مع تزايد نفوذ شركات التكنولوجيا الكبرى وتحالفها مع القوى السياسية، بات الفضاء الرقمي يشهد تحولات غير مسبوقة تتجاوز المنافسة الاقتصادية لتشمل إعادة تشكيل النظام المعلوماتي العالمي. وفي ظل إدارة ترامب الجديدة، تعززت العلاقة بين السلطة السياسية وعمالقة التكنولوجيا Big Tech؛ ما أدى إلى تصاعد المواجهة مع أوروبا، التي تسعى إلى فرض إطار تنظيمي أكثر صرامةً لحماية سيادتها الرقمية، لكن هذه المواجهة لا تخلو من تحديات؛ حيث تواجه بروكسل ضغوطاً أمريكية مكثفة، بجانب تأثير القوى السياسية الداخلية الداعمة للتكنولوجيا غير المقيدة. في هذا السياق، أصبح الصراع الرقمي بين الجانبين انعكاساً لمعادلة أكبر تتعلق بحرية المعلومات، والتنافس الجيوسياسي، ومستقبل الحوكمة الرقمية عالمياً.
مظاهر الخلافات
أدت الإجراءات التنظيمية للاتحاد الأوروبي في المجال الرقمي إلى نشوب خلافات متزايدة مع شركات التكنولوجيا الأمريكية، ومن أبرز هذه الخلافات:
1– الخلاف حول القوانين الرقمية الأوروبية: تعد اللوائح الأوروبية، مثل قانون الأسواق الرقمية (DMA: Digital Markets Act)، وقانون الخدمات الرقمية (DSA: Digital Services Act)، محوراً أساسياً للخلاف بين الشركات الأمريكية والدول الأوروبية؛ إذ تسعى بروكسل إلى تنظيم المنافسة الرقمية عبر إجبار الشركات الكبرى، مثل جوجل وأمازون وأبل، على الامتثال لقواعد تضمن الشفافية وعدم إساءة استغلال موقعها المهيمن. من جهة أخرى، ترى الولايات المتحدة أن هذه القوانين تستهدف شركاتها بشكل غير عادل، متهمةً الاتحاد الأوروبي باتباع نهج حمائي يهدف إلى تقليص نفوذ الشركات الأمريكية دون فرض القيود نفسها على نظيراتها الأوروبية.
وقد شهدت الفترة الأخيرة تصعيداً في هذا النزاع؛ حيث طالب رئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية FCC بريندان كار – في 3 مارس 2024 خلال المؤتمر العالمي للهواتف المحمولة الذي انعقد في برشلونة – بمراجعة اللوائح الأوروبية بدعوى أنها تفرض رقابة صارمة على منصات التكنولوجيا، خاصةً فيما يتعلق بمسألة الإشراف على المحتوى الرقمي. ولقد توترت علاقة عمالقة التكنولوجيا ببروكسل منذ الإعداد لقانوني DSA وDMA؛ حيث اعتبرت هذه الشركات (GAFAM: Google, Apple, Facebook, Amazon, Microsoft) القانونَين عائقاً لمصالحها. وكانت مجلة لوبوان Le Point قد كشفت في عام 2020 عن خطة سرية لـجوجل Google لإفراغ قانون الخدمات الرقمية من مضمونه، بحجة أنه يضر بالعلاقات عبر الأطلسي.
2– اتهامات متبادلة بشأن “الرقابة الرقمية” و”حرية التعبير”: أصبحت قضية حرية التعبير على الإنترنت نقطة خلاف رئيسية بين شركات التكنولوجيا الأمريكية والاتحاد الأوروبي؛ حيث يتهم المسؤولون الأمريكيون بروكسل بتعزيز الرقابة المؤسسية من خلال قوانين مثل قانون الخدمات الرقمية، التي تفرض قيوداً صارمة على المحتوى المنشور عبر الإنترنت. في المقابل، تدافع أوروبا عن موقفها مؤكدةً أن هذه التشريعات ضرورية لمحاربة خطاب الكراهية والتضليل الإعلامي، خاصةً مع تصاعد التأثير السلبي للمعلومات المضللة في الفضاء الرقمي.
