“القوة التي تسود البحار تهيمن على العالم”، كانت هذه الخلاصة التي توصل إليها الأدميرال ألفرد ماهان بعد دراسته لصعود الإمبراطورية البريطانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فعلى عكس البر والطرق القاريّة – كما يرى الإستراتيجي الأمريكي – تمتاز البحار باعتبارها طرقًا مفتوحةً لا تعترضها الحدود الطبيعية أو السياسية، لذا فإن السيطرة على الممرات المائية تعني التحكم بخطوط الإمداد اللوجستي اللازمة لتمكين النفوذ العسكري والاقتصادي.
الفرضيات الرئيسية في نظرية ماهان المنشورة عام 1890 لم تزل نافذة إلى الحاضر، حيث تُنقل اليوم أكثر من 80% من البضائع بحرًا إلى الأسواق العالمية، وبينما يُتوقّع أن يخوض الجيل الجديد من السفن العملاقة عباب المحيطات في المستقبل القريب، فإن استمرارية الصدارة لقطاع النقل البحري تكاد تكون حتمية.
إعلان مبادرة طريق الحرير في 2013 مثّل استجابة لدروس الماضي وقراءات المستقبل، فمن خلال الاستثمار في موانئ الدرب التاريخي تهدف بكين إلى إعادة تعريف قواعد اللعبة الإستراتيجية للقوى الكبرى، وتأمين نفوذ التنين الصيني في الطرق البحرية العالمية، بالإضافة إلى الالتفاف على الحصار الأمريكي وخلق طرق بديلة والدخول إلى الأسواق القارية البعيدة.
رقعة الشطرنج وقواعد اللعبة الكبرى
على مر التاريخ كان تنافس القوى الكبرى جيوسياسيًا في جوهره مع تبدل مظاهره وأدواته، ففي الحرب الباردة – على سبيل المثال – سعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إلى تكوين وتوسعة دوائر نفوذهما تحت مبررات أيدلوجية، حتى انقسم العالم إلى معسكرين فكريين يمثلان في الواقع مقياسًا لتوازن القوة وخطوط نفوذ قطبي النظام العالمي، وهكذا تتبدل قواعد اللعبة تبعًا لعقلية اللاعبين الإستراتيجية.
تنظر أمريكا إلى الخريطة العالمية – كما يصفها زبيغنيو برزينسكي – على أنها رقعة شطرنج كبيرة، ما انعكس على تصميم الإستراتيجية الكبرى للإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض وخطواتها التنفيذية، فتقدمت بصورة متسلسلة بدايةً من التحول إلى قوة إقليمية في الأمريكيتين، ثم التوسع إلى غرب أوروبا فالعالم، كما أنها حرصت – كما في لعبة الشطرنج – على الولوج إلى مناطق نفوذ السوفييت الإستراتيجي وإسقاط القطع الحليفة للمعسكر الشيوعي وتنصيب أخرى موالية لها.
مع تحول النظام الدولي إلى الصورة أحادية القطب مطلع تسعينيات القرن الماضي، انتهجت الولايات المتحدة سياستين لتمكين نفوذها العالمي، فعمدت إلى ملء الفراغ الجيوسياسي وبسط نفوذها على رقعة الشطرنج العالمية بذات الأدوات الأيدلوجية والمؤسسية التي انتهجتها في الحرب الباردة، بالإضافة إلى احتواء وحصار الأقطاب المستقبلية المحتملة للحيلولة دون صعودها كقوى إقليمية باعتبار ذلك أول مراحل تحولها إلى قوة دولية.
بالنسبة لبكين، ومنذ تأسيس الجمهورية الشعبية وحتى الحاضر، وجدت قيادة الحزب الشيوعي نفسها محاصرة بحضور عسكري وسياسي للولايات المتحدة في اليابان وكوريا وتايوان والهند وما يتصل بها من بحار ومضائق مثل المحيط الأطلسي والهندي وبحر الصين ومضيقي تايوان وملاكا، ما يشكل عثرة كبرى أمام تحول الصين إلى قوة نافذة إقليميًا، وبالتالي صعودها كقطب في النظام الدولي.
قواعد الجو والإستراتيجية الصينية
على عكس الذهنية الإستراتيجية الغربية، يمكن تمثيل قواعد إستراتيجية الصين بلعبة الـ”جو”، التي يكون فيها الانتصار من خلال التملص من الحصار بملء المربعات الفارغة والقفز على الخصم وتطويقه من الخارج دون الحاجة إلى إزاحة قطعه.
بهذه الطريقة سعت بكين إلى صياغة إستراتيجيتها الكبرى لمناورة الاحتواء الأمريكي وهندسة الصعود الصيني، وتحديدًا من خلال إعادة إحياء طريق الحرير الذي تسعى من خلاله إلى القفز خارج الإقليم والدخول في مربعات جغرافية جديدة بحزام برّي يمتد عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط فأوروبا، وطريق بحري يقطع بحر الصين فالمحيط الهندي وصولًا إلى المتوسط.
