مُقَدِمة
على مدار القرنين العشرين والحادي والعشرين، شهدَت القارة الأوروبية العديد من الصراعات والأزمات الدولية الشائِكة التي تعارضت مع العديد من المبادئ التي وردت في صُلح ويستفاليا، والتي أكدَّ عليها ميثاق الأمم المتحدة UN Charter. فلقد عمل صُلح ويستفاليا في النصف الأول من القرن السابع عشر على إنهاء واحدة من أخطر الحروب الدينية الضارية “حرب الثلاثين عامًا 1618-1648” بين الأُسر الحاكِمة في القارة الأوروبية آنذاك وهم (آل هابسبورغ) ذات الصبغة الكاثوليكية، (ومُناهضي آل هابسبورغ) ممن يتبعون البروتستانتية. فكان نشوء السلم الأوروبي، وإقرار توازن القوى، ومبدأ السيادة القومية للعديد من الدول الأوروبية من أبرز مبادئ ذلك الصُلح، حيث كان تعمُّق مساحة الفوضى والصراعات أكثر من مساحة الاستقرار وقتذاك، كما أن حالة الاستقرار تلك حملت في طياتها اختزالًا لأنماط صراعية جديدة كأَتُون الحرب العالمية الأولى والثانية، والحرب الباردة والتي على إثرها انهار الاتحاد السوفيتي على التوالي ٢٥ ديسمبر ١٩٩١، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي القوى المُهيمنة ليتغير النظام الدولي من الثنائية القطبية إلى الأحادية القطبية والتي امتدت فيه سيادة حالة “عدم الاستقرار” Non Stability.
فمنذ منتصف العقد الرابع من القرن الماضي، تعززت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى العالمي من خلال ذلك النظام الدولي International Order الذي تأسس على يد “الحُلفاء” (الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد السوفيتي، الصين، بريطانيا، فرنسا). وبالإضافة إلى ذلك، مع تصاعُد حِدة التنافس بين الاتحاد السوفيتي، الولايات المتحدة الأمريكية، وأفول أخرى (بريطانيا، فرنسا)، نتيجةً لسيادة حالة الفوضى لتصبح هي السمة المُلازمة للنظام الدولي حتى الوقت الراهن. وفي هذا السياق، نجد أن الأمن الأوروبي نتاج الحالة الصراعية المُمتدة منذ قرون عدة في مناطق مختلفة لم يشهد استقرارًا راسخًا وحقيقيًا. فمع القيادة الأمريكية، تصاعَد الدور الروسي مع وصول فلاديمير بوتين للسُلطة ٧ مايو ٢٠٠٠، والذي أخذ على عاتقه القيام بعمليات تنموية إصلاحية في الداخل الروسي، ومحاولات مُمنهجة لتغيير النظام الدولي الراهن؛ الأمر الذي قُوبِلَ بمواجهة مجددًا بين الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا. فمنذ عام ٢٠٠٤، ومع انتشار الثورات الملونة في دول أوروبا الشرقية المُدعمة من الغرب، وقيام روسيا بعمليات عسكرية مختلفة للدفاع عن أمنها القومي، وإعادة هيبتها الدولية من خلال سياستي الترهيب والرغيب معًا الحرب الجورجية ٢٠٠٨، شبه جزيرة القِرم ٢٠١٤، وأخيرًا مع إعلان روسيا الحرب على أوكرانيا في صباح يوم ٢٤ من فبرابر ٢٠٢٢ والتي لا تزال قائمة حتى تاريخ كتابة هذه السطور، والتي على إثر اندلاعها عادت التساؤلات مجددًا حول مستقبل الأمن الأوروبي الذي لطالما شهد العديد من التهديدات والتحديات التي تهدد من فكرة وجود الأمن نفسها.
بدايةً، وحتى يُمكن الوقوف على موضوع الحرب الروسية الأوكرانية لابدَّ أولًا من فهم نظرية الواقعية، ونظرية الدور في العلاقات الدولية، وكذا نظرية تحول القوة لأورجانسكي، بجانب كلًا من المنهج التاريخي والوصفي للوقوف على أبعاد ذلك الموضوع وأثاره، وتحقيق نوع من التكامل المنهجي.