وقد شهدت الأشهر الأخيرة هجوماً مباشراً من قبل كبار رجال الأعمال الأمريكيين، مثل إيلون ماسك، على قانون الخدمات الرقمية، على اعتبار أنه أداة لفرض الرقابة على منصات التواصل الاجتماعي وتقويض حرية التعبير، كما أعلن مارك زوكربيرج، في 7 يناير 2025، عن إنهاء برنامج التحقق من الحقائق (Fact–Checking) على منصاته في الولايات المتحدة، في خطوة أثارت قلق الاتحاد الأوروبي، الذي يخشى أن تمتد هذه السياسة إلى أوروبا؛ ما يضعف جهود محاربة المعلومات المضللة. وتواصل المفوضية الأوروبية تأكيد أن قوانينها لا تهدف إلى فرض رقابة تعسفية، بل تسعى فقط إلى ضمان بيئة آمنة على الإنترنت تتماشى مع القيم الديمقراطية.
3– التوترات حول الضرائب الرقمية: تشكل الضرائب الرقمية على الشركات التكنولوجية الكبرى، المعروفة باسم “ضرائب GAFA”، نقطة خلاف جوهرية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ حيث تحاول بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا، فرض ضرائب على الشركات الأمريكية التي تحقق أرباحاً هائلة من المستخدمين الأوروبيين دون دفع ضرائب تتناسب مع إيراداتها الأوروبية. وترى واشنطن أن هذه الضرائب تُفرَض بشكل غير عادل على شركات مثل جوجل وأمازون وفيسبوك وأبل، متهمةً بروكسل باستهداف الشركات الأمريكية بشكل انتقائي دون أن تفرض ضرائب مماثلة على الشركات الأوروبية الكبرى العاملة في المجال نفسه.
وفي المقابل، تدافع الدول الأوروبية عن موقفها مؤكدةً أن الهدف من هذه الضرائب هو تحقيق العدالة الضريبية ومنع الشركات المتعددة الجنسيات من تجنب دفع المستحقات الضريبية عبر استغلال الثغرات القانونية. في 21 فبراير 2025 هدَّد ترامب بفرض عقوبات جمركية رداً على ضرائب أوروبية مزمع اتخاذها بموجب قانوني DMA وDSA ضد إكس وفيسبوك وإنستجرام وأبل وميتا وألفابت، تتراوح بين 6% و10% من إيراداتها، كما كلف ترامب الممثل التجاري للولايات المتحدة جيميسون جرير بإعادة التحقيق في ضرائب GAFA، التي فرضتها دول مثل فرنسا والنمسا وإيطاليا والمملكة المتحدة.
4– سياسات الهيمنة الرقمية والتبعية الأوروبية لشركات التكنولوجيا الأمريكية: تثير الهيمنة الأمريكية على قطاع التكنولوجيا مخاوف متزايدة داخل الاتحاد الأوروبي؛ حيث تعتمد العديد من الدول الأوروبية بشكل شبه كلي على البنية التحتية والخدمات التي توفرها شركات أمريكية كبرى، مثل أمازون ومايكروسوفت وجوجل. ويرى بعض المحللين أن هذا الوضع يحد من استقلالية القرار الأوروبي، خاصةً في ظل تزايد أهمية التكنولوجيا في الجوانب الاقتصادية والأمنية. وتشير بعض التقارير إلى أن الحكومات الأوروبية تواجه صعوبة في تطوير بدائل محلية تكون قادرة على منافسة العروض الأمريكية؛ ما يجعل القارة عرضة لمخاطر تتعلق بالأمن السيبراني والتدخلات الخارجية.
