بمعزل عن كوننا نلتقي على أنَّ توحيد الصفّ الفلسطينيّ واستعادة البعد العربيّ والإسلاميّ والإنساني للقضية الفلسطينية “شعبياً فقط”، كان من المكاسب التي حقَّقتها المقاومة، ولكن أيّ بُعد عربي وإسلامي رسميّ تمت استعادته أو أعطى مفاعيله؟
ما إن أُعلن وقف إطلاق النار على قطاع غزة، وخرجت المقاومة محتفيةً بالنصر، شاكرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية على ما قدَّمته من دعم وتمويل وتسليح، حتى تجنَّدت الأقلام والشاشات لرجم الشكر، وإن أتى عن استحقاق. تعددت الأسباب، والحقد واحد. القضيّة ليست إشكاليّة “السياسيّ والأخلاقيّ”، كما أراد المحاضر في فلسفة الأخلاق في جامعة “حمد بن خليفة”، معتز الخطيب، أن يُظهرها، بل هي أزمة الحقد اللاأخلاقي.
في مقال له، وضع الخطيب شكر الفصائل الفلسطينية لإيران ضمن “مأزق العلاقة بين السياسة والأخلاق في ممارسة هذه الحركات المنتسبة إلى الإسلام، والَّتي تدّعي لنفسها تميزاً أخلاقيّاً يفصلها عن غيرها”، على حدّ تعبيره. وأفرد صفحات مقاله متوقفاً عند ما وصفه بـ”حفلة الشكر والاتصالات والتحركات التي أعقبت وقف الحرب الإسرائيلية على غزة”، لكونها “استثماراً سياسياً في ما حدث”.
لم يفوّت الرجل تفصيلاً في أدبيات الشكر التي أعلنتها المقاومة أو تلك التي تناولت تغطيات قناة “الميادين”، وتوقّف أيضاً عند الشّكر الّذي وُجه إلى القناة لأدائها في تغطية العدوان على قطاع غزة. وعلى أساس الموقف الإيراني الداعم لسوريا وموقفه الشخصي كمعارض سوري، كان الخطيب يختزل كل الوقائع، فيحاكم المقاومة الفلسطينية، ويوجّه اتهامات بالجملة إلى إيران ومحور المقاومة، الممتد من العراق إلى لبنان، مروراً بفلسطين، وصولاً إلى اليمن.
وبمعزل عن أدبيات التّكفير النافرة التي لجأ إليها الخطيب في توصيفات طائفية بغيضة لا تلتقي إلا مع صور نحر الرؤوس على الشاشات، قال الكاتب السوري إنه أراد من خلال إثارته التساؤلات مشاركة القارئ التفكير، لفتح باب النقاش. وبناء على ذلك، يأتي الرد من منصّة “الميادين” التي يبدو الخطيب منكبّاً على متابعتها عن كثب.
في رأي الكاتب، إنَّ الاستثمار السياسي هو ما تريده إيران؛ الاستثمار في انتصار المقاومة، والاستثمار في خطابات الشكر، ليُقزم مشهد معركة مفتوحة منذ عقود باستثمار في عبارات الشكر، قافزاً عن الدعم الإيراني المفتوح مالياً وسياسياً وثقافياً. وفي الوقت الذي كانت الدعاية الرسمية العربية بشكل عام تتجنّد لبثِّ الانهزامية في الوعي العربي، مدعومةً من المؤسسات الدينية التي لم تخرج يوماً عن سياق الخطاب الرسمي العربي، كانت إيران تعيد ترسيخ الثوابت، مستفيدة من كلّ المحطات، من إعلان يوم القدس العالمي، إلى مسيرات البراءة… وقد جنّدت دعاتها لكلّ أوراق استنهاض الوعي الجمعي العربي والإسلامي. هكذا كانت تخوض الجمهورية الإسلامية معركتها ضد “إسرائيل” ثقافياً ومادياً وعسكرياً، بدعم كلّ الجبهات، متى ما توفرت الإرادة.
لكنَّ الخطيب كان يشخّص عملية الاستثمار الإيراني بسهولة، في وقت بدا من الصعب عليه تشخيص حالة الحرب التي تعيشها إيران منذ ما يزيد على 4 عقود، بفعل خياراتها السياسية كدولة إقليمية وحيدة لا تعترف بالكيان الصهيوني، بل وتنادي بزواله، وتلتزم بخيار تحرير كامل فلسطين، كموقف سياسي ثابت، يدعمه اعترافها الصريح والعلني بدعم المقاومة بالمال والسلاح وكل ما تطلبه مواجهة الاحتلال.
