بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان في السادس من حزيران من العام 1982م بضوءٍ أخضر أمريكي سبقته سلسلة من الأحداث والتوترات والتفاهمات بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الإسرائيلي برعاية أمريكية والتي قضت بوقف “الأعمال العدائية” بين الطرفين.
هذا الاجتياح الذي مهّد له العدو في الرابع والخامس من حزيران من العام 1982م بسلسلة من الاعتداءات الدامية والغارات الجوية المدمِّرة والتي طالت مدنًا وقرًى ومناطق مختلفة من لبنان وصولًا إلى العاصمة بيروت أدَّت إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى وتدمير واسع للأبنية والأماكن السكنية في اجتياح جوّي وبحري وبرّي أعطاه العدو تسمية وعنوان “عملية سلامة الجليل” بذريعة دفع “التهديد الفلسطيني” عن الحدود الشمالية للكيان المصطنع وبهدف توفير مناخ آمن ومستقر لمستعمرات الشمال والتي كانت “عرضة” للقصف بالصواريخ عند تعرّض القرى والبلدات الجنوبية والمخيمات وقواعد المقاومة الفلسطينية للعدوان والتهديد والمنتشرة في لبنان، وتدفقت دبابات العدو وآلياته وجنوده على أكثر من محور ومسار من الساحل الجنوبي في القطاعين الغربي والأوسط وصولًا إلى تلال شبعا وكفرشوبا في القطاع الشرقي أمام نظر وعيون ضباط وجنود القوات الدولية المنتشرة في جنوب لبنان والتي كانت مهمتها “حفظ السلام” وحماية المدنيين الآمنين في منطقة عملياتها جنوب نهر الليطاني.
هذه القوات الدولية التي لم تحرّك ساكنًا أو تمنع الاعتداءات الإسرائيلية طيلة سنوات عملها التي سبقت الاجتياح في العام 1982م والتي جاءت بقرارٍ أممي تحت الرقم “425” وعلى خلفية اجتياح سابق في الرابع عشر من آذار من العام 1978م والذي عنونه العدو الصهيوني تحت اسم “عملية الليطاني” حيث بقيت السيادة اللبنانية جوًّا وبرًّا وبحرًا عرضة للانتهاك والخرق والاستباحة مضافًا إليها استهداف القرى والبلدات اللبنانية والمخيمات الفلسطينية بالعدوان والتدمير والقتل والتهجير لأبنائها، وما القوات الدولية المذكورة إلا شاهد على هذا الانتهاك الصارخ ومدوِّن في السجلات لهذه الاعتداءات المتمادية.
تدحرجت عملية “سلامة الجليل” وتبدلت أهدافها مرارًا حول المساحات الجغرافية المراد السيطرة عليها واحتلالها ما بين نهر الليطاني ونهر الأولي مرورًا بالشوف والجبل وصولًا إلى مشارف العاصمة بيروت مع تقييم ودراسة لنتائج هذه العملية وما يمكن أن تحققه من أهداف مرسومة أهمُّها استحقاق رئاسة الجمهورية اللبنانية وقيام حكم في لبنان يوقع اتفاقية “سلامٍ مع العدو”.
عُقدت الاجتماعات التنسيقية في بيروت وتل أبيب وضمّت بشير الجميل قائد ما يسمى بالقوات اللبنانية في تلك الأيام وعددًا من مستشاريه مع وزير دفاع العدو في حينه آرييل شارون ورئيس أركان “الجيش الإسرائيلي” رفائيل إيتان ومدير الاستخبارات في الكيان الغاصب. في هذه الاجتماعات وضعت الخرائط على الطاولة ورسمت المسارات للعدوان وخطوط التقدُّم والسيطرة وجرت التقييمات للنتائج وحدِّدت الأهداف المرسومة الواجب تحقيقها بما يوفِّرُ استتبابًا في الوضع وبما يخدم الغايات المرجوة من إقامة سلام دائم بين لبنان والعدو الإسرائيلي.
ولتحقيق هذا الأمر كان لا بدَّ للقوات اللبنانية والتي كانت موغلة في العلاقة والعمالة مع إسرائيل حتى النخاع من حتمية المشاركة والمساهمة في تنفيذ هذه الخطط وأهمُّها إخراج الجيش السوري من لبنان وإجلاء مقاتلي المقاومة الفلسطينية بعد تحطيم قدراتها وإمكانياتها العسكرية، وكسر إرادة القوى اللبنانية الوطنية والإسلامية في رفض هيمنة اليمين الانعزالي على السلطة وتباعًا فرض رئيسٍ ماروني يميني انعزالي عميل للكيان الغاصب، وأيضًا وهو الأهم بسط الشعور بالهزيمة والانكسار لدى الجمهور اللبناني الداعم للقضية الفلسطينية والمقاومة بوجه الاحتلال.
أوضح مثال على تلك الأدوار المشبوهة التي لعبتها القوات اللبنانية ومن خلفها الجبهة اللبنانية الانعزالية إلى جانب تطلعاتهم وآمالهم بالهيمنة والتسلّط على الكيان اللبناني ما صرّح به إيلي حبيقة (وزير ونائب سابق وقائد أسبق للقوات اللبنانية، اغتيل في انفجار سيارة مفخخة في الرابع والعشرين من كانون الثاني 2002م ) كان حول توسُّل بشير الجميل لآرييل شارون حين لقائه لوضع الخطط للاجتياح البرّي، وقتها أشار بشير الجميل إلى مدرسة الجمهور في بعبدا وقال لآرييل شارون وهنا الكلام لحبيقة: “حين تصلون إلى هنا -وأشار بإصبعه إلى مدرسة الجمهور- يمكن لي أن أصل إلى هنا -وأشار بإصبعه ثانية إلى قصر بعبدا-“. وكان إيلي حبيقة قد حضر اللقاء بصفته مسؤولًا عن جهاز الأمن والاستخبارات في القوات اللبنانية آنذاك.
تتابعت اللقاءات والتحضيرات وتسلسل الأحداث وتدحرجها في الأيام الأولى للاجتياح لحين وصول جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مشارف العاصمة بيروت ومجدَّدًا أراد بشير الجميل من حليفه الإسرائيلي أن يستكمل عمليته العسكرية للقضاء تمامًا على منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها من القوى الوطنية والإسلامية مستكملًا عملية التحريض حول أهمية احتلال بيروت الغربية والضاحية الجنوبية، وكان الاجتماع في الثالث والعشرين من حزيران من العام 1982م في تل أبيب بين بشير الجميل ومعاونيه ووزير دفاع العدو ورئيس أركانه واستخباراته وضباطه حيث وافق خلاله بشير الجميل على المشاركة في عملية “الشرارة” لاقتحام بيروت الغربية والضاحية الجنوبية.
في هذه الأيام يستمر “السياديون الجُدُد” ويجهدون وعلى رأسهم “حكيم معراب” ومن يدور بفلكه من فلول اليمين الانعزالي في استعادة لخطاب الكراهية السابق والمتجدِّد دائمًا ويسترجعون خياراتهم الخبيثة والحاقدة حين يتحوّل الواحد منهم إلى مجرّد مُخبر و”فسَّاد” ومُفتن صغير ضدَّ أهله ووطنه، وما سمير جعجع وحديثه بالأمس أمام معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى وما فيه من أشخاص هم عُصارة الحاقدين والعنصريين الصهاينة، إلا واحدٌ من هذه النماذج اللاهثة وراء استجلاب التدخل الخارجي لتحقيق أهدافهم في الاستحقاقات القائمة أو القادمة واستدرار عطف الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الغرب واسترضائهم لمزيد من الهيمنة والتدويل والتدخُّل في الشأن اللبناني الداخلي، بل وفي تخويفهم من تعاظم القوة والقدرة لدى المقاومة في لبنان التي هزمت العدو الصهيوني وحررت الجزء الأكبر من الأرض اللبنانية المحتلة والتحريض عليها وتوصيفها بــ “الخطر الخبيث” على المصالح الأمريكية والغربية في لبنان والمنطقة بشكل عام في تكرارٍ للدور المشبوه في السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي في استحضار العدوان على لبنان في العام 1982م والسير في ركابه بهدف هزيمة الشركاء في الوطن وقهرهم والتسلط عليهم، ولتحقيق أحلامهم وآمالهم في تنصيب رئيسٍ معادٍ للمقاومة بل ويعمل على ضربها وإنهائها مقدمة لعملية السلام والتطبيع مع العدو الإسرائيلي وسعيًا حثيثًا لاستعادة أوهام الماضي في إنشاء كانتونات وفيدراليات عنصرية وطائفية.
في العام 1982م كان اسمها “عملية الشرارة” وهنا لا يمكن لنا أن ننسى أن من مآثرها ونتائجها احتلال العاصمة بيروت وهزيمتهم المدوّية على أبواب الضاحية الجنوبية واندحارهم يجرون أذيال الخيبة، مضافًا إليها ارتكابهم المجزرة الكبرى والجريمة المروِّعة ضد الإنسانية التي نفذتها عصابات القوات اللبنانية وحزب الكتائب وميليشيات الجبهة اللبنانية والعميل سعد حدَّاد في مخيمي صبرا وشاتيلا ومحيطهما ومقتل الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين الآمنين كبارًا وصغارًا، نساءً ورجالًا وأطفالًا قضوا ذبحًا وحرقًا وتقطيعًا بأيدي هؤلاء المجرمين الخونة، ترى ما سيكون اسم “العملية” التي يحضَّر لها المسرح في هذه الأيام؟! لننتظر ونرَ.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.