مقدمة:
تُميِّز أبحاث مراكز الدراسات الإسرائيلية في السياسة العربية تجاه “إسرائيل” بين بُعدين هما: توجهات الأنظمة السياسية العربية تجاه القضية الفلسطينية من ناحية، وتوجهات الرأي العام العربي تجاه الموضوع ذاته من ناحية مقابلة. ونظراً لطبيعة النظم السياسية العربية ذات المنحى الاستبدادي، فإن المنظور الإسرائيلي للمدى الزمني المباشر أو القصير، يتركز على استثمار توجهات الأنظمة، على أمل التغيير التدريجي والممنهج في توجهات الرأي العام؛ من خلال وسائل الإعلام ومناهج التعليم من ناحية، والتحويل التدريجي للصراع العربي الصهيوني من منظوره الصفري باتجاه اعتباره صراعاً غير صفري من ناحية ثانية، من خلال التغلغل في البنية العربية عبر مشاريع مشتركة في ميادين مختلفة، أي توظيف السياسات الرسمية العربية لتحويل الاتجاهات الشعبية نحو الاتساق مع السياسات الرسمية المتناغمة مع السياسات الإسرائيلية.
أولاً: تداعيات طوفان الأقصى على الديبلوماسية الإسرائيلية:
أدركت مراكز الدراسات الإسرائيلية الأثر العميق الذي تركته معركة طوفان الأقصى محلياً وإقليمياً ودولياً، وخصوصاً من زاوية درجة العنف ومعدل الضحايا المدنيين بشكل عام، وهو أحد المعايير التي اعتمدتها الأمم المتحدة سنة 2015 في نموذجها للتنمية المستدامة سنة 2015، إلى جانب النماذج الأكاديمية لقياس مؤشر الصراعات الدولية، مثل مؤشر الصراعات “مشروع بيانات مواقع وأحداث النزاع المسلح Armed Conflict Location & Event Data Project (ACLED)”، الذي يقوم بتقييم مستويات الصراعات في كل دولة وإقليم جيو–سياسي في العالم وفقاً لأربعة مؤشرات؛ وهي: مستوى التدمير، ومستوى الخطر على المدنيين، ومدى الانتشار الجغرافي لميدان الصراع، وأخيراً، تعدد الجماعات المسلحة في الصراع الواحد. وقد توصل هذا النموذج إلى أن قطاع غزة والضفة الغربية هما ضمن أعلى أربع مناطق صراعات في العالم في مجموع مؤشرات القياس المعتمدة، مع تميّز هذا الصراع عن الصراعات الدولية الأخرى بمؤشر الانتشار الجغرافي للصراع، وهو ما يترتب عليه تزايد المؤشر الآخر وهو درجة تعرض المدنيين لخطرٍ أعلى، الأمر الذي جعل معدل الضحايا في الهجوم الإسرائيلي على غزة هو الأعلى عالمياً خلال القرن الحالي، طبقاً لإحصاءات منظمة أوكسفام Oxfam، إذ بلغ المعدل اليومي نحو 250 قتيلاً، وهو ما يعادل نحو 5.7 أضعاف المعدل في الحرب الأوكرانية الروسية المعاصرة.
وقد أدركت مراكز الدراسات الإسرائيلية تأثيرات هذه الصورة على الرأي العام الدولي، فبدأت في تركيز دراساتها على موضوعات يتمّ من خلالها تغييب مستوى العنف الذي تمارسه “إسرائيل” في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، وخصوصاً في قطاع غزة بعد 7/10/2023، إلى جانب التغاضي الكبير عن تناول قرارات محكمة العدل الدولية International Court of Justice بالبحث؛ نظراً لتأثير ذلك على صورة “إسرائيل” كدولة تمارس الإبادة الإنسانية، بشهادة أعلى هيئة قضائية دولية.
من جانب آخر، سجّلت الدراسات الإسرائيلية بعض الملامح التي نتجت عن معركة طوفان الأقصى على صعيد الاستراتيجية العامة لـ”إسرائيل” في علاقاتها الدولية، وتأثير ذلك على العلاقة مع الدول العربية، ويمكن تلخيص هذه الملامح في الآتي:
1. تؤكد الدراسات الإسرائيلية أن الدعم الأمريكي والأوروبي لـ”إسرائيل” في معركة طوفان الأقصى دعم “غير مسبوق”، ولكن ذلك لا ينفي بعض الخلافات مع “إسرائيل”؛ لا سيّما في رفض “إسرائيل” تحديد استراتيجيتها لليوم التالي للحرب، مع ملاحظة أن الدول العربية لا تحاول استثمار هذا الخلاف النسبي بين “إسرائيل” وبعض القوى الغربية من خلال إجراءات فعلية.