استنادًا إلى أن الأمن القومي ليس مطلقًا، بل نسبيًا كمفهوم من الناحية النظرية والعملية على حد السواء، سنحلل ماهية الأمن القومي، وذلك وفقًا لنظرية الواقعية. فالنظرية الواقعية تُركز على البُعد الاستراتيجي، ونتيجة لذلك، فإن الدولة هي الفاعل الدولي الرئيسي، إن لم يكن الوحيد. فالنظام الدولي في حالة فوضى؛ بسبب عدم وجود سلطة دولية مركزية وقيادية، ولذلك يجب على فرادى الدول أن تتولى مسؤولية أمنها وأن تدافع عن مصالحها من خلال اكتساب القوة واستخدامها عندما يتم تهديد أمنها القومي.[1]ووفقًا لنظرية الدور التي تعود في علم الاجتماع الغربي مُنطلقة من أسس اجتماعية سيكولوجية خالصة، وذلك حتى يُمكن فهم وتحليل موقع الفرد وتأثيره في السياسة الداخلية والعالمية. فالدول تعتمد بشكل كبير على سياسات وسلوكيات صناع ومُتخذي القرار السياسي.[2] ونتيجةً لهذا، تتعدد التعريفات المقدمة لذلك المصطلح، حيث عرف ستيفن والكر “الدور” Role “بأنها تصورات واضعي السياسات الخارجية Policymakers لمناصب دولهم في النظام الدولي.”
وعلى مدار القرون السابقة حتى الوقت الراهن، ظهرت مجموعة من القادة (نابليون بونابرت، بسمارك، لينين، هتلر، موسوليني، ستالين، فرانكلين روزفيلت، وينستون تشرشل، تشارل ديغول، ماو تسي تونج، جمال عبد الناصر، فلاديمير بوتين) الذين أدت قراراتهم إلى تغييرات كبيرة في النظام الدولي والعلاقات بين الدول، سواء كانت إيجابية أو سلبية. ونتيجةً لذلك، اتصالًا بنظرية الدور Role برزت مجالات دراسة الشخصية Personality Studies وعلم النفس السياسي.[3]
وفيما يتعلق بنظرية تحول القوة تم تعريفها من قِبَلْ الأكاديمي الإيطالي أبرامو أورجانسكي، حيث وصف النظام الدولي بأنه قائم على التسلسل الهرمي. ورأى أنه نتيجة تلك الطبيعة الهرمية للنظام الدولي، فإنه سيكون هنالك قوة مهيمنة تتحكم في مُجريات وسياسات هذ النظام.[4] وأكد على أهمية رضا باقي الدول في النظام الدولي عن القوة المهيمنة كأداة لتحقيق الاستقرار والحفاظ على الوضع الراهن للنظام الدولي. كما أكد على العلاقة بين التسلسل الهرمي والوضع الراهن والسلطة في النظام الدولي. فالقوى العظمي تسعى بلا كلل لتحل محل القوي المهيمنة في النظام الدولي لا سيما إذا كانت غير راضية عن الوضع الراهن. وبالتالي، يجب أن يكون لدي تلك القوى العظمي المؤهلات التي تتمثل في القوى الاقتصادية والعسكرية والتي تساعدهم على تحدي القوة المُهيمنة وتغيير ميزان القوى لصالحها.
١. أبعاد الحرب الروسية الأوكرانية
مع مرور أكثر من سبع سنوات على اندلاع الأزمة الروسية – الأوكرانية (الضمّ الروسي لشبه جزيرة القِرم ٢٠١٤، والحرب الأوكرانية مع الانفصاليين المدعومين روسيًا في شرق البلاد)؛ أُثيرت الأزمة السياسية مجددًا بين موسكو وكييف وزادت من تفاقم حِدة التوتر في مسار العلاقات الثنائية، والتي شهدت، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 وحتى الوقت الراهن، حالات مد وجزر في مراحل عدة؛ كعامي 2004 و2014، فمنذ تطبيع العلاقات بينهما، في عام 1999 وحتى الاعتراف الروسي بمنطقتي دونيتسك ولوغانسك في ٢١ فبراير ٢٠٢٢، كانت الأزمة Crisis هي السمة الرئيسة في علاقاتهما إلى أن اندلعت الحرب في صباح ٢٤ فبراير ٢٠٢٢.
