دائمًا كان الصهاينة وعلى مرِّ عقودٍ من الاحتلال والعدوان وفرارًا من أزماتهم الداخلية يشنون الاعتداءات في محيط كيانهم الغاصب في هروبٍ مكشوف من استحقاقاتٍ داخلية ضاغطة أو للتغطية على أهداف غير معلنة تحتاج إلى ساترٍ دخاني للتعمية تؤمّنه العمليات العسكرية العدوانية. ولطالما شكّلت الخواصر الرخوة في دول الطوق حول فلسطين أو داخلها هدفًا وميدانًا لمناورات العدو وأهدافه الاستيطانية والتوسعية.
لقد سبق لرئيس وزراء العدو الأسبق إسحاق رابين المقتول غيلة برصاص أحد المتطرفين الصهاينة أن أقرَّ بالأهداف الحقيقية للعدوان عام 1967م باعتقادهم أن مصر ستشن حربًا على الكيان. وقتها كان رابين رئيس أركان جيش الاحتلال خلال تلك الحرب، واعترف بقيام “إسرائيل” بالعدوان في ذلك اليوم وقال: “إن عبد الناصر كان يناور فقط ولم يكن ينوي مهاجمة “إسرائيل” في أيار – حزيران (مايو – يونيو) 1967″ (فلسطين تاريخها وقضيتها” – مؤسسة الدراسات الفلسطينية ص 172). كما كتب أحد الوزراء في حكومـة الائتلاف آنذاك والتي قادت حرب حزيران تلك، يقول: “كل هذه الحكايـة عن خطر الإبادة اخترعت بجميع أجزائها وضخمت بعد ذلك لتبرر الاستيلاء على أراض عربية جديدة” (المصدر نفسه)، حيث تم احتلال الضفّة الغربية والقدس الشرقية لتوسعة الاستيطان وإنشاء المستوطنات ولاستقدام المزيد من المستوطنين من الخارج رغم رفض “المجتمع الدولي” لهذا السلوك واعتباره غير قانوني بموجب القانون الدولي. كما وشمل العدوان مصر وسوريا والأردن بما سمّي بــ”حرب الأيام الستّة” و”يوم النكسة” في الذاكرة الفلسطينية بدعمٍ أمريكي غير محدود حيث احتلَّت أراضٍ عربية جديدة منها شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية والضفة الغربية والقدس الشرقية التي كانت خاضعة للحكم الملكي الأردني، وبقيت تلك الكذبة عن الإبادة رائجة حتى يومنا الحاضر لتحقيق أهدافٍ مماثلة.
لعبت خريطة الانقسامات الإسرائيلية الداخلية دورًا في تغذية نزعة العدوان لدى الكيان وأحزابه وميدانًا للمنافسة من الأكثر عدوانية وإجرامًا تجاه الفلسطينيين والعرب، انقسامات إثنية بين عربٍ ويهود ودينية بين علمانيين ومتدينين وسياسية بين يمينٍ ويسار إلى جانب فضائح الفساد المستشري لدى الأحزاب والطبقات السياسية الحاكمة لطالما شكّلت بين مكونات الكيان السياسية والحزبية واحدًا من دوافع الهروب نحو العدوان ولتتحول لاحقًا عنصرًا جامعًا وموحِّدًا وداعمًا للحكومة الإسرائيلية القائمة ومنها الظروف الداخلية عشية حرب أكتوبر العام 1973م التي أسميت بــ “حرب الغفران – كيبور” والتي حقق فيها الجيش المصري نجاحات أهمها سقوط وتحطيم خط “بارليف” الشهير والمنيع على الضفة الشرقية لنهر النيل وتدمير خط “ألون” الدفاعي المشابه والمحصَّن في الجولان من قبل الجيش العربي السوري، هذه الحرب والتي سبقتها حرب الاستنزاف (1968 – 1970) والتي أرهقت جيش العدو وأوقعت به خسائر فادحة في الجنود والعتاد، حيث كانت في تلك الأيام الانقسامات في الكيان في ذروتها حول السياسات المتبعة بين حزب العمل الصهيوني الحاكم بزعامة غولدا مائير وحزب الليكود المعارض والناشئ حديثًا بزعامة مناحيم بيغين والتي استؤنفت بعد توقف الحرب على خلفية الهزائم التي مني بها جيش الاحتلال ونتائجها وآثارها الحافرةُ عميقًا في الوعي الإسرائيلي.
لطالما اندفع قادة الكيان الغاصب دومًا نحو الأمام للهروب من أزماتهم الداخلية واستسهلوا شن الحروب والاعتداءات لمعرفتهم أن الكيان برمَّته وتناقضاته المختلفة وأزماته الحادة وانقساماته السياسية بين موالاة ومعارضة ستلتف فورًا حول راية العدوان والقتل والإجرام الموجودة أصلًا في عقلية وتركيبة المجتمع الإسرائيلي وأحزابه ومستوطنيه على حدٍّ سواء ويُرفَع شعارٌ أوحد “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” وتستحضر الشعارات المحفزة للعنصرية الصهيونية البغيضة ومشاعر الخوف من الإبادة وسحق الدولة، وكذا يمكن للمتابع أن يجد ظروفًا مشابهة عاشتها “إسرائيل” قبيل حروبها التي شنَّتها في العام 1978 و1982 وما تلاها من عدواني 1993 و 1996 وحرب تموز 2006 على لبنان بمعزلٍ عن الأسباب المباشرة المعلنة للعدوان في حينها، مرورًا بما تعرضت له غزّة من سلسلة اعتداءات وحروب كان فيها الأساس هروب الفريق الحاكم في الكيان من أزمات وانقسامات داخلية باستهداف الخواصر الرخوة وفق اعتقاده وبشكل أساس في لبنان والتي أثبتت أنها عُقدٌ مستعصيةٌ هزمت العدوان وخرجت منه أكثر قوةً وثباتًا أثبتتها الجولات اللاحقة من المواجهات وصفحات تقارير لجان التحقيق الإسرائيلية بنتائج الحروب واخفاقاتها وأهمُّها على الإطلاق لجنة “فينوغراد” عقب الهزيمة في عدوان 2006.
