المقاومة في زمن التوحّش

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

إنه زمن التوحّش بلا أي التباس. لم يعد الأميركيون والإسرائيليون يتردّدون في الجهر بنواياهم التوسّعية يميناً ويساراً، خاصة في جوارهم المباشر، ورمي ما بقي من مخلفات «النظام الدولي الليبرالي» كالقانون الدولي ومبدأ احترام سيادة الدول ووحدتها الترابية في سلة المهملات. لا بد من ملاحظة تزامن إعلان ترامب، العائد عن عزمه غزو جزيرة غرينلاند للسطو على ثرواتها والتحكم بموقعها الإستراتيجي، والاستيلاء على قناة بنما، مع اقتراح إسرائيلي رسمي، صادر عن اجتماع لمجلس وزراء العدو برئاسة وزير خارجيته يسرائيل كاتس، لتقسيم سوريا إلى كانتونات. المشاريع والمخططات التي كانت تُحاك في الظلام باتت تُعلن على الملأ. تأتي هذه التطورات بينما تستمر الحكومة الصهيونية في حرب الإبادة التي تشنّها ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وتمضي في استعداداتها لتسريع التطهير العرقي في القدس والضفة الغربية، بعد عدوانها المدمر غير المسبوق ضد لبنان.

من البديهي أن تقديراً لميزان القوى الدولي والإقليمي، يستند إلى شعور مؤقت بفائض القوة لدى القادة الأميركيين والإسرائيليين، هو الذي يحفزهم لانتهاز ما يرونه نافذة فرص متاحة لمحاولة تعديل الوقائع في ساحات محددة لمصلحتهم بالقوة العارية أو بالتلويح باللجوء إليها. تضافر مجموعة من المعطيات منذ اندلاع المعركة في غزة، وفي مقدمتها الدعم الغربي الهائل لإسرائيل الذي يرقى إلى مستوى المشاركة المباشرة في حروبها، والنجاحات التكتيكية التي حققها الجيش الصهيوني ضد المقاومة في عدوانه على لبنان، وهو عدوان لم ينته، إضافة إلى انهيار النظام في سوريا، المتصل بعوامل ظرفية وأخرى بنيوية، وانعكاساته على محور المقاومة، هو الذي يفسر تنامي شعور بفائض القوة لدى قادة الكيان. غير أن هذا الشعور مؤقت لأن هؤلاء القادة يدركون أن قوى المقاومة في لبنان وفلسطين ليست مهزومة رغم الضربات الكبيرة التي وجهت إليها، وأن حلفاءها في إيران واليمن والعراق يقفون بثبات إلى جانبها، ما سيمكّنها من إعادة ترميم أوضاعها، فضلاً عن أن الديناميات الداخلية التي عادت تعتمل في قعر مجتمعات دول الطوق رغم الاستقرار الظاهر على سطحها، ستعزز خيار المقاومة في المحصّلة النهائية. عامل آخر يأخذه قادة الكيان في الحسبان، وهو توجّه الراعي الأميركي، خاصة في ظل إدارة ترامب، إلى التركيز على أولويات خارجية أو داخلية، وفي مقدمتها احتواء الصين، وهي مهمة بالغة المشقة، ستفرض عليه بالنتيجة، آجلاً أو ربما عاجلاً، التخفيف من «تورّطه» اليومي في إدارة صراعات الشرق الأوسط.

منظور «المشرق الكسيح»
انهيار النظام في سوريا، وهو في الواقع انهيار للدولة السورية، المركزية في جيوبوليتيك المشرق العربي، والذي تتفاخر القيادة الصهيونية بأن لها دوراً أساسياً في تسريعه وتقديم سوريا والمشرق على طبق من فضة لحلفائها الأميركيين، وظّف تلقائياً من قبلها لإعادة الترويج لفكرة أن هذا المشرق ليس سوى موزاييك من الطوائف والإثنيات، وأن دوله الوطنية لا تعبّر عن الانتماءات الفعلية لـ«مكوناته»، وأن تقسيمه إلى كانتونات هو شرط تأمين استقرار مستدام فيه. الدعوات الإسرائيلية المتكررة في الأسابيع الماضية، والصادرة جميعها عن مسؤولين حكوميين أو قادة أمنيين سابقين، بدءاً بنتنياهو، مروراً بساعر ويادلين، ووصولاً إلى كاتس الذي أشرنا إلى تصريحه آنفاً، تندرج جميعها في إطار مسعى إلى كسب تأييد أميركي لمشروع تفكيك الإقليم انطلاقاً من سوريا، استناداً إلى قناعة أن البارادايم، أو النموذج الإرشادي الفكري، الجديد السائد في أذهان ترامب وفريقه بالنسبة إلى العلاقات الدولية، لا يتعارض مع إعادة النظر في مبدأ الوحدة الترابية للدول والاستيلاء على أجزاء منها إن اقتضت مصالح الولايات المتحدة أو مصالح حلفائها ذلك. كلام ترامب عن «حدود إسرائيل الضيقة» أو عن اجتياح غرينلاند وقناة بنما مؤشر على ذلك.