والمتتبع للحرب يجد أنه يدخُل في تكوينها مُحددات شائكة شديدة التعقيد تُعيق من إمكانية الوصول لحل سلمي يُرضي كلًا من موسكو وكييف. فمقدمات التوتر بدأت منذ اندلاع الثورة البرتقالية في كييف عام 2004؛ الأمر الذي زاد من إثارة حفيظة موسكو المتمثل في الدعم الغربي والأمريكي الواضح والعلني لـ “الثورة البرتقالية”، وإبعاد “فيكتور يانكوفيتش” الموالي “للروس” وقتها عن الوصول إلى السلطة، خاصةً في ظل توسع انضمام دول شرق أوروبا لحلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، وشعور روسيا بأن تلك التحالفات بمثابة ناقوس خطر لأمنها القومي، ومحاولة غربية وأمريكية لتطويق مجالها الجيوسياسي، وابتزازها من وقت لآخر في فرض الرؤى الغربية بجوارها.[5]
وبالإضافة إلى البُعد الجيوسياسي والسياسي، نجد أن هنالك بُعدًا تاريخيًا يتمثل في روسيا وأوكرانيا بعلاقة تاريخية منذ قرون مضت؛ ففي العام 1654، وُقِعَتْ معاهدة بيرياسلاف Periaslav Treaty الهادفة لإدماج أوكرانيا بالإمبراطورية الروسية.[6]
وفي العام 1939 ضُمَّ غرب أوكرانيا (ذو التوجهات الغربية) إلى روسيا السوفيتية، مع الإشارة إلى أن سكان الجزء الغربي الأوكراني، قد ساندوا جيوش ألمانيا النازية ضد جيوش ستالين في الحرب العالمية الثانية؛ في محاولة للانسلاخ عن الاتحاد السوفيتي. وبعد انتصار الجيش الأحمر، ظلت أوكرانيا جمهوريةً سوفيتيةً مهمةً بعد روسيا فى اتحاد الجمهوريات السوفيتية حتى قرارها بالاستقلال عنه في خِضَمْ انهياره.[7]
وبصرف النظر عن البُعد التاريخي، يلعب البُعد الاجتماعي دورًا حاسمًا في تحديدها. وبسبب الخلط التاريخي في وجود شعبين روسي وأوكراني في الدولة الأوكرانية، يتحدث الأوكرانيون في المنطقتين الشرقية والجنوبية الشرقية من القِرم اللغة الروسية، وينتمون إلى الطائفة الأرثوذكسية الشرقية، ويعتبرون أنفسهم شعبًا روسيًا. وبالتوازي مع البُعد الاجتماعي، هنالك بعدًا نفسيًا مُتجذرًا بعمق في العداء والكراهية والمرارة، فضلًا عن الرغبة العميقة في الانتقام وإعادة التأهيل التي تملأ شعوب ومجتمعات جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق تجاه روسيا الاتحادية التي ورثته وتحاول إحياء الروح في دوره وإحياء مركزه الدولي السابق بسياساتها الحالية.[8]
٢. الدور الروسي في أوكرانيا
عند الحديث عن الدور الروسي، لابدَّ من الإشارة إلى أن ذكريات الدور الروسي بشكلٍ عام في النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية مرتبط بذكريات التفكك التي لا تزال موجودة وعالقة في أذهان العديد من السياسيين الروس اليوم. فلقد قام فياتشيسلاف فولودين رئيس مجلس الدوما بوصف التفكك بأنه “خيانة النُخبة السوفيتية فى ذلك الوقت للدولة والوطن”. وزعمَ رسلان خاسبولاتوف، آخر رئيس للمجلس السوفييتي الأعلى، أن مثل ذلك التفكك “ليس حتميًا” بل حدث “عمدًا” من قِبَلْ مجموعة من الأشخاص الضعفاء والجاهلين وغير الموهوبين الذين تصادف وجودهم في السلطة”. فضلًا عن ذلك فإن هذا يفسر لماذا تدرك النُخب الروسية مع ذلك أن روسيا تشترك في بعض نقاط الضعف الرئيسية التي كان يعاني منها الاتحاد السوفيتي، الذي سعى في نهاية المطاف إلى التفاوض لأنه لم يعد قادر على تحمل تكاليف سباق التسلح الباهظ الثمن مع الغرب. فروسيا اليوم عرضةً للتقلبات في أسعار الغاز والنفط العالمية بعد أن تم وقف مشروع نورد ستريم ٢، بجانب