وقد دفع هذا الواقع بعض القادة الأوروبيين، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى الدعوة لاعتماد سياسة “الأفضلية الأوروبية” في مجال التكنولوجيا Préférence européenne dans la tech، مؤكداً أن أوروبا بحاجة إلى تقليل تبعيتها للولايات المتحدة من خلال دعم الشركات المحلية وتعزيز الابتكار الرقمي. ومع ذلك، تواجه هذه الاستراتيجية عقبات؛ حيث تتهم الولايات المتحدة الاتحاد الأوروبي باتباع نهج حمائي يتعارض مع مبادئ حرية السوق والتجارة العادلة. ويرى بعض المراقبين أن أوروبا بحاجة إلى التحرك بسرعة لتجنب أن تصبح مجرد “سوق استهلاكية” لصناعات التكنولوجيا الأمريكية دون أن تمتلك قدرات إنتاجية أو ابتكارية مستقلة.
5– الصراع حول مستقبل الذكاء الاصطناعي وتنظيمه: يمثل الذكاء الاصطناعي واحداً من أبرز مجالات الصراع بين الشركات التكنولوجية الأمريكية والدول الأوروبية؛ حيث تسعى بروكسل إلى وضع إطار قانوني صارم يضمن استخداماً مسؤولاً لهذه التكنولوجيا، في حين تدعو الشركات الأمريكية إلى تقليل القيود التنظيمية لتجنب إبطاء الابتكار. وتبنى الاتحاد الأوروبي في عام 2024 قانون “الذكاء الاصطناعي AI Act الذي يفرض معايير دقيقة على الشركات التي تطور وتستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي، خاصةً في المجالات الحساسة مثل الرعاية الصحية والعدالة والأمن.
في المقابل، ترى وجهات نظر أوروبية أخرى أن هذه اللوائح قد تؤدي إلى إعاقة تطور الذكاء الاصطناعي الأوروبي؛ ما يمنح الولايات المتحدة والصين الأفضلية في السباق التكنولوجي. ومع تصاعد الجدل حول الالتزام بهذه المعايير الأوروبية، أعلنت شركات أمريكية، مثل ميتا وأبل، في سبتمبر 2024، تعليق إطلاق بعض منتجات الذكاء الاصطناعي في السوق الأوروبية إلى حين إعادة تقييم السياسات الأوروبية الجديدة.
سياق محفز
ساهمت عدة عوامل في تصعيد الخلافات الرقمية بين الولايات المتحدة وأوروبا، خاصةً بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض:
1– موقف إدارة ترامب المعادي للقيود الأوروبية على التكنولوجيا: منذ عودته إلى السلطة، تبنَّى دونالد ترامب سياسة مناهضة للوائح الرقمية الأوروبية، معتبراً أنها تشكل تهديداً مباشراً للهيمنة الاقتصادية الأمريكية. وقد عيّن ترامب، بريندان كار رئيساً للجنة الاتصالات الفيدرالية، وهو أحد أشد المعارضين للتنظيمات الأوروبية على أساس أنها تفرض رقابة غير مبررة على المحتوى، وتضر بالآراء المحافظة، داعياً إلى تفكيك “كارتل الرقابة”، كما أن “كار” دعم إيلون ماسك في مواجهته مع البرازيل، متهماً حكومتها بانتهاك حرية التعبير بعد حظر منصة إكس لرفضها حذف حسابات يمينية متطرفة.
في المقابل، ترى المفوضية الأوروبية أن هذه اللوائح ضرورية لمنع الاحتكار وحماية المستهلكين من استغلال الشركات الكبرى لمواقعها المهيمنة. وفي هذا السياق، لعب نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس دوراً رئيسياً في التصعيد الخطابي والسياسي ضد سياسات الاتحاد الأوروبي الرقمية، مستغلاً المحافل الأوروبية للترويج لموقف إدارة ترامب؛ ففي مؤتمر ميونخ الأخير للأمن، وجَّه فانس اتهامات مباشرة للاتحاد الأوروبي، معتبراً أن قوانين بروكسل تهدف إلى تقييد حرية التعبير، وليس فقط ضبط المنافسة الرقمية، كما أشار إلى أن الولايات المتحدة قد تطلب من الأوروبيين التخلي عن بعض تحقيقاتهم ضد الشركات الأمريكية، مثل منصة إكس، إذا كانوا يريدون استمرار الدعم الأمريكي لأوكرانيا.
