يتراوح أجر الموظف في جمعيات المجتمع المدنيّ بين 1500 دولار و4000 دولار. غالباً ما يكون هذا متوسط أجر الموظف العادي. أما مديرو المشاريع والمديرون، فيفترض أن لا يقل أجرهم غالباً عن 5 آلاف دولار، ويمكن أن يصل إلى 8 آلاف.
ولكم أن تتخيلوا أمام هذه الأرقام طبيعة الحياة التي يعيشها هؤلاء اليوم في بلد يكاد يكون معدل أجور الموظفين في الشركات الخاصة والقطاع العام فيه نحو 100 دولار، مع العلم أن ثمن كوب القهوة الكبير في “ستاربكس” لا يتجاوز الدولار الواحد، فيما أقلّهم راتباً يقبض 1800 دولار. ويبلغ ثمن كأس المشروب دولاراً آخر، و”دخولية” أفخم منتجع بحري 10 دولارات، والـ”سالاد” دولارين، وسفينة “السوشي” 10 دولارات، ما يعني أنهم سيعيشون الحلم الأميركي كله، سواء في منطقة الدامور أو جبيل أو صور، بأقل من 50 دولاراً، فيما أقلهم راتباً يقبض 1800 دولار شهرياً.
وهم يعيشون بالتالي حلماً لم يكن في البال من قريب أو بعيد، في ترجمة خيالية للمثل القائل إنَّ “مصائب قوم عند قوم فوائد”. وإذا كان بعض هؤلاء يواصل الندب على أطلال مواقع التواصل الاجتماعي، فإنه في الواقع يعيش حياة ما بعدها حياة، بحكم تضاعف قدرته الشرائية على نحو لا يصدق. وما على من يقبض مليوناً أو مليونين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة سوى تخيل أن أجر الموظف في جمعيات المجتمع المدني يتراوح، بحسب سعر صرف اليوم، بين 30 مليوناً و80 مليوناً.
أما مديرو المشاريع والمديرون، فيفترض أن لا يقل أجرهم غالباً عن 100 مليون ليرة شهرياً، ويمكن أن يصل إلى 160 مليوناً في الشهر. يقبض 100 مليون ليرة شهرياً، ثم يأتي ليحاضر عن حقوق الطبقات المسحوقة. قد يقول قائل هنا إن الشعور مع الآخرين ممكن بغض النظر عن وضعك الاقتصادي، وهو أمر صحيح طبعاً، لكن “من يعد العصي غير من يأكلها”.
يقبض 100 مليون في الشهر، ولا يكاد ينهي عشاءه في أغلى مطاعم العاصمة، حتى يصور الطاولة المجاورة لطاولته، وينشر صورها في الصفحات الثورية، مستغرباً كيف يأكلون هنا بهذا الشكل، فيما الناس يرزحون تحت وطأة الفقر الشديد. يقبض 100 مليون ليرة شهرياً، ثم يأتي ليحاول أن يكتب شيئاً مؤثراً عن سعر كيلو اللحمة أو الدجاج أو السمك.
الأرقام مهمة طبعاً، لكنَّ الأهم في العبارة الاستهلالية لهذا المقال هو توصيف الموظف في جمعيات المجتمع المدنيّ بأنه “موظف”؛ فهو ليس مناضلاً يناضل في سبيل تحقيق أحلامه، وليس ناشطاً سياسياً يتطلع إلى تحقيق تطلعات وطنية أو قومية أو أممية، وليس ناشطاً بيئياً أو ناشطاً حقوقيّاً، ولكنَّه موظف، وهذا أساسي جداً، فهو (الموظف في الجمعية) كان قد قصد مع والده بيت كبير العائلة، وذهبوا سوياً إلى زعيم المنطقة الذي تنتخبه العائلة ليطلبوا توظيف ابنهم، لكن الزعيم لم يوفّق في توظيفه، فدخل إلى موقع التوظيف الخاص بجمعيات المجتمع المدني في لبنان (خلافاً لرغبة والده المقتنع بقدرة الزعيم على تأمين وظيفة له في القطاع العام تؤمن له مستقبله)، وملأ الاستمارة الخاصة بإحدى الوظائف أو أكثر من وظيفة.
في هذه الاستمارة، توجد خانة مخصّصة لكتابة مقدّمة تعرف بالشخص وأسباب تقدمه إلى هذه الوظيفة. هنا، تعددت رواياته، إذ اختلق في كل استمارة رواية عنه تتناسب مع عنوان الوظيفة؛ ففي استمارة الجمعية الخاصة بالبيئة، كتب عن تقديسه الملك العام وفرزه النفايات منذ الصغر وحصوله على أكثر من براءة اختراع لأجهزة تكرير الصرف الصحي. وفي استمارة الجمعية الخاصة بالمسنّين، روى لهم كيف كان المسنّون دوماً شغله الشاغل عن كل شيء. وفي استمارة الجمعية الخاصة باللاجئين، كتب لهم عن عدم عنصريّته وإصراره على مشاركة غرفته وسريره والصالون مع أفواج اللاجئين. وحين خيّرته والدته بينها وبينهم، اختارهم وطلب منها مغادرة المنزل.
وعندما (…) وُظّف، بدأ رحلة الالتزام بعقد التوظيف (هو نفسه في غالبية جمعيات المجتمع المدني التي تتلقى تمويلاً من دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة)، لجهة محاربة ما تصفه الولايات المتحدة بالإرهاب ونشر الديمقراطية والابتعاد عن الأحزاب، بموازاة مزايدته المضنية لإقناع مديره بتجديد عقده الموسميّ أو السنويّ.
