مطلع التسعينيات شاع مصطلح “سنوات الرصاص” في وصف المرحلة الممتدة من أوائل السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات في أيطاليا، عندما بدأت مجموعات يمينية متطرفة، بالتعاون مع المخابرات الأميركية، القيام بجملة أعمال عنف في سبيل منع اليسار الإيطالي من الوصول إلى الحكم. ومع ذلك، لم تكن مرحلة السبعينيات هي المرحلة المؤسسة لهذا المصطلح. بالعودة إلى ما كُشف في السنوات الأخيرة من وثائق الأمن القومي والاستخبارات الأميركية، تبدو سنوات العنف قد ارتسمت ملامحها منذ النصف الأول من الخمسينيات، تحديداً مع تولي أيزنهاور رئاسة الولايات المتحدة ومن قبل وضعه “استراتيجية ملء الفراغ” أو ما عُرف في ما بعد بـ”مبدأ أيزنهاور”. آنذاك، قامت الولايات المتحدة بجملة عمليات أمنية قادت فيها انقلابات واغتيالات بدأت مع الانقلاب على محمد مصدق في إيران عام 1953، مروراً بإطاحة حكومة جاكوبو آربنز في غواتيمالا عام 1954، ثم دعمها لانقلاب كازافوبو على باتريس لومومبا في الكونغو سنة 1961، ولم تنته باغتيال الرئيس التشيلي سيلفادور وبابلو نيرودا عام 1973.
في تلك السنوات تحديداً، أسست الولايات المتحدة لعلاقة راسخة بما بات يُعرف اليوم بالدولة العميقة. كان انشغال الإدارة الأميركية في كيفية احتواء مناطق نفوذ الاستعمار الفرنسي والبريطاني القديم. وبما أن الوقت لم يكن ليسعف الأميركيين لإحداث تعديلات بنيوية في ثقافة وهيكلية النظم السياسية الحاكمة. لجأ الأميركيون لعقد صفقات وإجراء تعديلات في رأس بنى النظم الحاكمة. في البرازيل على سبيل المثال، دعمت الولايات المتحدة انقلاباً عسكرياً على الرئيس جواو غولار في 31 آذار/ مارس سنة 1964، بدعم من البرجوازية التقليدية التي كانت مهدَّدة بالمعنى الاقتصادي والسياسي بفعل الحراك الشعبي. بحسب السفير الأميركي في البرازيل حينها، كان للانقلاب في البرازيل نفس تأثير خطة مارشال أو حصار برلين أو الحرب الكورية. انقلاب البرازيل وما لحقه من “سنوات الرصاص” أعيد تكراره بعد عام في أندونيسيا، عندما دعمت الولايات المتحدة انقلاب الجنرال سوهارتو على الرئيس أحمد سوكارنو، زعيم النضال من أجل الاستقلال في إندونيسيا، لتُدخل أندونيسيا في “فوضى سنوات من الرصاص” راح ضحيتها ما يزيد عن نصف مليون شيوعي.
في المغرب العربي، كمثال، عمل الأميركيون على إقناع الحسن الثاني بضرورة إحكام السيطرة على الجيش من خلال قوات نخبة صغيرة العدد/ آمنة الولاء، مع استتباع سلاح الجو بالقصر الملكي. النصيحة الأميركية جاءت بعيد انقلابي الصخيرات 1971، وانقلاب أوفقير 1972. وهي النصيحة نفسها التي أسداها الأميركيون إلى شاه إيران بعيد الانقلاب على مصدق من قبل، وهي النصيحة نفسها التي أسدوها لليمين اللبناني بجناحيه “الأحرار والكتائب” لضبط السيطرة على الدولة على ما ينقل جايمس ستوكر في كتابه ميادين التدخل: السياسة الخارجية الأميركية في لبنان. (ملاحظة: استراتيجية سامي الجميل لمواجهة التكفيريين مطلع الأزمة السورية كانت تطبيقاً حرفياً لنصائح الأميركيين لجده وأبوه من قبل؛ مجموعات صغيرة من الجيش مضمونة الولاء، مع دعم ناري جوي يضمن بسط السيطرة على كامل الحدود).
وليس ذكر كل هذه الانقلابات تدعيماً لنظرية تآمرية اعتادها القارئ في بلادنا، ولا هوساً بتاريخ بوليسي نحاول من خلاله أن نطل على واقعنا اللبناني، بقدر ما هي تحليل يمكن التماسه في كل تفاصيل انفجار المرفأ في الرابع من آب 2020.