كما صعَّد فانس لهجته خلال قمة باريس حول الذكاء الاصطناعي؛ حيث انتقد بشدة التوجه الأوروبي نحو فرض لوائح صارمة على قطاع الذكاء الاصطناعي، معتبراً أن الاتحاد الأوروبي يعيق الابتكار ويخنق واحدة من أسرع الصناعات نمواً، وأكد أن الولايات المتحدة تريد شراكات قوية مع أوروبا، لكن لا يمكن تحقيق ذلك إلا في ظل أنظمة تنظيمية تحفِّز الابتكار بدلاً من إعاقته.
2– تحالف ترامب مع عمالقة التكنولوجيا ضد اللوائح الأوروبية: شهدت إدارة ترامب تقارباً غير مسبوق مع عمالقة التكنولوجيا الأمريكية؛ حيث عمدت شركات مثل ميتا، وأمازون، وجوجل إلى تقديم دعمها العلني للرئيس الأمريكي، مقابل تعهده بحماية مصالحها في وجه التشريعات الأوروبية الصارمة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، إعلان مارك زوكربيرج، في يناير 2025 إلغاء برامج التحقق من الأخبار على منصاته، معتبراً أن ذلك خطوة ضرورية لمكافحة الرقابة الأوروبية، كما وصف زوكربيرج العقوبات الأوروبية المفروضة على شركات التكنولوجيا الأمريكية بأنها “تعريفة جمركية مستترة”، خصوصاً أنها تخطت حاجز 30 مليار دولار كغرامات.
من ناحية أخرى، انضم إيلون ماسك إلى هذه المواجهة متهماً المفوضية الأوروبية بـالتضييق على حرية التعبير بحجة تنظيم المحتوى الرقمي. هذا التحالف بين ترامب و”عمالقة التكنولوجيا” جعل الصراع أكثر حدةً؛ حيث أصبحت الشركات الأمريكية تستخدم نفوذها الإعلامي والسياسي للتأثير على الرأي العام ضد السياسات الأوروبية؛ ما وضع بروكسل في مواجهة مفتوحة مع تحالف ترامب و”السيليكون فالي” في آن واحد، الذي صار يُرمَز إليه بتحالف “تراسك” (Trusk: Trump + Musk).
3– تصاعد الحرب التجارية بين واشنطن وبروكسل: لم تقتصر المواجهة بين الجانبين على الجانب التنظيمي فقط، بل هناك مخاوف لتحولها إلى حرب تجارية رقمية مفتوحة، خاصةً مع تهديد إدارة ترامب بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 20% على المنتجات الأوروبية، رداً على ما تم وصفه بالتمييز ضد الشركات الأمريكية. وقد تمثلت هذه المواجهة في تصعيد متبادل؛ حيث لوَّحت بروكسل باتخاذ إجراءات مماثلة ضد بعض الشركات الأمريكية التي تتجنب دفع الضرائب في أوروبا، مثل أمازون وأبل؛ ما زاد من حدة التوترات.
وفي الوقت ذاته، فإن بعض القراءات الأوروبية تعتبر أن أوروبا تواجه تحدياً داخلياً يعادل في خطورته التهديدات الأمريكية؛ فبينما تسعى بروكسل إلى ترسيخ تأثيرها التنظيمي عالمياً، فإن أكبر خطر على نفوذها الرقمي ليس ترامب، بل هو التردد الأوروبي نفسه وعدم الصمود في تطبيق السياسات، خاصة أن أوروبا تتمتع بميزة تفاضلية؛ حيث تظل أحد أكبر الأسواق الاستهلاكية عالمياً؛ ما يجعلها ضرورية لشركات التكنولوجيا الأمريكية التي لا يمكنها تعويض قوة الشراء الأوروبية.