ولعلَّ أبرز ما كان لافتاً أنَّ المحاضر في فلسفة الأخلاق لا يجد تعارضاً أخلاقياً في التغاضي عن كون التضييق والحصار المستمر منذ عقود على الشعب الإيراني، والعقوبات التي تطال الإيرانيين، من رأس الهرم إلى القاعدة، مالياً واستشفائياً، وحتى في حقوق امتلاكهم للتكنولوجيا، ما هي إلا ضريبة ارتضاها الإيرانيون ثمناً لخياراتهم السياسية بالوقوف مع فلسطين.
وكأحد تجلّيات الحقد اللاأخلاقي، ذهب الكاتب إلى وضع إيران مع كيان العدو في خانة واحدة، لكونهما “الدولتين” الوحيدتين القائمتين على أساس ديني، نظراً إلى أنَّ الأولى تعرّف عن نفسها بأنها دولة شيعية، فيما تقول “إسرائيل” إنها “دولة يهودية”، بحسب الكاتب! فإذا كانت أزمة النموذج الإسلامي في إيران بأنه خيار أفرزه الاستفتاء الشعبي (آذار/مارس 1979)، فأي توصيف ينطبق على النموذج السعودي الذي جرى فرضه على قاعدة “ولاية المتغلّب”؟ وما الذي يمكن قوله في عملية التغيير الديموغرافي والتجنيس على أساس مذهبي في البحرين؟
هل اطّلع الكاتب على أوضاع الإيرانيين، سنةً ومسيحيين ويهوداً وزرادشتيين، قبل الخروج بهذا الحكم؟ إنَّ مساجد السنة حاضرة في العاصمة طهران وبندر عباس وبلوشستان وكيش، وحيث انتشارهم داخلياً، ولم يسجّل لإيران أنها مارست اضطهاداً دينياً بحق غير المسلمين، بل على العكس، قدمت العوائل المسيحية الشهداء في حرب الخليج الأولى التي خيضت ضد إيران، كتعبير عن التحامهم بوطنهم، فيما يمارس يهود إيران حرياتهم الدينية بشكل طبيعي.
ومن بين 4 مستشفيات خيرية لليهود في العالم، هناك مستشفى خيري ليهود البلاد في جنوب العاصمة طهران.. وفي وقت يُكفَّر الزرادشت والصابئة في دول عدة في المنطقة، يمارس أبناء الطائفتين طقوسهم الدينية بحرية يكفلها القانون الإيراني، ثم أي حقوق وامتيازات يحظى بها أيّ وافد شيعي إلى إيران تفوق امتيازات المواطن الإيراني، يستند إليها الخطيب لوضع النموذج الإيراني في مصاف نموذج التهويد الذي يمارسه العدو؟
بعدها، يستطرد الرجل في مقاله، معتبراً أن “أحد المكاسب الكبرى التي حققتها المقاومة في المعركة الأخيرة، هو توحيد الصف الوطني الفلسطيني، واستعادة البعد العربي والإسلامي والإنساني للقضية الفلسطينية، ولكن الإلحاح على إظهار البعد الفصائلي، وإبراز الفضل الإيراني في ذلك، يعيدنا إلى الافتراق والانقسام مجدداً، ويَفتّ في عضد الدعم الإنساني الذي توفر لها؛ لأن صورة إيران دوليّاً سلبية”.
وبمعزل عن كوننا نلتقي على أنَّ توحيد الصفّ الفلسطينيّ واستعادة البعد العربيّ والإسلاميّ والإنساني للقضية الفلسطينية “شعبياً فقط”، كان من المكاسب التي حقَّقتها المقاومة، ولكن أيّ بُعد عربي وإسلامي رسميّ تمت استعادته أو أعطى مفاعيله؟ هل اقتصار دعوة منظّمة التعاون الإسلامي على مقاطعة الاحتلال كمقابل للمجازر الجماعية التي كان يرتكبها العدو يومياً باستهداف الأبراج السكنية؟ أو الإصرار الإماراتي على الفجور، تعويلاً على اتفاقية التطبيع وتبجيلاً لها؟ أو الانشغال السعودي في إنتاج وإخراج فيلم مخدرات شاحنة الرمان، لاستلاب وعي الجمهور الداخلي إلى مكان آخر؟ أو غفوة الرياض عن الدم الفلسطيني لأيام، في مقابل ضغطها لإصدار بيان عن قمّة التعاون الخليجيّ، خرج بعيد ساعات من تصريحات وزير الخارجية اللبناني؟ أي بُعد عربي اتكأ عليه الخطيب ليواجه به المقاومة الفلسطينية؟!
