانين الدولية.
منذ بداية الحرب على غزّة، وُجِّهت اتهامات متزايدة لحكومة نتنياهو بسوء إدارة المعركة وارتكاب جرائم حرب ضدّ المدنيين. تشير التقارير إلى مقتل أكثر من 40,000 فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وتشريد مئات الآلاف، مما يثير تساؤلات حول أخلاقيات وإستراتيجيات الحرب التي يتبناها الجيش الإسرائيلي. وفي خطوة غير مسبوقة في تاريخ الصراع، أعلن المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، عن سعيه للحصول على أوامر اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب.
قضية الرهائن والضغط الشعبي
أحد أبرز العوامل التي أثرت سلبًا على شعبية نتنياهو وحكومته هي قضية الرهائن الإسرائيليين الذين قتلوا في غزّة. بعد اكتشاف جثث ست رهائن في نفق تحت مدينة رفح في قطاع غزّة، اشتعلت الاحتجاجات في “إسرائيل” مطالبةً بالتوصل إلى صفقة تبادل أسرى مع حركة حماس. تأخر نتنياهو في إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار واستعادة الرهائن زاد من حدة الغضب الشعبي، مما دفع بمئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع للمطالبة بإقالته.
الاحتجاجات لم تقتصر على الشارع فقط، بل شملت أيضًا إضرابًا عامًا دعت إليه أكبر نقابة عمالية في “إسرائيل”، الهستدروت، التي هدّدت بشل الاقتصاد الإسرائيلي بالكامل. تجلى الضغط الشعبي في دعوات متزايدة لإجراء إضرابات جماعية وتعطيل الحياة اليومية بهدف إرغام نتنياهو على اتّخاذ خطوات حاسمة لإنهاء أزمة الرهائن.
إضرابات الهستدروت: صوت العمال في مواجهة الحرب
الهستدروت، أكبر نقابة عمالية في “إسرائيل”، لعبت دورًا رئيسيًا في التأثير على السياسة الإسرائيلية منذ تأسيسها في عام 1920. تاريخيًا، كانت الهستدروت بمثابة “حكومة ثانية” داخل الدولة، حيث كانت لها هيئاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتسيطر على قطاعات واسعة من الاقتصاد والخدمات. ومع ذلك، شهدت النقابة تحولًا كبيرًا في سياستها وتوجهاتها منذ التسعينيات، مما أضعف بعض نفوذها الاقتصادي.
لكن اليوم، تعود الهستدروت إلى الواجهة بموقف جديد وأكثر جرأة. بعد مقتل ستة رهائن إسرائيليين في غزّة وتصاعد الغضب الشعبي، دعت الهستدروت إلى إضراب شامل للضغط على حكومة نتنياهو لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار وتأمين الإفراج عن الرهائن المتبقين. هذا الإضراب يعكس تحولًا واضحًا في موقف العمال الإسرائيليين، الذين بدأوا يشعرون بأن الحرب لم تعد تحقق أهدافها وأن استمراريتها تضر بالمجتمع والاقتصاد على حد سواء.
الضفّة الغربية وجبهة لبنان واليمن: تحديات جديدة لإسرائيل
تشكّل العمليات العسكرية الواسعة التي بدأها الجيش الإسرائيلي في الضفّة الغربية تحديًا إضافيًا للحكومة الإسرائيلية. التحذيرات من تحول الضفّة إلى “غزّة ثانية” تعكس خطورة الوضع، خاصة مع تزايد التوترات والاشتباكات المتكرّرة مع الفلسطينيين. أشار وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس إلى أن إيران تعمل على فتح “جبهة إرهابية شرقية” عبر تهريب الأسلحة إلى الضفّة الغربية. إذا تحولت هذه الأعمال إلى حرب واسعة النطاق، فإن “إسرائيل” ستواجه احتمال خسارة الحرب ضدّ حماس ومحور المقاومة بشكل أكبر.
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل التهديدات القادمة من جبهة لبنان واليمن. حزب الله في لبنان يستمر في استنزاف الموارد الإسرائيلية ما يؤدي إلى نزوح عشرات الآلاف من الإسرائيليين من الشمال، بينما تستمر عمليات الحوثيين في البحر الأحمر في الضغط على الاقتصاد الإسرائيلي. هذه التحديات المتعددة تزيد من تعقيد الوضع وتجعل من الصعب على “إسرائيل” تحقيق نصر حاسم.
التوتر مع إيران واحتمال الرد العسكري
إضافة إلى التحديات الداخلية والخارجية، تواجه “إسرائيل” احتمال رد عسكري من إيران بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران. يعتبر هذا الاغتيال تصعيدًا خطيرًا في الصراع، ومن المتوقع أن ترد إيران بطريقة تؤثر على التوازن الإقليمي، مما يزيد من تعقيد الوضع بالنسبة لحكومة نتنياهو.
الخسائر الاقتصادية واستنزاف الموارد
تعاني “إسرائيل” من خسائر اقتصادية غير مسبوقة نتيجة الحرب المستمرة على عدة جبهات. مع تصاعد النزاع، تزايدت التكاليف البشرية والمالية، وأثرت بشدة على الاقتصاد الإسرائيلي. تأثرت المستوطنات الحدودية مع لبنان بشكل كبير منذ بدء التصعيد مع حزب الله، مما أدى إلى خسائر ضخمة في قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة.
الوضع في الشمال ازداد سوءًا مع تنفيذ خطة إجلاء إلزامية لعشرات آلاف السكان من البلدات الحدودية، مما أدى إلى تجميد الحياة في هذه المناطق ذات الأهمية الاقتصادية.
أفصحت السلطات الإسرائيلية عن تضرر أكثر من 500 منزل ومبنى ومتجر منذ بدء التصعيد، مع خسائر مادية كبيرة في المدن الحدودية. هذه الخسائر المادية تتزامن مع هجرة سكانية كبيرة من الشمال، حيث يفكر العديد من السكان النازحين في بيع منازلهم والانتقال إلى وسط “إسرائيل”، مما يزيد من الضغط على الحكومة.
الضغط الدولي والمحكمة الجنائية الدولية: تحديات قانونية وأخلاقية
بالإضافة إلى الضغط الداخلي، تواجه حكومة نتنياهو تحديات قانونية وأخلاقية على الصعيد الدولي. سعي المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لاستصدار أوامر اعتقال بحق كبار القادة الإسرائيليين يمثل ضغطًا دوليًا غير مسبوق على “إسرائيل”، ويعكس حجم الغضب الدولي تجاه السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. هذه الخطوة تزيد من تعقيد المشهد السياسي وتضع حكومة نتنياهو في موقف دفاعي، حيث تحاول الحكومة الإسرائيلية الحفاظ على شرعيتها الدولية وسط اتهامات بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب.
الخاتمة: مستقبل غامض وحكومة متزعزعة
في خضم هذا “الخريف العبري”، يبدو أن حكومة نتنياهو تقف على أرضية متزعزعة. مع تزايد الضغط من العمال والمعارضة والانقسامات الداخلية، وتزايد الاستياء الشعبي من الحرب المستمرة وعدم القدرة على تحقيق نتائج ملموسة، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يستطيع نتنياهو البقاء في السلطة أم أن هذا الخريف سيشهد نهاية فترة حكمه الطويلة؟ إن استمرار حرب الاستنزاف في غزّة وجنوب لبنان واليمن، ودخول الجيش الإسرائيلي إلى مستنقع الضفّة الغربية، قد يؤدي إلى هزيمة أكبر “لإسرائيل”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.