انفجار مرفأ بيروت: سياق الحدث و”استراتيجية الضغط الأقصى”.
لم يكن انفجار المرفأ حدثاً فريداً من نوعه في سياقه العام. سبق هذا الانفجار وتبعه في نفس الفترة اعتداءات اسرائيلية وأميركية (غير صريحة) متكررة على كل من إيران وسوريا استهدفت مرافق حيوية في البلدين، كما ترافق الانفجار وحديث عدد من مراكز الدراسات حول “تكتيكات غير تقليدية” يمكن أن تُعتمد بين إيران والإسرائيليين. ففي دراسة أصدرها مركز ستراتفور، المقرب من دوائر قرار الاستخبارات الأميركية في 9 تموز/ يوليو 2020، تحت عنوان “الانفجارات في إيران تشير إلى حملة تخريبية إسرائيلية محتملة”، رجح المركز احتمال انتقال الصراع بين إيران و”إسرائيل” نحو اعتماد تكتيكات غير تقليدية. في محاولة إسرائيلية للاستفادة من المساحة المواتية لها والمحدودة، لممارسة “الضغط الأقصى” قبل حلول كانون الثاني/ ديسمبر 2020، حيث توقع ستراتفور تولي إدارة أميركية “أقل وداً” تجاه “إسرائيل” من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. حديث ستراتفور هو الآخر، لم يكن منبتاً عن الخطاب الإسرائيلي العام، الذي كرره نتنياهو مراراً من على المنابر الدولية، بتهديده لبنان وإيران، باستهداف المناطق الآمنة، كما فعل ذلك مراراً كان منها خطابه في الأمم المتحدة في أيلول 2020.
في الانفجار:
بالرغم من تركيز الإعلام على مسألة نيترات الأمونيوم ومصدرها، إلا أن مصدر النيترات ووجهته لا يشكل أكثر من حلقة من سلسلة حلقات متصلة بالانفجار وأسبابه. بحسب مصادر للخندق وما كشفته التحقيقات من قبل، لم يحوِ “هنجار” رقم 12 مادة النيترات فحسب، بل تم جمع مواد عدة فيه تشكل بمجموعها العناصر الكافية لما يُعرف بـ: قنبلة الأسمدة/fertilizer bomb.
تتألف قنابل الأسمدة من مادة كيميائية رئيسة هي ANFO، والمكونة من مادتي نترات الأمونيوم، وزيت الوقود في تفاعل مثالي نسبته 94.5٪ NH₄NO₃ – نيترات الأمونيوم، و5.5٪ FO – زيت الفيول، لناحية الوزن. من الناحية العملية، غالباً ما تتم إضافة فائض طفيف من زيت الوقود، إذ تؤدي الجرعات الزائدة من الأخير إلى مزيد من الأبخرة ما بعد الانفجار. تتميز ANFO بسرعة معتدلة مقارنة بالمتفجرات الصناعية الأخرى، حيث يبلغ قطر موجتها الانفجارية 3200 متر في الثانية. مما يجعل ANFO مادة متفجرة من الدرجة الثالثة، (أي أنه لا يمكن تفجيرها بكمية صغيرة من المتفجرات الأولية في صاعق نموذجي). بمعنى ينبغي استخدام كمية كبيرة من المتفجرات الثانوية، لتلعب الدور التمهيدي أو المعزز للانفجار.
في قنابل الأسمدة عادة ما يكون مكون الوقود الرئيسي هو الديزل، أو الكيروسين أو غبار الفحم أو حتى وقود السيارات. كما يساعد الألمينيوم المسحوق في رفع حساسية النيترات – القليلة الحساسية – ليساعدها في الانفجار بسهولة أكبر. الغريب أن كل هذه العناصر اجتمعت في عنبر رقم 12 في المرفأ عصر الرابع من آب؛ النيترات والزيوت (المادة الرئيسة المشكلة للـ ANFO)، برش الألمنيوم (لرفع حساسية النيترات)، والمفرقعات (التي ستلعب الدور التمهيدي أو المعزز للانفجار).
لا يُعد وجود النيترات وحده أمراً كافياً لتوليد انفجار. فالنيترات كمادة قليلة الحساسية وغير قابلة للانفجار بحرارة تقل عن الـ400 درجة مئوية. ما يجعل السؤال حول الانفجار في محل آخر: من الذي جمع هذه العناصر كلها، والتي “وللصدفة” تشكل بمجموعها قنبلة أسمدة معروفة النتائج؟.