2. استمرار تشبّث الحكومات العربية بالتطبيع مع “إسرائيل”، خصوصاً في الموضوعات الاستراتيجية؛ الالتزام بالمعاهدات، واستمرار العلاقات التجارية، والحوار الديبلوماسي، وعدم تقديم أيّ مساندة استراتيجية للمقاومة.
3. ارتباك نسبي “محدود للغاية” في السياسات الإعلامية المعبِّرة عن العلاقات الإسرائيلية مع كل من تركيا والأردن ومصر.
4. تحسّن نسبي لصورة محور المقاومة في توجهات الرأي العام العربي، وعجز “إسرائيل” عن بلورة السياسة الإقليمية بشكل واضح ضدّ ما يعدّونه “المحور الإيراني الروسي”، وما يعزز ذلك هو ما يتضح من توجهات الرأي العام العربي تجاه مواقف القوى الإقليمية والدولية من الحرب في غزة، كما يتضح من الجدول التالي:
جدول رقم 1: توجهات الرأي العام العربي من مواقف القوى الإقليمية والدولية
الدولة | معدل رضا المجتمع العربي عن موقفها من الحرب في غزة (جيد + جيد جداً)% |
إيران | 48 |
تركيا | 47 |
روسيا | 41 |
الصين | 40 |
فرنسا | 10 |
ألمانيا | 9 |
بريطانيا | 8 |
الولايات المتحدة | 3 |
ومن الواضح أن نتائج الاستطلاع الذي غطّى 16 دولة عربية يشكّل تعزيزاً لصورة إيران في الذهن الشعبي العربي، وهو أمر لا تنظر إليه “إسرائيل” نظرة إيجابية، وخصوصاً أن الاستطلاع يُشير إلى أن اعتبار إيران خطراً على استقرار المنطقة تراجع لدى الرأي العام العربي خلال الفترة 2018–2024 من 13% إلى 7%، أي بما يساوي تراجعاً قيمته نحو 54%، الأمر الذي يشكل مؤشراً سلبياً في المنظور الإسرائيلي، ولكنه يؤكد ازدواجية الموقف العربي بين أنظمة وشعوب.
5. عدم بلورة “إسرائيل” سياسة متسقة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخصوصاً مع السلطة الفلسطينية، فهي تعتمد عليها في التنسيق الأمني ثم تتهمها بالضعف والتقصير، ثم تسهل للسلطة الحصول على الأموال والأسلحة لأجهزتها الأمنية، ثم تستقطع بعضاً من مداخيل السلطة، وخصوصاً المداخيل الضريبية.
6. في إطار تقييم أداء وزارة الخارجية الإسرائيلية، خلال سنة 2023 بما فيها فترة ما بعد طوفان الأقصى، تجاه العلاقة مع الدول العربية والدولية، تبدو مساحة رضا خبراء السياسة الخارجية الإسرائيليين عن أداء وزارتهم متراجعاً، كما يتضح من الجدول التالي:
جدول رقم 2: تقييم السياسة الخارجية الإسرائيلية قبل طوفان الأقصى وبعده
المؤشر | معدل الرضا سنة 2023 بما فيها مرحلة ما بعد الطوفان (العلامة من 10) | معدل الرضا سنة 2022 (العلامة من 10) |
المكانة الإسرائيلية عالمياً | 5.03 | 5.85 |
مستوى معالجة الحكومة للسياسة الخارجية | 4.82 | 5.53 |
مكانة وزارة الخارجية الإسرائيلية | 5 | 5.4 |
ذلك يعني أن الأداء الحكومي في إدارة السياسة الخارجية من جوانبها الثلاثة سجّل تراجعاً يصل إلى 0.55 من 10.
ثانياً: تقييم الأداء الحكومي الإسرائيلي في الميدانيْن السياسي والعسكري مع الدول العربية:
يتمّ تركيز الدراسات الإسرائيلية في هذا البُعد على الدول ذات العلاقات الرسمية مع “إسرائيل”، إلى جانب العلاقة ذاتها شبه الرسمية، على غرار السعودية وقطر، ويبدو أن الدور المصري والقطري هما الأكثر أهمية بين هذه المجموعة، وخصوصاً في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى، وتلخِّص الدراسات الإسرائيلية مثلاً الموقف المصري على النحو التالي:
1. منع نشوب حرب إقليمية قد تؤثر تداعياتها على الأمن المصري، من منظور السلطة المصرية لا من منظور المجتمع المصري.