أما الصّورة الدوليّة السيّئة لإيران، فهي السقطة الأخلاقية الكبرى للكاتب، إذ فاته أنّ الصورة السيئة تلازم المقاومة الفلسطينية واللبنانية وكل حركات التحرر الوطني. وقد طالتهم بصراحة أكبر مما طالت إيران، بحكم القواعد الدبلوماسية الحاكمة للعلاقات الدولية. هذا في الدعاية الدولية التي، في المناسبة، وإن طالت سوريا بفعل حرب كونية فشلت في إسقاطها بكل ما حركته من أوراق، إلا أن الصورة والسمعة السيئة دولياً تطال من يمثّلهم قلم الخطيب سورياً، ولكن هذه المرة بفعل عمليات ذبح وإجرام وثّقتها الذاكرة الدولية التي استخدمتهم وأحرقتهم في آن.
وثمة حقيقةٌ لا بدَّ للرّجل من أن يقرّ بها، وهي أنَّ العلاقة بين إيران و”حماس” – التي خصَّها بالذكر مراراً – أو غيرها من الكيانات السياسية الحليفة لإيران، لم تكن يوماً علاقة ارتهان لسياسة أو قرار، والقرائن كثيرة لا مجال لاستحضارها الآن، ولكن في تجربة “حماس” تحديداً الشواهد حاضرة. أكثر من مرة تمايزت حركة “حماس” مع السياسة الإيرانية، وتحديداً في الأزمة السورية.
كانت “حماس” في حينها في ضفة “البُعد الرسمي العربي” الذي لم يحتضنها يوماً، وبماذا قوبلت؟ بعملية شيطنة مفتوحة إعلامياً، واعتقال طال كوادرها الَّذين لا يزالون يقبعون في السجون السعودية، وبدعاية إعلامية كانت تضرب المقاومة في أوج العدوان. وبالمناسبة – مرة أخرى – هو “البُعد العربي” نفسه الذي وظَّف العناوين التي يرفعها الخطيب سورياً، وضخَّمها وموّل دعاتها قبل أن ينفض اليد منهم، ليستدير مجدداً طارقاً أبواب دمشق.
بالعودة إلى ما عنونه المحاضر في كلية حمد بن جاسم “المقاومة وإيران وإشكالية العلاقة بين السياسي والأخلاقي”، فإن كان ثمة جدلية حول “الأخلاقي والسياسي” ليُناقش، فهو يكمن في النموذج الأقرب إلى متابعات معتز الخطيب، أي الحالة السورية التي انطلق منها في محاكمته للمقاومة الفلسطينية، متجاهلاً الأسباب التي فرضت التدخل الإيراني في الساحة السورية.
حبَّذا لو كان الكاتب قد أبدى رأيه في مدى تطابق ما هو أخلاقي مع علاقة الجماعات المسلحة السورية بالأنظمة التي أوجدت الاحتلال، وعمّدت الاستبداد مشيخاتٍ وعوائلَ تتوارثه. وفي ما لو التقينا على أحقيَّة ما خرج من أجله المسلّحون السوريون، فهل كان أخلاقياً تلقّيهم التمويل من ملوك ومشيخات استبداد، لمواجهة ما يصفونه باستبداد أيضاً؟! وهل من الأخلاقي أن يكون الدّعم المكشوف والمفتوح أميركياً وأوروبياً مبرراً ومرحّباً؟ وهل يغدو القبول أو حتى الصمت عن الغارات الإسرائيلية على سوريا واحتضانها جرحى الفصائل المسلحة أخلاقياً؟! هل يتحقّق هنا، وفق ما يذكره الخطيب، اشتراط “الطهارة الكاملة في من يقدّم الدعم لقضية عادلة؟”.
إسراء الفاس – الميادين نت
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.