عند مطلع عام (1973) تبدّت في مصر أحوال غضبٍ على تأخّر قرار الحرب، كان كل شيء يتحرّك فيها يدعو إلى إزالة آثار العدوان بقوة السلاح.
تحرّكت في جامعة القاهرة انتفاضة طلابية جديدة.
انتقلت بأجوائها إلى الجامعات المصرية الأخرى تحت نفس المطالب: تهيئة الجبهة الداخلية للحرب وتوسيع المشاركة في صنع القرار ورفض أية مشروعات تسوية سياسية.
في أجواء انتفاضة (1973) حدث تطور دراماتيكي هزّ أركان الحكم واستدعى تساؤلات جوهرية حول المعركة والمشاركة السياسية وحرية الفكر والنقاش العام.
بصورة لا تناسب شخصيته الحذرة كتب «توفيق الحكيم» متأثراً بحركة الشبان بياناً تمت صياغته على عجل، كأنه سحب ورقة من على مكتبه وضع عليها ما يفكر فيه.
«…. لما كان الشباب هو الجزء الحسّاس في الأمة، وهو الذي يعنيه المستقبل أكثر من غيره، فهو لا يرى أمامه إلا الغد الكئيب، فهو يجتهد في دراسته ليحصل على شهاداته النهائية فإذا هي شهادة القذف به في رمال الجبهة لينسى ما تعلّمه ولا يجد عدواً يقاتله، وهذا أيضاً هو الضياع.
أما بقية المواطنين فهم يعيشون بالنسبة إليه في حياة صعبة سيئة الخدمات العامة. وكل نقص وإهمال أو توقف أو عبث يختفي خلف صوت المعركة، وفي انتظار المعركة وتمحكاً بالمعركة، وإذا بالأمر في نظرهم ينقلب إلى مهزلة وإلى سخط.
هذا بعض ما استقر في الضمائر هذه الأيام، ولا بد من حل سريع لهذا الوضع، ولا يمكن أن يكون هناك حل إلا في الصدق، والصدق وحده لأن الصدق هو الذي يُنهي الحيرة ويقنع الناس ويهدّئ النفوس، ولأن الغليان في باطن الإناء يهدأ إذا كشفت الغطاء، الشعب يريد أن يقتنع بشيء لأنه غير مقتنع، ولا بد لراحة باله واقتناعه من عرض حقائق الموقف أمامه واضحة.
وهذا يقتضي النظر في تغيير بعض الإجراءات التي تسير عليها الدولة اليوم، ومنها حرية الرأي والفكر وحرية المناقشة والعرض لإلقاء الضوء على كل شيء حتى تتضح الرؤية. وليكن ذلك داخل المؤسسات، إذا كانت السرية في ظروفنا الحاضرة تقتضي ذلك، على ألا يكون للدولة رأي مسبق تضغط به على أهل الرأي ويجعلهم مجرد أبواق لترديده وترويجه، بل أن تكون الدولة آخر من يبدي الرأي بعد أن تستمع وهي جادة صادقة إلى رأي مصر الحرة أولاً، وأن تصوغ هي رأيها من رأي الشعب، وممثليه، لا أن تصوغ هي الرأي وتضع الشعار وتلقي به إلى الناس وتفرضه عليهم فرضاً.
آن للدولة في هذه الظروف العصيبة أن تتخفف هي من كل العبء والمسؤولية وتضعها على كاهل الأمة.
إن في ذلك مصلحتها، وصيانة لها أمام التاريخ».
بحجم ثقله وتأثيره وقّع معه على هذا البيان كُتابٌ ومثقفون كبار من بينهم «نجيب محفوظ» و«يوسف إدريس» والدكتور «لويس عوض».
وجد بيان كبار المثقفين طريقه إلى النشر في صحيفة «الأنوار» اللبنانية.
كان النشر في الخارج رسالة سلبية لمستوى حرية التعبير، الذي ضاق عن نشر بيان وقّعت عليه نخبتها الثقافية ـ كما استخلص الدكتور «غالي شكري» في كتابه «الثورة المضادة في مصر».
يعكس البيان الصورة التي كانت عليها مصر قبل حرب أكتوبر مباشرة.
لم يكن ممكناً إرجاء قرار الحرب لوقت إضافي، كانت الحرب محتّمة وإلّا فإنه الانفجار الداخلي.
ولد جيل السبعينيات وسط تساؤلات المستقبل، خياراته ومعاركه.
تصدّر معركة، لكنه لم يخضها وحده.
كانت الوطنية المصرية الجريحة حجر الأساس في بناء وعيه ووجدانه.
تعدّدت المدارس الفكرية التي انتسب إليها، لكن جمعت بينها قاعدة واحدة: طلب تحرير سيناء المحتلة والاستعداد لخوض حرب محتمة.