2. إعادة تنشيط العبور في قناة السويس، بسبب الاضطراب العميق في ملاحة البحر الأحمر؛ نتيجة العمليات اليمنية ضدّ الملاحة التجارية الإسرائيلية العابرة لهذا البحر.
3. إعادة تنشيط القطاع السياحي المصري الذي تأثر بالاضطراب في المنطقة، وخصوصاً أن قطاع السياحة وعائدات قناة السويس تمثلان أعمدة مركزية في إجمالي الناتج القومي المحلي المصري.
4. العمل على إعادة دور السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، نظراً لتناغمها مع التوجهات الرسمية المصرية، وللحيلولة دون تعانق التوجهات المجتمعية المصرية مع توجهات المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة، التي تنظر لها السلطة المصرية الرسمية كامتداد مسلّح لحركة الإخوان المسلمين، وخصوصاً جناحها المصري.
وتحدّد دراسة إسرائيلية تصوّراً للعلاقة المصرية الإسرائيلية خلال معركة طوفان الأقصى وبعدها، على أساس العمل معاً لتحقيق ما يلي:
1. وضع خطة مشتركة لخدمة المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية لكل منهما.
2. التقريب بين الرؤى المختلفة لمستقبل غزة، ودمج الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية في هذه الجهود، بهدف تحييد قدرات حركة حماس العسكرية والحاكمية.
3. تسهيل العودة التدريجية والمشروطة إلى قطاع غزة لـ”السلطة الفلسطينية المُنَشَّطة” والملتزمة بـ”السلام”.
4. تعزيز الرقابة المصرية على ممر فيلادلفيا والمعابر الحدودية بين مصر وسيناء.
5. صياغة حزمة من الحوافز الاقتصادية لتعزيز المشاركة المصرية في غزة، مثل إشراك الشركات المصرية في مشاريع الإعمار.
ثالثاً: مصر وقضية التهجير:
تداولت التقارير المختلفة وثيقتيْن تتعلقان بموضوع تهجير سكان غزة إلى خارجها، وخصوصاً إلى مصر، سواء في سيناء أم في المدن الجديدة في مصر، وكان أحد مراكز الدراسات الإسرائيلية المقرّب للغاية من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu وهو “معهد مسجاف للأمن الوطني والاستراتيجية الصهيونية Misgav Institute for National Security and Zionist Strategy”، قد نشر في 17/10/2023، تقريراً حول ما أسماه “الفرصة الفريدة والنادرة” لتهجير سكان غزة، مع الإشارة إلى أن رئيس المعهد وهو مائير بن شابات Meir Ben Shabbat كان مستشاراً لنتنياهو للأمن القومي، ويقوم المشروع، حرفياً، على ما يلي:
1. هناك حاجة إلى خطة فورية وقابلة للتطبيق لإعادة التوطين وإعادة التأهيل الاقتصادي لجميع السكان العرب في قطاع غزة، والتي تتوافق بشكل جيد مع المصالح الجيو–سياسية لـ”إسرائيل” ومصر والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.
2. في سنة 2017، أفادت التقارير بتوفر 10 ملايين وحدة سكنية متاحة في مصر، نصفها مبني والنصف الآخر قيد الإنشاء، يوجد بعضها مثلاً في اثنتين من أكبر المدن التابعة للقاهرة، وهي مدينة “6 أكتوبر” ومدينة “10 رمضان”، وهما تضمّان عدداً هائلاً من الشقق المبنية والفارغة الخاضعة لملكية حكومية وخاصة، بالإضافة إلى قطع الأراضي الفارغة للبناء التي تكفي في المجمل لإسكان نحو 6 ملايين نسمة.
3. يتبيّن من هذه المشاريع أن تكلفة الشقة المكوّنة من ثلاث غرف بمساحة 95م2 لأسرة متوسطة في غزة مكونة من 14 فرداً، في إحدى المدينتين المذكورتين، تصل إلى نحو 19 ألف دولار. وبحساب إجمالي لعدد السكان الذين يقيمون في قطاع غزة، والذي يتراوح بين 1.4-2.2 مليون نسمة، يُمكن التقدير بأن المبلغ المطلوب تحويله إلى مصر من أجل التمويل سيتراوح بين 5 إلى 8 مليارات دولار.