وحسب هذه القراءات، ففي نهاية المطاف فإن هذه الشركات ستنصاع للتنظيمات الأوروبية كما حصل مع ماسك تجاه البرازيل. وعلاوةً على ذلك، تعتبر أوساط أوروبية أن هناك أطرافاً آخرين مثل أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان والبرازيل، مستعدة لمشاركة بروكسل مواجهتها ضد الهيمنة التكنولوجية الأمريكية؛ مما يمنح بروكسل فرصة للعمل على إرساء معايير عالمية جديدة.
4– النفوذ المتزايد لإيلون ماسك وتأثيره على سياسات ترامب الرقمية: أصبح إيلون ماسك لاعباً رئيسياً في الصراع الرقمي بين الولايات المتحدة وأوروبا؛ حيث استغل نفوذه الإعلامي والسياسي لدعم سياسات ترامب في مواجهة التنظيمات الأوروبية. وقد ظهر هذا التأثير بشكل واضح عندما عمد ماسك إلى تغيير خوارزميات منصة إكس لتعزيز المحتوى الداعم للقوى المحافظة، كما أعلن دعمه لتيار اليمين الأوروبي المتطرف، وخاصةً في ألمانيا؛ ما أثار عدم رضا المفوضية الأوروبية ودفعها إلى فتح تحقيق رسمي حول التلاعب بالمعلومات الرقمية. ومما يزيد من نفوذ ماسك وجود حلفاء له داخل أوروبا نفسها؛ حيث إنه حصل على دعم بعض قادة اليمين المحافظ والمتطرف في أوروبا كجورجيا ميلوني التي وصفته بـ”العبقري”، كما طالبت مجموعة “الوطنيون من أجل أوروبا” في البرلمان الأوروبي التي يرأسها الفرنسي جوردان بارديلا بمنحه جائزة ساخاروف لحرية التعبير.
ومنح تعزيز الأحزاب اليمينية المتطرفة حضورها في البرلمان الأوروبي بعد انتخابات يونيو 2024، ماسك نفوذاً سياسياً متزايداً داخل المؤسسات الأوروبية. وهذا الدعم يجعل من البت في القضايا المتعلقة بماسك في البرلمان الأوروبي عملية أكثر صعوبةً على الرغم من وقوف أحزاب اليسار والوسط ويمين الوسط الأوروبية ضده. وفي هذا السياق، يرى المؤرخ الفرنسي ديفيد كولون David Colon مؤلف كتاب “حرب المعلومات” La Guerre de l`information، أن ماسك يسعى إلى تدمير الحقيقة الصحفية من خلال تحويل منصة إكس إلى أداة لنشر المعلومات المضللة، كما يتنقد كولون تحكم ماسك بالخوارزميات لتعزيز محتواه الشخصي وتقليل ظهور وسائل الإعلام الموثوقة على منصته؛ ما أدى إلى خلق اقتصاد للمعلومات الكاذبة واستبدال نموذج إعلامي خاضع لتأثير المؤثرين والخوارزميات مكانَ الإعلام التقليدي؛ الأمر الذي من شأنه أن يعزز من تأثير ماسك السياسي، ويجعل من منصته أداة قوية في الصراعات الرقمية بين واشنطن وبروكسل.
5– خلافات حول فكرة تقليل القيود على الذكاء الاصطناعي: تعد سياسات الذكاء الاصطناعي من أكثر الملفات حساسيةً في الصراع الرقمي بين أوروبا والولايات المتحدة؛ حيث تتبنى واشنطن نهجاً قائماً على الحد الأدنى من التدخل الحكومي، بينما تسعى بروكسل إلى فرض لوائح صارمة لضبط استخدامات الذكاء الاصطناعي. وقد دفع ترامب بشركات التكنولوجيا الأمريكية إلى تعزيز تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، متعهداً بإزالة العراقيل البيروقراطية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على هذا القطاع، كما يخطط البيت الأبيض لاستثمار 500 مليار دولار في هذا المجال؛ ما يعزز التفوق الأمريكي فيه.