وهنا، ثمة إشارة إضافية لا بد منها، وهي أن غالبية الموظفين في جمعيات المجتمع المدني متعاقدون. لا يوجد استقرار وظيفيّ أو اطمئنان، إنما لا بدّ من المزايدة فوق المزايدة من جهة، وإظهار كل ما يمكن من خنوع وخضوع للمديرين من جهة أخرى، في سبيل تجديد العقد في نهاية الموسم أو السنة.
(بكلام أوضح، هم ليسوا متطوعين آثروا النضال مع بعضهم البعض في إطار منظّم لتحقيق أحلامهم البيئية أو الصحية أو التربوية أو الحقوقية أو الإنسانية أو الاقتصادية، كما فعل المتطوّعون في الجمعيات لأجيال غابرة. أولئك كانوا متطوّعين يناضلون باللحم الحيّ لتحقيق أهداف نبيلة. أما هؤلاء، فهم مجرّد موظفين ينفّذون أجندات الممولين الدوليين.)
وعملياً، هم مجموعة موظفين من خلفيات مختلفة قد لا تعني لهم العناوين التي يتحدثون عنها أي شيء، إذ كان يمكن أن تكون الوظيفة في جمعية أخرى، وأن ينشغلوا بكلام آخر مغاير تماماً، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الموظّف نفسه في الجمعية نفسها سيكون أشبه بمهووس بحقوق الأطفال يوماً، ثم يقرّر الممول دعم مشروع آخر له علاقة بحقوق الحيوانات مثلاً أو بالشفافية أو بالديمقراطية، فإذا بالموظف في الجمعية يفقد بسحر ساحر كل اهتمامه بالأطفال، ليركز على القطط والكلاب، أو على أداء الوزراء والبلديات، أو على الديمقراطية في لبنان وسوريا واليمن وفنزويلا وكوبا حصراً. لا شيء اسمه مبدأ هنا أو شغف، إنما هناك وظيفة مع أمر عمليات موسمي أو سنوي. وما لا يعرفه اللبنانيّ أن هذه المشاريع التي يقررها الممول لا الموظف في الجمعية، لا تحددها دراسة الممول للوضع اللبنانيّ، إنما هي عناوين عامة يقررها الكونغرس الأميركي ويرصد ميزانيتها لكل المنطقة، وليس للبنان بشكل محدّد.
هناك 3 أفكار رئيسيَّة إذاً:
أولاً، الموظّف في جمعية هو موظف متعاقد معها، وعليه أن يثبت نفسه بشكل متواصل، وأن يفعل كل ما يلزم لتجدّد عقده، وهو لا يبالي أبداً بما تقوله عنه أو تعتقده، فالمهم بالنسبة إليه هو رأي مديره به، وهو سيأخذ هذا المقال أو غيره ويترجمه ويرسله إلى الممول ليطالب بعلاوة مالية، لكونه يتعرض للانتقاد بسبب عمله، وقد يقول إنه يتعرض للاضطهاد ويستحقّ لجوءاً سياسياً.
ثانياً، الموظف في جمعية غير معنيّ من قريب أو بعيد بما يكتبه في صفحات التواصل الاجتماعي، وما يردده في الندوات أو في وسائل الإعلام، فهو يلتزم بأجندة الممولين الَّذين يغيرون اهتماماتهم بشكل متواصل، ومعها تتغير اهتمامات من يتطلَّع إلى استمرارية التمويل.
ثالثاً، الموظّف في جمعية يعيش اليوم بحكم حصوله على أجره بالدولار في مكان بعيد جداً عن الأكثرية المطلقة في مجتمعه. ومهما تصنَّع التأثّر أو التضامن أو التحسّر، فهو في واقع الأمر سعيد جداً وكثيراً بانهيار العملة الوطنية على نحو يضاعف بشكل خيالي من قيمة راتبه.
والأهم من هذا كلّه، أن هذا الموظّف في الجمعية أثبت في انتخابات 2018، كما اليوم، أنه مشروع مرشح للانتخابات النيابية. طموحه ليس خدمة المجتمع والارتقاء به وغيرها من العناوين الإنسانية العظيمة، إنما هو إبعاد “فلان وعلتان” من السلطة ليجلس محلهما.
والأنكى هنا أنه لا يستند إلى سجلّ حافل بالشفافية، من حيث نشر كشوفات حساب واضحة في موقع الجمعية بما وردهم من أموال من المموّلين وكيف تم الإنفاق بالتّفصيل، كما لا يستند إلى إنجازات واضحة لهذه الجمعية أو تلك؛ إنّما يحمل إرثاً من فساد الجمعيات والإنفاق المتهور وغير المسؤول الّذي لا يقلّ في بشاعته عن إنفاق السّلطة.
الموظّف في جمعيات المجتمع المدنيّ يغير اهتماماته بالسهولة نفسها التي يغير فيها قمصانه. يزايد لإرضاء الممول الأجنبي ليواصل التمويل من جهة، ويجدد عقده من جهة أخرى، وهو إذ يحصل على رواتب خيالية في ظل انهيار العملة الوطنية، فإنه لا يكتفي بهذا الراتب، ويفكّر في كيفية تحقيق المصلحة العامة، إنما يواصل العمل لتحقيق المصلحة الخاصة والمنفعة الشخصية، عبر خوض غمار السياسة للوصول إلى السلطة، مستفيداً من شعور بعض الدول بأنَّ “أفراد جماعتها” باتوا عاجزين عن تحقيق تطلعاتها، ولا بدّ من استبدال مجموعات جديدة بهم، أكثر حماسة واستعداداً لتنفيذ الأوامر.
غسان سعود – الميادين نت
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.