4. إن ضخّ المبلغ المشار له في الاقتصاد المصري من شأنه أن يوفر ميزة هائلة وفورية للنظام السياسي المصري الحالي، وهذه المبالغ المالية تُعدّ مبالغ ضئيلة مقارنة بحجم الاقتصاد الإسرائيلي، حتى لو كانت 20 أو 30 مليار دولار، وهذا المشروع يمثل حلّاً مبتكراً ورخيصاً وقابلاً للتطبيق.
5. إن تفعيل هذه الخطة يستوجب توافر شروط كثيرة، ولكن هذه الشروط متوفرة في الوقت الحالي، ومن غير الواضح متى ستنشأ فرصة ثمينة كهذه مرة أخرى، هذا إنْ ظهرت على الإطلاق.
أما الوثيقة الثانية حول موضوع التهجير إلى سيناء، فقد ظهرت في موقع صحيفة كالكاليست Calcalist الإسرائيلية؛ عن خطة منفصلة للتطهير العرقي في غزة، والتي تمّ تعميمها من قبل وزارة الاستخبارات الإسرائيلية برئاسة جيلا غملائيل Gila Gamliel، لصالح منظمة تسمى “وحدة الاستيطان – قطاع غزة The Unit for Settlement – Gaza Strip”، ولم تكن مخصصة للجمهور.
وفي الخطة التي تقترحها وزارة المخابرات، سيتمّ تهجير الفلسطينيين في غزة إلى شمال شبه جزيرة سيناء المصرية، ووصفت الوزارة خيارات مختلفة لما سيأتي بعد غزو غزة، والخيار الذي ترى الوزارة أن “من شأنه أن يوفر نتائج استراتيجية إيجابية وطويلة الأمد”، هو نقل سكان غزة إلى سيناء عبر ثلاث خطوات هي:
1. إنشاء مدن من الخيام جنوب غرب قطاع غزة.
2. إنشاء ممر إنساني لـ”مساعدة السكان”.
3. بناء المدن في شمال سيناء.
وتقترح الخطة بالتوازي مع ما سبق من خطوات، إنشاء “منطقة مغلقة”، بعرض عدة كيلومترات داخل مصر، جنوب الحدود الإسرائيلية، “حتى لا يتمكن السكان الذين تم إجلاؤهم من العودة”. كما تدعو الوثيقة إلى التعاون مع “أكبر عدد ممكن” من الدول الأخرى مثل كندا، والدول الأوروبية وتحديداً اليونان وإسبانيا، ومع دول شمال إفريقيا، لاستيعاب سكان غزة.
نقلت بعض التقارير الإسرائيلية عن ذا وول ستريت جورنال The Wall Street Journal، أن مصر تعارض بشكل واضح عودة السيطرة الإسرائيلية على ممر فيلادلفيا عبر السماح بمراقبته؛ من خلال الطائرات المسيرة، أو وضع مجسات لمراقبة الحركة على الممر وإرسال إشارات تحذيرية لأيّ نشاطات لحفر الأنفاق عبره، لأن في ذلك، من منظور مصري، انتهاكاً واضحاً للسيادة المصرية.
وادّعت بعض المصادر الإسرائيلية، أن هناك “12 نفقاً” بين غزة وصحراء سيناء ما تزال عاملة. ولتعزيز هذه المخاوف لدى السلطة المصرية، فإن مراكز الدراسات الإسرائيلية تحاول الترويج لفكرة مؤداها أن حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، ليست إلا امتداداً لـ”الأجنحة العسكرية” التي انبثقت عن حركة الإخوان المسلمين، وخصوصاً في مصر في فترة ما بعد اضطرابات العشرية خلال الفترة 2010-2020، والتي تجسدت تنظيمياً في مؤتمر في إسطنبول سنة 2022 تحت اسم تيار التغيير، كما تروّج هذه المراكز البحثية لفكرة أن طوفان الأقصى حفّز أجنحة الإخوان المسلمين في المنطقة، وخصوصاً مصر على الاقتداء بها لتحرير معتقلي الإخوان المسلمين في سجون الأنظمة العربية.