الحزم الهائلة من العقوبات الاقتصادية والاجتماعية والاتصالاتية التي أعلنها الغرب عليها. ورغم ذلك، تدرك روسيا مدى المشاكل الناجمة عن افتقارها إلى التنمية، واستمرار اعتمادها على صادرات المواد الخام، والدعم المستمر المُقَدَمْ من الصين منذ غزو موسكو لشبه جزيرة القرم. فهي تريد من الغرب رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة بعد عام 2014، وتحتاج إلى استثمارات غربية والوصول إلى الأسواق الغربية لتحقيق النمو الاقتصادي، إلى أنه مع تصاعد حدة الحرب القائمة فمن غير الممكن أن يتحقق ذلك.
فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسعى في الوقت الراهن إلى إعادة إنجاز ما أنجزته الستالينية من ابراز لصورة الاتحاد السوفيتي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كقوى عظمى تقف في وجه الولايات المتحدة الأمريكية. فالرجل ذو نزعة قومية روسية وضابط الكي جي بي السابق “المخابرات السوفييتية”. ومن الناحية النفسية، هو أسير لماضي بلاده العنيف وتطورها المُتقزم، ينظر إلى الأحداث من حيث تطويق الأعداء والقبلية واستعاده المجد القديم للاتحاد السوفيتي. ومن وجهة نظره حول الشؤون العالمية هناك شعور روسي تقليدي وغريزي بانعدام الأمن؛ حيث ينظر إلى بقية العالم على أنه عدائي وهذا يوفر ذريعة “للديكتاتورية” التي بدونها لا يستطيع إحكام قبضته على الداخل الروسي.[9] كما أن النُخبة المقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تؤمن بأوهام الانهيار الوشيك للغرب، ومعظمهم غير مهتم باحتمال حدوث المزيد من التصعيد بين روسيا والغرب، الأمر الذي يؤدي إلى مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة وأوروبا. فللوهلة الأولى، من الواضح أن مجلس بوتين لوزراء الحرب تشترك نُخبه في عدد من الخصائص، وأبرزها مُعاصرتهم للحظة انهيار الاتحاد السوفيتي.
وبالتوازي مع ذلك، يُدرك الغرب بشكلٍ عامٍ، والولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ خاصٍ أن نهوض الاتحاد السوفيتي مجددًا وتوافر مقومات الاستقواء التي يسعى إليها بوتين اقتصاديًا وسياسيًا، لن تكون في صالح النموذج الليبرالي الدولي الحالي. فالإدارة الأمريكية هي من استحدثت الأزمة الأوكرانية بغرض خنق روسيا اقتصاديًا وسياسيًا؛ حتى يكون هناك مرونة في مواجهة الصعود الصيني الذي يُعد التهديد الحقيقي من وجهة نظر العديد من المفكرين.[10]
٣. أثر الحرب الروسية الأوكرانية على مستقبل الأمن الأوروبي
على مدى عقود بعد الحرب الباردة، أظهر الأوروبيون عدم الرغبة في الانشغال العسكري والأمني، حيث كانت القارة محصورة تحت رعاية حلف شمال الأطلسي NATO، وهو حلف عسكري أمني تُدعمه الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن السلوك العدواني المتزايد من قِبَلْ روسيا بإعلانها الحرب على أوكرانيا صباح ٢٤ فبراير ٢٠٢٢ كشف عن تصدعات عميقة في الأمن الأوروبي Europrean Security. لذلك، حتى قبل الحرب الحالية، كان هناك صخب لا لبس فيه بين الأوروبيين من أجل موقف استراتيجي وأمني واضح ومستقل.[11] وبالتالي، فإن الحرب الجارية Current Warfare تمثل بالنسبة للاتحاد الأوروبي كفاعل دولي دعوة لتعزيز الإدراك Perception Enhancing بين القادة الأوروبيين لكي يصبح سلوكهم السياسي مُتناغم ومتوافق مع حقائق الأمن الأوروبي بدلًا من الرضا الزائف عن أوروبا المستقرة.
وفي هذا السياق، يُمكن تقسيم البنية الأمنية الأوروبية إلى ثلاث فترات متميزة، حيث تميزت كل فترة بمواجهة التحديات الجيوسياسية المُلحة في تلك الحِقبة. فمع انهيار الاتحاد السوفيتي، كان القلق الأمني الأوروبي مرهونًا بالتنافس بين المعسكرين العدائيين. لذلك، فإن إدارة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي كانت أساس البنية الأمنية لتلك الحقبة. ولذلك، ليس من الغريب أو من باب المصادفة أن تركز حقبة الحرب الباردة للأمن الأوروبي على حماية الليبرالية الغربية من تدخل الاتحاد السوفيتي في الغرب.
ومع ذلك، بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي ٢٥ ديسمبر ١٩٩١ كان حلف شمال الأطلسي NATO محرومًا من منطقه وهدفه الأساسي، حيث لم يعد التهديد القائم من الاتحاد السوفيتي موجودًا. ومن ثم، فقد خضع الهيكل الأمني لأوروبا لإعادة تقييم ملحوظة على مدار السنوات الماضية، فالفائدة المستدامة لحلف شمال الأطلسي ميزت حقبة ما بعد الحرب الباردة ليشمل الكثير من دول الاتحاد السوفيتي السابق. وقد تم تجسيد الهيكل الأمني الأوروبي وشمل تحديد الانشغال في هذه الحقبة احتواء القوى الصاعدة في الشرق الأوسط كالعراق، وغيرها من السياسات الأمنية التي ارتدت بشكلٍ عكسي على أمن القارة الأوروبية مثل تعزيز الهجرة الغير شرعية، وزيادة عدد اللاجئين القادمين من منطقة الشرق الأوسط؛ ليدفع إلى إعادة تقييم العلاقات الأوروبية الأوروبية (خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي).[12] وفي سياق الحرب الراهنة، أدى السعي إلى تحقيق الأمن النسبي ضد روسيا إلى قيام حلف شمال الأطلسي بتأسيس حملات توسعية لتطويق روسيا. غير أن هذا التوسع المتكرر أثار مخاوف أمنية في الداخل الروسي؛ لأنه فسر مبادرات حلف شمال الأطلسي لدول أوروبا الشرقية على أنها حيلة من الغرب لإخراج هذه الدول من حظيرة روسيا وبالتالي حرمان روسيا من “عُمقها الاستراتيجي”. ومن ثم، فإن هذه الهوة الإدراكية قد حرضت “الغرب” مقابل “روسيا”، وبالتالي عرضت البنية الأمنية الأوروبية للتفكك بعد أن صاغها الغرب بشق الأنفس في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى معاهدة ماستريخت ١٩٩٢، والتي عملت على تبني سياسة خارجية وأمنية مشتركة يمكن أن “تؤدي إلى إقامة منظومة دفاع مشترك”.[13] وفي خِضَمْ التحديات والتهديدات الراهنة للأمن الأوروبي المعاصر، يجب إصلاح هيكل الأمن الأوروبي بشكل جذري ليعكس المشهد الأمني المتطور.
إن الأزمة الحالية التي تُظهر فيها روسيا تعنتها للأمر الواقع De Facto فيما يتعلق بأي تسوية لما تعتبره “خطًا أحمر” لاسيما عندما يتعلق الأمر بتهديد أمنها القومي، تدل على زوال البنية الأمنية لما بعد الحرب الباردة التي اعتمدت على روسيا المُسالمة. إلى جانب ذلك، عجلت الحملات التوسعية لحلف شمال الأطلسي في دول أوروبا الشرقية من عودة الدور الروسي في المشهد السياسي الحالي. وبالتالي، فإن البنية الأمنية التي تم تدعيمها من قبل أولوية الغرب بلا منازع في القارة الأوروبية، تحتاج في الوقت الراهن إلى إعادة تقييم متزايدة. والواقع أن الحرب الروسية الأوكرانية أعادت إحياء حالة الخوف لدى الغرب فيما يتعلق بروسيا، وأثنته عن العدو الرئيسي الجديد “الصين”.
ومن السمات المهمة الأخرى التي قد تشهد تحولًا هي اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة لتحقيق الأمن. فمن الواضح أن الولايات المتحدة تمر بتراجع حاد وأصبحت تميل إلى التراجع بشكل متزايد من قبل دوائرها المحلية في القيام بمغامرات وأعباء أجنبية غير مرغوب فيها. لذلك، تحولت الولايات المتحدة إلى الداخل وتحول المحور الاستراتيجي من مركزيتها الأوروبية السابقة إلى المرجل الاستراتيجي للهند والمحيط الهادئ “الإندوباسيفيك”.[14] وبالتالي، فإن عبء الأمن الأوروبي يقع حاليًا على عاتق الدول الأوروبية التي تحتاج إلى زيادة الانفاق العسكري كالتي قامت به ألمانيا.[15] بجانب المزيد من الموارد لحماية الهيكل الأمني الأوروبي الذي كان مدعومًا بشكل مرن بالقوة الهائلة للولايات المتحدة. وبما أن انحسار الوجود الأميركي من أوروبا أصبح واقعًا، فإن عبء الحفاظ على البنية الأمنية يقع مباشرة على عاتق أوروبا الآن.
وختامًا لذلك، فإنه عند انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية التي لا تزال تلقي بظلالها على الأمن الأوروبي، سوف يتحدد شكل النظام الدولي. فمن المقرر أن تُغير هذه الحرب الكثير في النظام الأوروبي الذي لم يعرف الاستقرار الأمني والسياسي، بل وحتى الاقتصادي على مدار قرون وفترات متباينة. ومع ذلك، فإنه في حال فشل الأطراف في الوصول لتسوية سلمية وتقديم تنازلات، وفي حال استمرار تراجع مُشاركة الولايات المتحدة المباشرة في القضايا الأوروبية، فإن الدول الأوروبية في أشد الحاجة إلى التعامل مع عبئها الأمني. وعلاوةً على ذلك، فمن المقرر أن تعيد الحرب في أوكرانيا صياغة المنطق الأساسي للأمن الأوروبي، وسوف تبشر بعصر من الأعمال العدائية المتزايدة بين القوى العظمى المتنافسة. وبالتالي، فمن مصلحة الدول الأوروبية العمل على إعادة تقييم المبادئ الأساسية للأمن الأوروبي.
المراجع
[1] Booth, K. (1991). Security in Anarchy: Utopian Realism in Theory and Practice. International Affairs (Royal Institute of International Affairs 1944-), 67(3), 527–545. https://doi.org/10.2307/2621950
[2] Thies G, C. (2009). Role Theory and Foreign Policy. Research Gate. Available at: – https://www.researchgate.net/publication/228985348_Role_Theory_and_Foreign_Policy Accessed on: 3/5/2020
[3] Kaarbo, J. (2017). Personality and International Politics: Insights from Existing Research and Directions for the Future. European Review of International Studies, 4(2+3), 20–38. https://www.jstor.org/stable/26593792
[4] Lehne, S. (2021). Rivals or Partners? The EU-UK Foreign Policy Relationship After Brexit. Carnegie Europe. Available at: – https://carnegieeurope.eu/2021/03/30/rivals-or-partners-eu-uk-foreign-policy-relationship-after-brexit-pub-84197 Accessed on: 17/3/2022.
[5] Sheahan, M., Marsh, S. (2022). Germany to increase defence spending in response to ‘Putin’s war’ – Scholz. REUTERS. Available at: – https://www.reuters.com/business/aerospace-defense/germany-hike-defense-spending-scholz-says-further-policy-shift-2022-02-27/ Accessed on: 1/3/2022.