وفي المقابل، تحاول أوروبا تعزيز موقعها في سباق الذكاء الاصطناعي من خلال زيادة الاستثمارات في البنية التحتية الرقمية؛ حيث أعلنت المسؤولة العليا عن الرقابة الرقمية في الاتحاد الأوروبي “هينا فيرككونن” عن استثمار بقيمة 1.5 مليار يورو في سبعة حواسيب فائقة لدعم تطوير نماذج ذكاء اصطناعي أوروبية تنافس النموذج الأمريكي، كما أطلقت نداءً لجذب الاستثمارات في أوروبا خلال منتدى دافوس الاقتصادي، مشددةً على أن القارة الأوروبية متأخرة بشكل كبير في الابتكار والتطوير. وبالإضافة إلى ذلك، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن جمع 200 مليار يورو من الاستثمارات خلال قمة عمل الذكاء الاصطناعي في باريس. ولكن رغم كل هذه الجهود، مازال الاتحاد الأوروبي يواجه صعوبة في مجاراة الإنفاق الأمريكي الهائل في هذا المجال.
6– المواجهة حول التشفير والخصوصية الرقمية: تصاعدت المواجهة بين شركات التكنولوجيا وبعض الحكومات الأوروبية مؤخراً بسبب مسألة التشفير والخصوصية الرقمية؛ حيث باتت الشركات الأمريكية، بدعم من إدارة ترامب، تعارض محاولات الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة لفرض قيود على تشفير البيانات. وقد وصل الخلاف إلى مراحل جديدة بعد إطلاق شركة أبل، في 4 مارس 2025، إجراءات قانونية لإلغاء مطلب الحكومة البريطانية بإدراج “باب خلفي” في التشفير، وهو ما اعتبرته واشنطن تهديداً مباشراً لأمن البيانات وحرية المستخدمين.
وفي هذا السياق وصف ترامب القرار البريطاني بأنه توجه سلطوي شبيه بالصين. وعلى الجانب الأوروبي، يواجه المشروع نفسه معارضة داخلية؛ حيث رفض البرلمان الفرنسي في 5 مارس 2025 تمرير مقترحات مشابهة بحجة أنها تهدد أمن جميع المستخدمين وتفتح الباب أمام ثغرات أمنية كارثية. ومع ذلك، لا تزال بعض الجهات الأمنية الأوروبية تضغط باتجاه فرض قيود على التشفير لحماية الأمن القومي، مبررةً ذلك بأنه يسهل مراقبة الشبكات الإجرامية ومهربي المخدرات والتنظيمات الإرهابية، خاصةً مع تزايد اعتماد هذه الشبكات على تطبيقات مشفرة مثل “واتساب” و”سيجنال”. وتكشف هذه المواجهة عن صراع أوسع بين نموذج أوروبي يسعى إلى تنظيم الفضاء الرقمي، ونهج أمريكي يفضل الحد الأدنى من التدخل الحكومي في الابتكار؛ ما يزيد من تعقيد العلاقات بين الجانبين في هذا الملف الحساس.
ختاماً، أصبحت المواجهة بين أوروبا وشركات التكنولوجيا الأمريكية أكثر من مجرد صراع تنظيمي، بل باتت تمس سيادة الفضاء الرقمي الأوروبي والمبادئ الديمقراطية التي تؤمن بها أوروبا. في ظل التحديات المتزايدة، تجد أوروبا نفسها أمام خيارين: إما الخضوع لنفوذ الشركات الرقمية الكبرى، وإما إعادة بناء استقلاليتها الرقمية من خلال سياسات أكثر جرأةً. ومع استمرار الضغوط الأمريكية، يبقى الحل الأمثل هو تعزيز الابتكار الأوروبي المحلي والاستثمار في بنية تحتية تكنولوجية مستقلة تقلل من الاعتماد على المنصات الخارجية.
وكخلاصة، يمكن القول إن الأوروبيين مقتنعون بأن استعادة السيادة الرقمية ليس مستحيلاً، ولكنه يتطلب إرادة سياسية واستراتيجية استثمارية طويلة الأمد.
نوار الصمد – انترريجونال
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.