رابعاً: الرؤية الإسرائيلية للدور القطري:
تتبدّى خصوصية الدور القطري من منظور مراكز الدراسات الإسرائيلية،[19] في أن قطر أكثر حرصاً من غيرها من الدول العربية للحفاظ على حركة حماس من ناحية، كما أنها أقل حماساً لدور أوسع للسلطة الفلسطينية من ناحية ثانية، وهما نقطتا تباين بين مصر وقطر، وتدعو الدراسات الإسرائيلية لتشجيع استثمار هذا التباين الآن ومستقبلاً.
ومن زاوية أخرى، فإن قطر، حسب الدراسات الإسرائيلية، لا تربط ممارسة دورها بشروط سياسية على “إسرائيل” أن تنفذها لتعميق العلاقة بين الطرفيْن، كما هو حال الموقف السعودي الذي يتطور تدريجياً باتجاه التطبيع مع ربط ذلك ببعض الاشتراطات في القضية الفلسطينية، كما أن الطرف الإسرائيلي لا يحبِّذ دوراً قيادياً لقطر في أيّ ترتيبات لقوات أمنية عربية في غزة بعد وقف القتال.
خامساً: مستقبل البنية السياسية الفلسطينية من وجهة نظر مراكز الدراسات الإسرائيلية:
تحدِّد الدراسات الإسرائيلية، في معظمها، تصوّرها لمرحلة ما بعد الحرب في استراتيجية تقوم على الركائز التالية:
1. قيادة بديلة في قطاع غزة، مع تباين بين الدراسات الإسرائيلية في حجم دور حماس وحدود دور السلطة الفلسطينية، وتحدد هذه الدراسات المكاسب الإسرائيلية من إعادة تنشيط السلطة الفلسطينية من خلال التصور التالي:
أ. من شأن القدرات الرقابية الفعالة للسلطة الفلسطينية المعاد تشكيلها أن تمكِّن “إسرائيل” من الانسحاب من قطاع غزة، وتخفيف الأعباء عنها، والظهور بمظهر المستجيب للإرادة الدولية.
ب. تتمّ إدارة الشؤون المدنية في غزة فقط من قبل السلطة الفلسطينية المعاد هيكلتها، دون أي تدخل إسرائيلي في حياة أو شؤون السكان الفلسطينيين.
ج. ستحتفظ “إسرائيل” بالإشراف الخارجي على قطاع غزة لفترة محددة، يتمّ الاتفاق عليها بشكل متبادل كجزء من ترتيبٍ مؤقت، وإن نشر قوة متعددة الجنسيات يمكن أن يساعد في إعادة تأهيل قطاع غزة وتخفيف الاحتكاك مع السكان، ومع ذلك، ستحتفظ “إسرائيل” بسلطة ملاحقة “الإرهابيين” المشتبه بهم، كما هو منصوص عليه في اتفاقيات أوسلو Oslo Accord.
د. سيتم توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت حكومة واحدة، وسيتحدد مستقبلهما بعد فترة إعادة التأهيل وتعزيز السلطة المتجددة، من خلال نزع سلاح المقاومة، طبقاً لما طالب به الرئيس الأمريكي جو بايدن Joe Biden.
هـ. يجب في المرحلة الأولى تجنب الفراغ الحكومي في قطاع غزة؛ لمنع القوات المعادية لـ”إسرائيل” من استعادة السيطرة عليه.
و. ستتجنب “إسرائيل” إرساء وقائع جديدة على الأرض خلال هذه الفترة الانتقالية.
ز. أن يلتزم الأفراد الذين يتمّ ترشحهم للمناصب العليا في السلطة الجديدة بما يلي:
• الاعتراف بحق “إسرائيل” في الوجود والأمن بما في ذلك التيارات ذات التوجه الإسلامي.
• احتكار امتلاك السلاح إلا من السلطة الرسمية، ومنع قيام مليشيات أو تنظيمات مسلحة غير مرخصة.
• الإعلان بشكل واضح عن الالتزام بعدم القيام بأي أعمال عنف ضدّ “إسرائيل”.
• نزع السلاح من الكيان الجديد، إلا ما يتمّ الاتفاق عليه لأغراض حفظ الأمن العام وتطبيق القانون.
ح. فيما يتعلق بالبعد الأمني لا بدّ من إعادة تحديد مفهوم التنسيق الأمني بين السلطة و”إسرائيل”، إلى جانب مدّ عمل التنسيق إلى غزة، شريطة الاعتماد على أفراد من خارج الأجهزة الأمنية التي ظهرت منذ سنة 2007، وهي فترة حكم المقاومة للقطاع، مع ضرورة زيادة الإنفاق على هذه الأجهزة لرفع كفاءتها.