يعيش الكيان هذه الأيام واحدًا من هذه الانقسامات العمودية الحادّة بين أحزابه ومكوِّناته المختلفة والشبيهة بتلك الأيام التي سبقت حروبه على الفلسطينيين والعرب، وتنعكس هذه الانقسامات ارتباكًا وتخبّطًا في سياسات الائتلاف الحاكم حاليًا عكسته حالة الرفض الشعبي المستمرّة منذ اشهر في الشارع الإسرائيلي، هذا الائتلاف المكوّن من تناقضات غريبة لم تشهد مثلها الحكومات السابقة من قبل وقد جمعتها المصالح المشتركة من دينية تلمودية وسياسية حزبية والنزعة نحو السلطة والهروب من الملفات القضائية لنتنياهو إبَّان الحكومات التي ترأسها في السابق مع بعض أعضاء حكومته بسبب اتهامات بالفساد قد تؤدِّي بهم إلى السجن.
لطالما اعتبر العدو أن لبنان كخاصرة رخوة يمكن استهدافه والاعتداء عليه في أي وقت كان والذي مع مرور السنين شكَّل أزمة مستعصية للكيان وعقدة لم يستطع تجاوزها والتي حفرت عميقًا في العقل الإسرائيلي بسبب مرارة الهزائم التي ذاق طعمها إبّان احتلاله منذ العام 1982 وحتى يومنا هذا وما بينها من حروب واعتداءات شنّت بهدف كسر إرادة اللبنانيين وسحق مقاومتهم، حيث كانت هذه المقاومة تخرج أصلب عودًا وأكثر تمرّسًا وإصرارًا على المواجهة بل وراكمت إنجازات كثيرة على مستوى الاستعدادات للمواجهة عدّةً وعددًا وقدرات في أي لحظة واجهت الحرب أو فرضت عليها وتحت أي ظرفٍ كان، هذه الحالة أسقطت في يد الإسرائيلي وأعيته وجعلته يلعق جراح الهزيمة والخيبة كل مرّة وأن يفكر مليًّا في أي خطوة عدوانية تجاه لبنان.
“جنين” وحسب اعتقاد قادة العدو أنها من الخواصر الرخوة لهذا الكيان الغاصب لذا كان يستسهل العدوان عليها دائمًا بهدف تأديبها وغيرها من معاقل المقاومة، وهو يستشعر هذه الأيام خطورة تراكم القدرة والجرأة لدى أبنائها من المقاومين خاصّة والضفة الغربية وأراضي الــ 48 بشكل عام متخوفًا من تحولها إلى أنموذج يحتذى في مدنٍ وقرى وساحات أخرى من الكيان، وتحت قيادة رئيس الحكومة الأسبق آرييل شارون خاض العدو مع هذه المدينة – المخيم وفي إطار اجتياح شامل للضفة الغربية في العام 2002م مواجهات متعددة ودامية وضارية ومارس القتل والسحق والتدمير العشوائي والاعتقال وارتكاب جرائم حرب في مجزرة دموية سقط فيها المئات من الشهداء الفلسطينيين من رجالٍ ونساءٍ وشيوخٍ وأطفال وقدِّرت خسائر العدو في المواجهات مع عشرات المقاومين وبأسلحة بسيطة بما لا يقل عن 55 قتيلًا من ضباطه وجنوده.
واليوم ومنذ أشهر خلت يواجه المخيم اعتداءات متكررة وجولات متلاحقة من استباحة لأمن وطمأنينة سكانه وأبنائه من الفلسطينيين، حيث طورت فصائل المقاومة فيه أساليب المواجهة وبدَّلت قواعد الاشتباك هناك وأدخلت عناصر جديدة بدأت تلوح في أفقها معادلات رادعة إن من العبوات الناسفة والمدمرة لآليات العدو كما حصل مع القوة المهاجمة للمخيم فجر يوم 19 حزيران/ يونيو 2023م، أم من الصواريخ البدائية التصنيع حتى الآن، ناهيك عن أساليب الاشتباك لدى المقاومين ودقة الإصابات التي ألحقوها بالقوة المهاجمة والتي أظهرتها الصور الموثقة في استهداف الجنود أو الآليات وإعطابها والتي أذهلت العدو وأربكته وأجبرته على تغيير خططه الموضوعة وأساليبه للسيطرة على المخيم.
غدًا وبعده سيستكمل العدو مسلسل كذبه في تبرير اعتداءاته الحالية أو اللاحقة تغطيةً لأزماته الداخلية بهدف تحقيق أطماعه وأهدافه المضمرة، وسيجد دومًا أسبابًا وحججًا كاذبة للقيام بعدوانه وحربه المستقبلية مستهدفًا كالعادة الخواصر الرخوة حسب اعتقاده والتي سيكتشف خطأ تقديره لها بعد انجلاء غبار العدوان على “جنين” والغد وبعده لناظره قريب.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.