التوظيف:
عشية الذكرى السنوية الأولى للانفجار نشر موقع “Israel defense” مقابلة مع الضابط السابق في الجيش الإسرائيلي “بوعز حيون” مؤسس مجموعة تمار للخدمات الأمنية، حول انفجار بيروت، تحدث فيه عن ستة انفجارات صغيرة بفارق 11 ثانية بين كل منها كانت قد سبقت الانفجار بلحظات[6]. معتمداً على ما أظهرته خرائط المسح الزلزالي لجهاز الاستشعار CY603 (يقع في البحر بين قبرص ولبنان على بعد 70 كيلومتر من بيروت، وعلى عمق 2.2 كيلومتر تحت مستوى سطح البحر). الواقع أن رواية حيون هذه كانت محط سخرية العديد من الجيولوجيين (منهم كاسي آدرهولد/ Kasey Aderhold، وستيفن غيبونز/ Steven J. Gibbons) الذين أحالوا ترددات ما قبل الانفجار إلى سفينة مسح زلزالي تركية كانت تجوب المياه الإقليمية عند النقطة CY603 لحظة الانفجار.
ليست قضيتنا تفكيك الرواية الإسرائيلية، بقدر ما يأخذنا سياق هذه الرواية إلى تتبع الطابع الوظيفي للخطاب الإعلامي المرافق للحادثة منذ لحظتها الأولى. إذ بدا واضحاً أن ثمة من يريد ربط المقاومة بنكبة بيروت. ولعل الفاعل وجد في المرفأ ما يمكّنه من إلحاق فساد الدولة بالمقاومة، وهو يصيب في الأمر مسألتين: اختصار عهد رئاسي وحكومي بنكبة (سببها إهمال متراكم لسنوات طوال)، وتأليب الناس على المقاومة بإقحامها في وجه الشعب اللبناني.
وأن يخطأ بوعز حيون، مسألة يمكن فهمها في سياق محاولة الاسرائيلي ربط المقاومة بنكبة بيروت، أما أن تتبنى وكالات محلية وعربية ما طرحه حيون فتلك مسألة أخرى. لقد خرج إعلام المناشير اللبناني والعربي (يشير مصطلح المناشير إلى ما يرميه العدو من الطائرات عادة من أوراق ومناشير في سياق حربه النفسية على المقاتلين) ومنذ اللحظة الأولى لتوزيع المسؤوليات والتهم، ولو على حساب دم الناس. ما معنى أن تتبنى قنوات لبنانية تقرير منظمة مكافحة الجريمة المنظمة وسرديتها المشككة بوجهة النيترات؟. في العادة يُقال، أنك إذا ما أردت أن تضيع حقاً فاسلك طريق البحار. إن الثغرات التي تعتري قانون الإبحار عالمياً، تجعل من العصي تتبع حركة أي سفينة مشبوهة تجوب البحار. هذا يعني إرجاء كشف الحقيقة ونقل وجهة السؤال الإعلامي عن مقصده الحقيقي.
في فيلمه، فعل القتل/ The Act of Killing، يقدم المخرج جوشوا أوبنهايمر مادة مهمة تُظهر قادة فرق الموت الإندونيسية بعد انقلاب سوهارتو عام 1965، وهم يتحدثون عن جرائم القتل والتعذيب والاغتصاب التي ارتكبوها ضد الشيوعيين والأقلية الصينية بشكل غير مشروع. يحاول الفيلم الإجابة على سؤال: كيف استطاع هؤلاء ارتكاب الفظائع ثم العودة إلى منازلهم والجلوس بهدوء إلى طاولة الطعام؟ كيف استطاع قادة فرق الموت الإندونيسية، الذبن قتلوا ما لا يقلّ عن نصف مليون إنسان، أن يتعايشوا مع تاريخهم العنيف؟ لأوبنهايمر فرصة في استكمال رحلته في محاولة الإجابة عن أسئلته في لبنان. المفارقة أن “سنوات الرصاص” تلك في أندونيسيا أقامت دولة، أما “سنوات الرصاص” في لبنان اليوم فهي تأخذ الدولة والناس إلى حتفهم المعلوم.
حسين عساف وبشار اللقيس – صحيفة الخندق
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.