ط. إعادة النظر في المناهج التعليمية بما يلغي الموضوعات العدائية لـ”إسرائيل”، بالإضافة إلى تكريس استقلالية القضاء.
ي. أما في الإطار الإقليمي، فتركز هذه الدراسات الإسرائيلية في توجهها العام على ثلاثة أبعاد، وهي:
• استثمار التباينات السياسية العربية، وخصوصاً في موضوعات محددة، وأبرزها الموقف من الحركات الدينية العربية، وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين.
• التأثير على وزن الدول العربية المتعاطفة مع توجهات محور المقاومة.
• العمل على تهويل الخطر الإيراني على الدول العربية.
ك. أما في المستوى الدولي، فإن الدراسات الإسرائيلية وبشكل واسع تميل إلى التوجهات التالية:
• استبعاد أي قوى دولية متعاطفة نسبياً مع المقاومة من المشاركة في أيّ لجان أو مفاوضات تبحث مرحلة ما بعد الطوفان.
• استمرار الضغط لمحاصرة دور الأمم المتحدة والقضاء الدولي، وخصوصاً محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية International Criminal Court.
• الاستعداد لنشاطات إعلامية تكبح التحولات في توجهات الرأي العام الدولي باتجاه نقد السياسات الإسرائيلية، وخصوصاً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفي المنظمات الدولية غير الحكومية، فقد أشار مركز دراسات إسرائيلي إلى أن مجموع المظاهرات المساندة لفلسطين في الولايات المتحدة، خلال الفترة الممتدة من 7/10/2023 إلى 9/2/2024، كان 1,625 مظاهرة مقابل 283 مظاهرة مؤيدة لـ”إسرائيل”.
2. الدور الاقتصادي؛ تنظر مراكز الدراسات الإسرائيلية لهذا البعد من خلال:
أ. الدعم المالي لإعادة الإعمار في قطاع غزة، وتقوم الفكرة المركزية بين أغلب الدراسات الإسرائيلية في هذا الجانب على ضرورة الربط بين الإعمار وبين تغيير الواقع السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة، بحسب ما أشارت له هذه الدراسات في الجانب السياسي، أي أن الفكر الإسرائيلي يربط ربطاً وثيقاً بين الضغط العسكري لانتزاع المكاسب وبين الابتزاز المالي لربط أموال الإعمار بمواقف سياسية، كما ورد في الدور السياسي الذي أشرنا له.
ب. التفكير في تهدئة مخاوف المستثمرين العرب في إعادة الإعمار من عودة العنف مرة أخرى بشكل يقوّض دورهم الاقتصادي، أي إن على “إسرائيل” أن تربط السماح بدخول المساعدات إلى قطاع غزة بسياسات عربية أكثر انفتاحاً على “إسرائيل”، وأكثر تضييقاً على فرص استئناف المقاومة ضدّ “إسرائيل” في فترات لاحقة.
3. نقاط التباين والتوافق بين مشروعات التسوية المختلفة من منظور مراكز الدراسات الإسرائيلية:
عند استعراض المبادرات العربية والدولية والإسرائيلية للتسوية في مرحلة ما بعد الطوفان، يتمّ تحديد جوانب التباين وجوانب التوافق بين هذه المبادرات للبحث في كيفية توظيفها ومعالجتها، ففي مجال التباينات تمّ تحديد السيناريوهات للتسوية على النحو التالي:
أ. حول مركز حماس: إن أغلب الأطراف العربية لا ترى مانعاً من “دور ما” لها، وهو ما ترفضه “إسرائيل” والولايات المتحدة، كما أن دور حماس من المنظور القطري يجب أن يكون أكبر من الدور الذي تحدده الدول العربية ذات العلاقة مع “إسرائيل”.
ب. عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة: ترى أغلب الدول العربية غير المنخرطة في مساندة محور المقاومة ضرورة أن يكون للسلطة الفلسطينية الدور المركزي، وهو ما تقبله “إسرائيل”؛ شريطة إخضاع هذه السلطة لتغييرات عميقة.