[6] سلامة على، جمال. (٢٠١٣). تحليل العلاقات الدولية: دراسة في إدارة الصراع الدولي. الطبعة الأولى، دار النهضة العربية: القاهرة، ص١٢١-124.
[7] الشيشي، رامز. (٢٠٢١). الأزمة الأوكرانية إلى أين؟. صحيفة تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين. متاح على الرابط التالي: –https://bit.ly/3qksg2J تاريخ الدخول: ١٧/٣/٢٠٢٢.
[8] الشيشي، رامز. (٢٠٢٢). بوتين وفخ الغرب. صحيفة تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين. متاح على الرابط التالي: – https://bit.ly/3I8veyH تاريخ الدخول: ١٧/٣/٢٠٢٢.
[9] محمد محمود، صدفة. (٢٠٢٢). لماذا تمثل أزمة أوكرانيا تحدياً حقيقياً لمنظومة الأمن الأوروبي؟. إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية. متاح على الرابط التالي: –
[1] Booth, K. (1991). Security in Anarchy: Utopian Realism in Theory and Practice. International Affairs (Royal Institute of International Affairs 1944-), 67(3), 527–545. https://doi.org/10.2307/2621950
[2] Thies G, C. (2009). Role Theory and Foreign Policy. Research Gate. Available at:- https://www.researchgate.net/publication/228985348_Role_Theory_and_Foreign_Policy Accessed on: 3/5/2020
[3] Kaarbo, J. (2017). Personality and International Politics: Insights from Existing Research and Directions for the Future. European Review of International Studies, 4(2+3), 20–38. https://www.jstor.org/stable/26593792
[4] سلامة على، جمال. (٢٠١٣). تحليل العلاقات الدولية: دراسة في إدارة الصراع الدولي. الطبعة الأولى، دار النهضة العربية: القاهرة، ص١٢١-١٢٤.
[5] الشيشي، رامز. (٢٠٢١). الأزمة الأوكرانية إلى أين؟. صحيفة تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين. متاح على الرابط التالي:- https://bit.ly/3qksg2J تاريخ الدخول: ١٧/٣/٢٠٢٢.
[6] المصدر السابق نفسه.
[7] المصدر السابق نفسه.
[8] المصدر السابق نفسه.
[9] الشيشي، رامز. (٢٠٢٢). بوتين وفخ الغرب. صحيفة تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين. متاح على الرابط التالي:- https://bit.ly/3I8veyH تاريخ الدخول: ١٧/٣/٢٠٢٢.
[10] المصدر السابق نفسه.
[11] محمد محمود، صدفة. (٢٠٢٢). لماذا تمثل أزمة أوكرانيا تحدياً حقيقياً لمنظومة الأمن الأوروبي؟. إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية. متاح على الرابط التالي:- https://www.interregional.com/%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%B9%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D8%AF/ تاريخ الدخول: ٢٥/٢/٢٠٢٢.
[12] Lehne, S. (2021). Rivals or Partners? The EU-UK Foreign Policy Relationship After Brexit. Carnegie Europe. Available at:- https://carnegieeurope.eu/2021/03/30/rivals-or-partners-eu-uk-foreign-policy-relationship-after-brexit-pub-84197 Accessed on: 17/3/2022.
[13] محمد محمود، صدفة. (٢٠٢٢). مصدر سبق ذكره.
[14] الدين هلال، علي. )٢٠٢١). “الإندوباسيفيك” والتنافس الاستراتيجي بين أمريكا والصين. العين الإخبارية. متاح على الرابط التالي: https://al-ain.com/article/the-indo-pacific-and-the-strategic-rivalry-between-america-and-china?utm_source=site تاريخ الدخول: ٥/١٢/٢٠٢١.
[15] Sheahan, M., Marsh, S. (2022). Germany to increase defence spending in response to ‘Putin’s war’ – Scholz. REUTERS. Available at:- https://www.reuters.com/business/aerospace-defense/germany-hike-defense-spending-scholz-says-further-policy-shift-2022-02-27/ Accessed on: 1/3/2022.
رامز الشيشي – المركز الديمقراطي العربي
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.