إستراتيجية المناورة الصينية لا تقتصر على الصعيد الجغرافي فحسب، بل وحتى على منهجية التنافس، فعلى عكس نظرائهم السوفييت، لم تتبن قيادة الحزب الشيوعي مشروعًا إيدلوجيًا مضادًا لمقاومة البروبغندا الليبرالية، بل نقلت التنافس إلى الأبعاد المادية باستثمارات في دول العالم الثالث – التي لا تتصدر أولويات أجندة البيت الأبيض – من خلال مشاريع بنى تحتية في قطاعات النقل والمواصلات.
جيوبوليتيك الموانئ
تصنّف الموانئ من الناحية الوظيفية في كونها إما بوابات (Gateway Port) ومنافذ إلى المساحات القارية الظهيرة، على غرار ميناء لندن، وإما كمحطات ربط محورية على الطريق البحري العالمي (Transshipment Hub Port) التي يتم فيها نقل الحاويات بين السفن وتموينها، كما في ميناء سنغافورة.
من خلال الاستثمار في الموانئ، ترنو الإستراتيجية الكبرى للصين إلى خلق سلسلة متصلة من المنشآت والقواعد “خيوط اللؤلؤ” على طول خطوط الاتصال البحرية بما يحقق لها هيمنة بحرية وقارية، وذلك وفق إستراتيجيتين متصلتين.
تتحرك الإستراتيجية الأولى في اتجاهين: الأول محاولة السيطرة على خطوط النقل وطرق التجارة العالمية البحرية عبر تشييد وتطوير الموانئ في محيط المضائق الإستراتيجية، ويتمثل الاتجاه الثاني في خلق طرق تجارة ومداخل بديلة بعيدًا عن مواطئ قدم العم سام.
في مقابل ذلك، تتمحور الإستراتيجية الثانية في استغلال الموانئ كبوابات يتم توظيفها إما كمنافذ بديلة للصين وإما كمداخل إلى المناطق القارية الظهيرة في الأقاليم الأخرى، والاستفادة من البنى التحتية والفوقية القائمة، وإما حتى تشييد شبكات طرق وجسور وسكك حديد وموانئ جافة ومناطق صناعية متصلة بها.
من الناحية التطبيقية، يشكل الطريق البحري بين بحر الصين والمحيط الهندي شريان الحياة للاقتصاد الصيني، غير أن بكين تعاني في هذا الصدد مما أسماه الرئيس الأسبق هو جينتاو بـ”معضلة ملاكا” (Malacca Dilemma) حيث يبقى المضيق الرابط بين المسطّحين المائيين مخنقًا يهدد تدفق الواردات والصادرات الصينية.
لذلك تسعى إدارة الرئيس شي جين بينغ إلى امتلاك أفضلية جيوسياسية في محيط المضيق من خلال تشييد ميناء محوري في مدينة ملاكا الماليزية بقيمة تتجاوز 10 مليارات دولار، وكذا تطوير موانئ كوالا لينجي وكوانتان وبينانج في شبه الجزيرة المالاوية.
بالإضافة إلى ذلك، أعلنت قيادة الحزب الشيوعي عن مشروع ميناء كياوكبيو في ماينمار الذي سيتم ربطه بالداخل الصيني عبر شبكة طرقات وأنابيب هيدروكربونات بما يمنح الصين منفذًا على المحيط الهندي لا يمر عبر مضيق ملاكا، ويماثله ميناء جوادر ومشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
في مقابل الموانئ المنفذية والبنى التحتية والفوقية المتصلة بها، يبقى المشروع الأكثر طموحًا لتخطي معضلة ملاكا، هو اهتمام شي جين بينغ بتوسعة برزخ كرا في تايلاند وتحويله إلى قناة بحرية (بطول 100 كيلومتر – 135 كيلومترًا وعرض 500 متر) تشق شبه الجزيرة وتربط بحر الصين ببحر أندمان في المحيط الهندي.
الإستراتيجية ذاتها يمكن ملاحظتها في محيط مضيق باب المندب، من خلال تشييد قاعدة بحرية في جيبوتي والاستثمار في ميناء مومباسا في كينيا جنوب خليج عدن، وعلى الطريق المؤدي إلى رأس الرجاء الصالح، الذي سيتم أيضًا ربطه بالعاصمة نيروبي عبر سكة حديد بطول 485 كيلومترًا، ويماثله مشروع ميناء حيفا في الأراضي المحتلة، الذي يتوسط قناة السويس ومضيق البوسفور، وتطمح بكين من خلاله إلى دخول أسواق الشرق الأوسط.
في أوروبا يعد ميناء بيرايوس اليوناني أبرز تجربة استثمار في ميناء حاويات محوري، الميناء الطبيعي، الذي تستحوذ الحكومة الصينية على 67% من قيمته، يعد أحد أهم موانئ حوض المتوسط، حيث يقع غرب مضيق البوسفور في نقطة تربط بين قارات أوروبا وإفريقيا وآسيا، وكل من البحر الأسود وبحر إيجة والبحر الأيوني.