ج. ثمة تباين بين الموقف الأمريكي والإسرائيلي في موضوع السلطة؛ فالولايات المتحدة ترى الموضوع في إطار حلّ الدولتين، بينما “إسرائيل” تشير إلى تعبير غامض وهو “عناصر محلية” للحكم في غزة دون أي ربط لذلك بتسوية نهائية محددة، وتُشير دراسة إسرائيلية إلى أن حلّ الدولتين ينطوي على مخاطر وجودية على “إسرائيل” من خلال:
• هناك التزام تاريخي لدى المجتمع الفلسطيني بتحرير فلسطين عبر المراحل التي تمّ التعبير عنها في الوثائق الفلسطينية.
• إن الحديث عن دولة فلسطينية منزوعة السلاح غير منطقي، لأن نزع السلاح يكون لمناطق لا لدول، فليس هناك دولة قومية على غرار النموذج الويستفالي Westphalian model منزوعة السلاح.
• احتمال وقوع انقلاب في الدولة الفلسطينية المستقبلية يأتي بسلطة تتراجع عن الالتزامات السابقة للسلطة الفلسطينية المخلوعة.
• ويرى بعض الباحثين الإسرائيليين أن عدم الاستقرار في المجتمع الإسرائيلي سينفجر بعد وقف الحرب، سواء بسبب سياسات نتنياهو أم بسبب المشروعات الدولية والإقليمية لتسوية الصراع.
د. الدور العربي في غزة: تبدو دول الخليج ذات العلاقة مع “إسرائيل” أقل وضوحاً في تحديد دورها، ويبدو أنها تخشى من التسرع في لعب دور سياسي أمني قد يوقعها إلى جانب مصر في مواجهة مع حماس، ولكن دول الخليج وخصوصاً السعودية والإمارات أكثر وضوحاً في مجال تقبّل الدور الإعماري في غزة.
هـ. هناك خلاف بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” حول التغييرات الجغرافية في قطاع غزة، فالولايات المتحدة ترفض التغييرات الجغرافية في القطاع، بينما تسعى “إسرائيل” لإيجاد ما يسمى “سواراً أمنياً security Perimeter”، يحيط بغزة للفصل بين القطاع والعالم الخارجي.
أما النقاط المشتركة بين توجهات دول التطبيع و”إسرائيل” فهي:
أ. أن يكون للسلطة دور في قطاع غزة، سواء عبر تغيير قيادة عباس أم في حكومة تكنوقراطية يقودها تكنوقراط من أمثال سلام فياض.
ب. إضعاف حركة حماس، خصوصاً إذا ما تمّ التوافق على الإفراج عن الرهائن، وإضعاف القدرات العسكرية لحماس، وضمان إجراءات تضمن الأمن الإسرائيلي للمدى المتوسط والمدى البعيد. وهنا يجري النقاش بين الدول العربية وخصوصاً الخليجية حول اقتراحيْن؛ أحدهما “نفي” قادة حماس خارج قطاع غزة، أو نزع سلاح حماس وإخضاعها للإدارة الفلسطينية الجديدة.
ج. تواصل التطبيع العربي مع “إسرائيل” وهو النهج الذي تروّج له السعودية، ولكنها تربطه بعدد من الشروط الثنائية مع الولايات المتحدة؛ مثل السماح لها ببرنامج نووي سلمي، وعقد اتفاقية دفاع مشترك، وتزويدها بالأسلحة المتطورة من الولايات المتحدة، إلى جانب استئناف “إسرائيل” المفاوضات لتسوية الموضوع الفلسطيني.