مثال آخر على سطوة هذا البارادايم الجديد على أذهان ترامب وفريقه، هو استعداده للقبول بحل للحرب في أوكرانيا يتضمّن قبولاً بسيطرة روسية دائمة على جزء منها، أي الموافقة عملياً على تقسيم هذا البلد، ما يثير ذعراً حقيقياً في أوساط أوروبية رسمية واسعة. غير أن تحليلاً آخر لما ستكون عليه سياسة ترامب المستقبلية على ضوء الأولويات التي حددها وفريقه، وما تتطلبه من حشد للموارد والإمكانات الأميركية «المحدودة»، وهو واقع لا يتوقف إلريدج كولبي، المعيّن من ترامب مساعداً لوزير الدفاع للسياسة، من التذكير به، يرى أن الإدارة الأميركية القادمة ستعمل على كبح جموح نتنياهو إلى حد ما، لتخفيض التوتر في الإقليم، ما سيتيح لها التفرّغ لأولوياتها المذكورة.

المشكلة مع هذا التحليل هو أنه لا يلحظ أن الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ أوباما تتحدث عن ضرورة الاستدارة نحو الصين، ونحو التحديات الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية الداخلية الأميركية، والتخفف من «أعباء الشرق الأوسط»، لكن انحياز غالبية أعضائها الأيديولوجي الحاسم إلى إسرائيل منعها دائماً من القيام بذلك. من المرجّح أن فريق ترامب الحالي، الذي يضم صهاينة هستيريين، لن يشذ عن هذه القاعدة. لكن مجرد وجود احتمال ابتعاد أميركي، ولو محدود، عن المنطقة في المستقبل هو بذاته دافع لكي تعمل الحكومة الصهيونية الفاشية الراهنة بكل ما أوتيت من قوة على خلق وقائع على الأرض مناسبة لها في فلسطين وفي الإقليم. جدول أعمالها واضح: استكمال التطهير العرقي في الضفة والقدس، ومحاولة فرض نظام وصاية على لبنان للقضاء على المقاومة والدفع بجميع الوسائل المتاحة لتقسيم سوريا، وضرب المشروع النووي الإيراني إن تمكّنت من ذلك. بكلمة، ما تريده إسرائيل هو مشرق كسيح ومستباح.

وحدة حول خيار المقاومة
واهم من يتصور إمكانية العودة إلى حياة طبيعية في لبنان والمشرق العربي في ظل هذا التغوّل الإسرائيلي. شروط بقاء دوله ومجتمعاته باتت مهددة. هذه الحقائق بذاتها تؤكد صوابية مواقف قوى المقاومة بين قطاعات معتبرة من شعوب هذه المنطقة، وتزيد من مشروعيتها. المطلوب اليوم بالنسبة إلى جميع المعنيين بالتصدي للخطر الوجودي الصهيوني، خاصة بعد انتقاله إلى الهجوم بشراكة كاملة مع الولايات المتحدة، وما نجم عنه من مفاعيل في الإقليم، هو السعي إلى تمتين وحدة الصف بين قوى المقاومة، وبناء جبهة عريضة مع جميع الأطراف المقتنعة بضرورة مثل هذا التصدي. ولا شك أن بركات دماء الشهداء الذين ارتقوا في معركة الدفاع عن غزة وفلسطين والقدس ستسمح بتجاوز كل الانقسامات التي عمل الأعداء على إثارتها وتسعيرها، وجمع شمل الأمة للذود عن حقها في الاستقلال والنهضة والمستقبل الأفضل.

وليد شرارة – الاخبار

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد