ليس بجديد على الولايات المتحدة الأميركية أن تكون شريكةً في مجازر الدم والدمار في أي بقعة من الأرض. وهي إن لم تكن المشرف المباشر على مظاهر الهمجية والوحشية في العالم، فإنها وبلا شك ستكون جزءًا منها بشكل أو بآخر.
أميركا، الإمبراطورية الوهمية والعظمة العليا التي يقع العالم بأسره دونها، الكيان الذي أغرق الشعوب والأمم بمفاهيم الديمقراطية والإنسانية والحريات، وبوابل من قوانين حماية حقوق الإنسان، أظهرت وعلى امتداد تاريخٍ من الدمار والقتل، أنه كيان حقير مزيّف كاذب، وما هذه “المفاهيم السامية” سوى قناعٍ سقط ولا زال عند كل حربٍ دموية كان هذا الكيان العنصري جزءًا منها أو سببًا فيها.
لم يدرك الأميركيون يومًا أن ما بُني وأقيم على باطل فهو يبقى باطلًا مدى الحياة، وأن هذه “الإمبراطورية” الوهمية التي شيّدت على أشلاء سكان أميركا الأصليين، هي أيضًا باطلة حتى فنائها، وما هي إلا عبارة عن مستوطنات محتلة، استُحدِثت فوق أراضٍ لها سكانها وشعوبها وحياتها وهويتها التي سلبها “الأميركيون الجدد” تحت سلطة النار والقتل.
وفي هذا السياق، تشير الإحصاءات التاريخية المنشورة، إلى أن عدد السكان الاصليين في الأمريكتين كان يتراوح بين 10 ملايين و100 مليون نسمة عام 1500م، ومع قدوم الأوروبيين إلى هذه الأراضي بدأت الحروب والمجاعات والإبادات الجماعية، لينجم عن ذلك تراجع كبير جدًا في أعداد السكان من 10 ملايين إلى 238,000 نسمة، ما يعني أن الأوروبيين قضوا على ما يقارب الـ 95% من “الهنود الحمر”، وفق التسمية التي أطلقها عليهم الأوروبيون حينها.
هذا المشهد الدموي من إبادة جماعية ونهبٍ لأراضي وثروات الشعوب، كان ملازمًا لكل مراحل تطور وتوسع الولايات المتحدة الأميركية تاريخيًا، وهو وإن بدأ مع” الهنود الحمر”، فإنه استتبع لاحقًا بمجازر أخرى، بأشكال مختلفة وبأدوات جديدة، وقد تركت هذه المجازر بصمتها الكارثية في حياة شعوب كل من فيتنام والعراق وسورية واليمن وليبيا وأفغانستان وغيرها من الدول المضطَهَدة التي كانت ولا زالت تعاني من الاحتلال الأميركي أو من تبعاته.
بصمة القتل والإجرام ظهرت بشكل جليّ في كل من أفغانستان والعراق، والدليل الأدق على ضلوع الولايات المتحدة بهذه الجرائم الوحشية هو عدد القتلى الذين قضوا في الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على أفغانستان، والتي تسببت في مقتل 174 ألف شخص بشكل مباشر، من بينهم 47 ألف مدني، بينما أسفرت حرب العراق عن 209 آلاف قتيل.
بالإضافة إلى ما ذكر، فقد حرضت الولايات المتحدة الأمريكية على “الثورات العنصرية” في العديد من البلدان، وشاركت في تخريب الأنظمة، وفرضت عقوبات اقتصادية عشوائية، مما تسبب في تدهور اقتصادي وزيادة صعوبات المعيشة للشعوب في البلدان المعنيّة، وفضلًا عن ذلك فإنها اختلقت ونشرت نظرية “صراع الحضارات” و”الإسلاموفوبيا” وتشويه الحضارة الإسلامية.
آخر مشاهد الإجرام الأميركية كانت في حرب الكيان الصهيوني مؤخرًا على غزة، ومعها سياية التطهير العرقي التي أظهرت للعالم بأكمله “كذبة الديمقراطية وحقوق الإنسان” التي تتغنى بها الولايات المتحدة الأميركية ومعها الغرب. وقد جاء رفض أميركا الأخير لوقف إطلاق النار في غزة خلال تصويتها على قرار مجلس الأمن، ليؤكد على نحو لا يحمل ذرّةً من الشك، أنها الراعي الأكبر للشيطنة والإجرام والدمار والظلم والقهر في العالم.
غزة المنكوبة المعزولة الجريحة، التي أصبحت ساحةً لتجارب السلاح الأميركي الفتاك المحرّم دوليًا والذي تجاوز حجم قنبلة هيروشيما بأضعاف، أعطت للعالم درسًا في المصداقية والشفافية، وبينت لشعوب الدول التي تدعي الحضارة واحترام حقوق الإنسان، أن كل ادعاءاتهم الباطلة هذه قد سقطت أمام دماء ودموع أطفال غزة، وأن مكانها الأمثل هو مزابل التاريخ لا غير.
المؤكد في سياق تسلسل الأحداث الحالية، أن أميركا – الشيطان الأكبر على هذه الأرض- ومعها عبيدها الأوروبيون، ستسعى جاهدة لتعيد ترميم صورتها الحضارية أمام الرأي العام العالمي، وسترتدي مجددًا قناعها الكاذب الملطّخ بدماء الأبرياء والمظلومين، تحت مسمى “الديمقراطية والسلام العالمي”، لتكمل حقيقةً مسيرة “الشيطنة” التي بدأت منذ قرون مضت. إلا أن الوقائع تقول إن ما قبل حرب غزة ليس كما بعدها، وإن شعوب هذه الأمم ربما سيكون لها نظرة أخرى اتجاه أنظمتها المجرمة، نظرة أكثر تحقيرًا وكرهًا لها، وربما أكثر قناعةً وأوسع تأييدًا للشعوب المظلومة، بأن تنال حريتها وتصون كرامتها بمقاومتها وقوتها فقط، بعيدًا عن لغة الديمقراطية واحترام الحريات وحقوق الإنسان التي لا وجود لها أصلًا في عالم لا يفهم سوى لغة القوة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.