على الجانب الآخر تستثمر بكين في ميناء فالنسيا الإسباني الذي يتصل بميناء روتردام عبر طرق شحن قصيرة، ويعد بوابة العاصمة الإسبانية مدريد وشبه الجزيرة الإيبيرية، وعلى نفس المنوال أبدت الصين اهتمامها بمينائي جنوى وتريستا في إيطاليا، حيث يرتبط الأول بشمال أوروبا عبر سكك حديد بينما يغذي الثاني وسط القارة ودول شمال الأدرياتيكي، ما يفتح المجال للتنين الصيني نحو قلب القارة العجوز.
في الوقت الذي دخلت فيه مشاريع طريق الحرير إلى 42 ميناءً في 34 دولة، ومع توقع استمرار التوسع إلى موانئ ودول جديدة، تقوم الصين بتكوين خط نفوذ جيوسياسي بحري متصل يزداد معه طرديًا نفوذها العالمي، وبالتالي صعودها كقوة عالمية.
التحديات
في الوقت الذي تبدو إستراتيجية الموانئ فعّالة في رسم ملامح الصعود الصيني بوضوح، تبرز جملة من التحديات الداخلية والخارجية التي قد تحد من فرص نجاح المشروع.
ففي المقام الأول تأتي إشكالية القيود الزمنية، التي تعني انتهاء النفوذ الجيوسياسي بانتهاء عقود الاستثمار في الموانئ، وهو ما حاولت بكين التعامل معه من خلال محاولة التحكم في القرار السيادي للدول المستهدفة بانتهاج أساليب شتى أبرزها توريطها بقروض صعبة السداد بما يدفعها إلى التخلي عن الأصول لاحقًا أو ما يصطلح عليه بدبلوماسية “فخ الديون”.
إلا أن إستراتيجية القروض أتت بنتائج عكسية، بما يهز مصداقية مشروع طريق الحرير، ما دفع إدارة شي جين بينغ إلى إسقاط ديون بقيمة 3.4 مليار دولار عن 17 دولة إفريقية، لكن دون إيجاد حل جذري لإشكالية السقوف الزمنية، وهو ما يبرز الإشكالية التي تعانيها بكين في نقل المشروع من دائرة المنافع الاقتصادية المشتركة إلى المصالح السياسية والإستراتيجية، على غرار التجربة الأمريكية في أوروبا ومزامنة خطة مارشال بتأسيس الناتو.
في المقابل، وبينما تهدف الإستراتيجية الصينية – كما في مبادئ ماهان – إلى المزاوجة بين الأبعاد الأمنية والاقتصادية، تبدو بعض المشاريع الجيوستراتيجية – لا سيما الطرق الجديدة – ذات جدوى اقتصادية محدودة، على غرار ميناء جوادر وقناة كرا، ما يجعلها موضوع جدل في أروقة الحزب الشيوعي.
في الجانب الآخر، لن تكون الاستثمارات الصينية بمنأى عن مشاريع أمريكية مضادة، إذ أعلنت إدارة الرئيس بايدن عن مبادرتين اقتصاديتين، تتمثل الأولى في مشاريع البنية التحتية لمجموعة الدول السبعة G7 المكافئ لطريق الحرير الذي أسمته “إعادة بناء عالم أفضل” (B3W) وكذا مشروع الإطار الاقتصادي لدول المحيطين الهندي والأطلسي (IPEF) الذي يصبو إلى سحب الاستثمارات الأجنبية من داخل الصين.
كما لن يكون مستبعدًا أن تلجأ واشنطن إلى سياسة إسقاط القطع الموالية لبكين وتنصيب أنظمة مناصرة لها، وفي هذا السياق اتهم رئيس الوزراء الباكستاني الأسبق عمران خان البيت الأبيض بتدبير عملية حجب الثقة عنه وعزله من البرلمان، وبينما لا يزال الوضع في إسلام أباد ضبابيًا، تبقى كل الاحتمالات واردة.
في الخلاصة، تحاول الصين رسم إستراتيجية صعودها من خلال مناورة الاحتواء الأمريكي والقفز فوق المربعات التي تتحكم واشنطن بها، من الناحية العملية، يتجلى ذلك من خلال مشروع طريق الحرير والاستثمارات في الموانئ البحرية وذلك لتحقيق ثلاثة أهداف: أولًا، اكتساب نفوذ جيوستراتيجي في المضائق، وتحقيق السيطرة على طرق التجارة العالمية، ثانيًا، القفز على الحصار الإقليمي وتجاوزه من خلال منافذ وطرق بديلة، ثالثًا، الحصول على موطئ قدم في المداخل إلى المساحات القارية ودخول أسواقها.
غير أن درب طريق الحرير لن يكون مطرزًا بالورود، فيتوجب على إدارة شي جين بينغ التعامل مع إشكالية القيود الزمنية، وضعف الجدوى الاقتصادية لبعض المشاريع، وكذا القدرة على قراءة التحركات القادمة للبيت الأبيض في إطار القواعد الجديدة للعبة الإستراتيجية الكبرى.
خلدون عبد الله – نون بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.