سادساً: توجهات الرأي العام الإسرائيلي بين السياسات الرسمية وتصورات مراكز الدراسات:
جدول رقم 3: توجهات الرأي العام اليهودي من موضوعات معركة طوفان الأقصى
الموضوع | النسبة (%) | ملاحظات |
أولوية إعادة الرهائن | 51% | إن معدل الضغط على الحكومة في هذا الموضوع متوسط |
أولوية إسقاط حركة حماس | 36% | ليست أولوية للغالبية |
رفض قبول قيام دولة فلسطينية مقابل التطبيع مع السعودية | 59% | يبدو أن المجتمع مقتنع أن السعودية ستطبع دون تحقيق الدولة الفلسطينية |
ضرورة التنسيق مع الأمريكيين في اتخاذ قرارات الحرب | 38% | 49.5% يؤكدون على اعتماد قرار الحكومة المستقل عن الولايات المتحدة |
رفض الإفراج عن الرهائن مقابل الإفراج عن كل المعتقلين الفلسطينيين | 60% | وهذه نتيجة متسقة مع موضوع أولوية الإفراج عن الرهائن |
رفض عودة سكان غلاف غزة إلى مستوطناتهم الآن | 52% | إشارة إلى بقاء الخوف الأمني |
تأييد بدء تحقيق فوري في الفشل الاستخباراتي بخصوص 7 تشرين الأول/ أكتوبر | 46% | نسبة ليست بسيطة وتشكل مصدر قلق لنتنياهو |
تأييد توسيع الحرب مع حزب الله | تراوحت النسبة خلال مراحل الحرب بين 48-59% | يلاحظ أن النسبة تميل للتزايد من شهر لآخر مع استمرار الحرب |
عدم الرضا عن أداء الحكومة في قطاع الخدمات خلال الحرب | 41% | وهو ما تبرره الحكومة بالوضع الاستثنائي في حالة الحرب |
أهم هموم المجتمع حالياً | الأمن: 53% غلاء المعيشة: 36% | هي نتائج متسقة مع المعطيات السابقة |
واثق بانتصار ”إسرائيل“ | تشرين الثاني/ نوفمبر 2023: 78% كانون الثاني/ يناير 2024: 61% | إن نسبة من يتشككون في انتصار “إسرائيل” ارتفعت من 26% إلى 39% في الفترة. |
ويمكن استنتاج عدداً من الدلالات من توجهات الرأي العام الإسرائيلي، طبقاً لما نشرته مراكز الدراسات الإسرائيلية:
أ. إن نسبة التوافق بين شرائح المجتمع الإسرائيلي في أغلب القضايا هي نسبة متدنية.
ب. أن الثقة بالانتصار في معركة غزة تراجعت بنسبة 17%.
سابعاً: توصيات مراكز الدراسات الإسرائيلية:
في دراسة سابقة لنا حول دور مراكز الدراسات الإسرائيلية في عملية صنع القرار الإسرائيلي، تَبيّن لنا النسبة العالية جداً في أخذ الحكومات الإسرائيلية بتوصيات مراكز الدراسات، واستناداً لذلك نُشير إلى أهم التوصيات التي تواترت الإشارة لها في أغلب الدراسات الإسرائيلية التي أشرنا لها أعلاه، على النحو التالي:
1. على “إسرائيل” أن تحقق الأهداف التالية قبل وقف إطلاق النار:
أ. التحكم في ممر فيلادلفيا بين مصر وقطاع غزة.
ب. إقامة إدارة مؤقتة في غزة خلال تواجد القوات الإسرائيلية في القطاع، وتعتمد هذه الإدارة على فلسطينيين من عناصر، تُسهم “إسرائيل” في تعيينها. وتقوم هذه الإدارة المعيَّنة بالعمل على نزع أدبيات المقاومة السياسية والمرتبطة بحركة حماس من المجتمع الفلسطيني.
ج. نزع سلاح المقاومة الفلسطينية في القطاع.
د. إقامة منطقة عازلة حول غزة.
2. على الحكومة الإسرائيلية أن تضع تصوّراً يستند أساساً على نقاط التوافق بينها وبين دول التطبيع العربية ومنها السعودية.
3. على الحكومة أن تراعي فجوات التباين بينها وبين بعض الدول العربية، وخصوصاً في طبيعة السلطة القادمة في غزة وعلاقة ذلك بالجانب الأمني لـ”إسرائيل”.
4. العمل على تنسيق الموقفيْن الأوروبي والأمريكي باتجاه إضعاف حركة حماس.
5. العمل على إضعاف العلاقة بين حركة حماس وقطر من ناحية، وضرورة الضغط على قطر لتوسيع نطاق التناغم مع مواقف دول التطبيع.
6. الربط بين تطور السلطة الفلسطينية والعلاقة السعودية الإسرائيلية على أساس أن تتوازى الخطوات في البعديْن معاً.
7. ضرورة انضباط المسؤولين الإسرائيليين في تصريحاتهم التي تعزز اتهام محكمة العدل الدولية بممارسة “إسرائيل” لجريمة الإبادة الإنسانية، والاستمرار في التواصل الديبلوماسي مع دول العالم لتخفيف آثار موقف المحكمة على الصورة الإسرائيلية.
8. لا يميل الباحثون في مراكز الدراسات الإسرائيلية إلى إمكانية استثمار العلاقات العربية الصينية والصينية الإيرانية، للإسهام في إقناع حركة أنصار الله في اليمن لوقف هجماتهم على التجارة البحرية في البحر الأحمر والمتوجهة لـ”إسرائيل”.
د. وليد عبد الحي – مركز الزيتونة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.