في عنفوان التمرد والثورة تبلورت عند جيل السبعينيات ضرورات بناء نظام ديمقراطي يتّسع للتنوع السياسي.
برزت تلك الضرورات في أول موجات الحركة الطلابية عام (1968) وتأكّدت في الموجتين التاليتين (1972) و(1973) وطرحت لأول مرة في المجال العام منذ الخمسينيات قضية التنظيم الحزبي المستقل.
كان ذلك وجهاً رئيسياً في المشهد السياسي المأزوم، الذي استبق حرب أكتوبر (1973).
رغم أن أجيالاً متعاقبة حملت السلاح داخل إطار المؤسسة العسكرية الوطنية ودخلت تجارب الحرب ـ أكثر من مرة أحياناً في عمر الجيل الواحد، إلا أن جيلاً واحداً من بينهم جميعاً يستحق أن يوصف بـ«جيل الحرب».
الجيل يُقاس بالتجربة الفكرية والسياسية والوجدانية والنظرة إلى الحياة والقيم الأساسية، التي تحكم توجهاته ومخيلته قبل أعداد السنين المسجلة على شهادات الميلاد.
باتساع مفهوم الجيل كان هناك جناحان رئيسيان في قصة الحرب.
الأول ـ قاتل بفواتير الدم على الجبهة الأمامية وضم خريجي الجامعات سنة بعد أخرى.
والثاني ـ دعا بفوائض الغضب في الجامعات المصرية إلى تعبئة الموارد العامة وراء المقاتلين وانتقد الأداء الداخلي، الذي لا يتّسق مع تضحيات الدماء.
في ذلك الوقت اكتسبت مسرحية «البعض يأكلونها والعة» شعبية كبيرة وسط الطلاب.
خاطبت غضبهم وتبنت نظرتهم، حيث المفارقات فادحة بين جبهة القتال وأوضاع الداخل.
تندرج المسرحية تحت ما يسمى بـ«الكباريه السياسي» ـ مجموعة اسكتشات متعاقبة تبرز حجم التناقض.
بين كل اسكتش وآخر كانت تظهر في الخلفية صورة الفريق أول الشهيد «عبدالمنعم رياض»، وكان التصفيق مدوياً في كل مرة.
كانت الحرب عنصراً جوهرياً في تشكيل وعي جيل السبعينيات السياسي والاجتماعي والثقافي، أكثر مما فعلت تجارب الحروب السابقة في الأجيال الأخرى.
كانت تجربة الحرب، التي امتدت منذ يونيو (1967) إلى أكتوبر (1973) الوعاء الحي لصهره، وتشكيل معنى جديد داخله للمواطنة والوطنية.
في خنادق القتال نضجت رؤى وأفكار وقيادات، وبرزت مواهب أدبية وفنية.
أفضل ما قيل في وصف بطولات أكتوبر أن الإنسان المصري العادي هو بطل الحرب. غير أن بطل أكتوبر لم يكن ـ من ناحية تدقيق المعاني والألفاظ ـ إنساناً عادياً، بل جيلاً كاملاً صهرته تجربة القتال، وصاغت منه تجربة فريدة.
الفارق واضح بين نسبة النصر إلى الإنسان العادي المجرد، أو إلى صفات إيجابية مطلقة في الشخصية المصرية، وبين نسبته إلى جيل بعينه، وإلى وعي بعينه، وإلى بنى ثقافية وسياسية ونفسية بعينها.
إنه الفارق بين المطلق والتاريخ.
أغلب الذين قاتلوا في (1973) بعد ست سنوات في الخنادق، أو في معسكرات التدريب، أو في مهمات قتالية أثناء حرب الاستنزاف، من خريجي الجامعات المصرية، الذين أتاحت مجانية التعليم الفرصة أمامهم لاكتساب معارف العصر.
جيل الحرب هو نفسه جيل الثورة ومجانية التعليم والحق في الثروة الوطنية.
فرضت ضرورات تحديث القوات المسلحة في أعقاب الهزيمة دفع جيل بأكمله من خريجي الجامعات إلى صفوف القتال، للتعامل مع أحدث التقنيات العسكرية في ذلك الوقت.
المأساوي في قصة هذا الجيل أنه أرجأ طموحاته وحياته إلى ما بعد انتهاء الحرب، غير أنه عندما عاد من ميادين القتال، وجد أن ما قاتل من أجله قد تبدّد، وأن عليه دفع ثمن سياسات الانفتاح الاقتصادي التي دشنت عام (1974) من مستقبله الاجتماعي والإنساني.
ثم أن يرى بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب سياسات التطبيع مع العدو، الذي انتظر طويلاً في الخنادق أن يواجهه
عبد الله السناوي/ كاتب وصحافي مصري – الأخبار اللبنانية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.