تتميز الضفة الغربية الآن عن باقي الأراضي الفلسطينية المحررة كقطاع غزة أو المحتلة احتلالًا كاملًا كأراضي 1948 بأنها ميدان مثالي للمقاومة في جميع مستوياتها المسلحة والشعبية وعمليات التحشيد الالكتروني ووفرة الناشطين في شتى المجالات وعلى رأسها المقاومة. ومنذ أن استعادت الضفة المبادرة في أيلول 2015 بعد انطلاق انتفاضة السكاكين أخذت المقاومة الشاملة في الضفة تتبلور على جميع الصعد وتمتلك من إمكانات المناورة ما لم تمتلكه أي مقاومة فلسطينية في تاريخ الصراع الفلسطيني مع العدو لتحرير الأرض. فبين الأعمال العسكرية المنسقة في مخيمات الضفة (جنين – بيت لحم – الأمعري – نابلس – طولكرم – شعفاط) وبين الهبات الشعبية المتتالية في معظم مدن الضفة، تمتلك المقاومة مروحة من الامكانات المؤثرة التي تجعل العدو في حالة استنزاف دائم لطاقاته العسكرية والاستخبارية والاعلامية الموجهة وتنقل المبادرة يومًا فيومًا إلى المقاومة.
عمليات المقاومة الجماعية
منذ أكثر من سنتين تحولت مخيمات نابلس وطولكرم وجنين وبيت لحم وشعفاط التي تخضع (للمنطقة ب) في الخطة الأمنية المشتركة بين العدو وأجهزة السلطة الفلسطينية إلى مصائد يومية للعدو وبعدما كانت أجهزة الاحتلال الأمنية والعسكرية تمسك بشكل شبه كامل بالأمن في تلك المخيمات التي تعتبر على تماس مع تجمعات استيطانية كبيرة في الضفة، وتحاذي الخط الأخضر وعمق الاحتلال، إلا أنه وبعد 24 شهرًا من البطش تمكنت المقاومة من تجاوز ذلك وبناء محاضن عسكرية محرمة على العدو الذي كان يدفع ثمنًا في الأرواح كلما حاول الاقتراب منها.
ورغم نجاح العدو في العديد من العمليات في قتل مقاومين إلا أن ردة الفعل المباشرة أو التي كانت تلي العملية كانت باهظة الثمن في الأرواح لجنوده ومستوطنيه، ومعلوم أن الصهاينة يحسبون حسابًا كبيرًا لأمن مستوطنيهم ومستعمراتهم وجنودهم، والخسائر التي كانوا يرغمون على دفعها لقاء أي تجاوز للخط الأحمر ضد المقاومين في المخيمات ومدن الضفة كانت تعني لهم لعبًا بقدرة الردع وتعني مسًّا بأمنهم القومي، خاصة بعدما ربطت المقاومة ببراعة الخطوط الحمراء في الضفة بخطوط غزة الحمراء، مما عنى أن أفضل وسيلة للصهاينة لكبح الخطر الداهم والمدمر من الضفة كانت محاولة ابطاء تطور عمل المقاومة فيها.
فكان العدو يشن الغارة تلو الأخرى مركّزًا على مدن جنين ونابلس وطولكرم، ويتّبع أسلوب القضم المتدرج من أجل التخفيف من التصاعد اللافت في المقاومة التي كانت تتعلم من خلال دراسة عدوها وترد عليه بما يؤذيه من تكتيكات في مراكمة دائمة للنتائج وفي استثمار تلك النتائج في عملية بناء بيئة مقاومة كبيرة في معظم الضفة.
ومؤخرًا وخلال عمليتين متتاليتين، اكتشف العدو أن نموذج “الأواني المستطرقة” وصل إلى الضفة بمعنى أن كل ما كان يتبادله محور المقاومة من معلومات ودروس وملاحظات وتكتيكات وأسرار عن العدو بات يصل إلى الضفة بشكل سلس. وأضيف إلى هذا العمل عامل فني أساسي افتقدته المقاومة في السابق، حيث كانت تعمل تكتيكيًا بأسلوب البؤر، فيما كانت تعمل تعبويًا (عملياتيًا) بأسلوب الجبهات المتكاملة. إلا أن العنصر الجديد الذي دخل بقوة في المواجهتين الأخيرتين وفرض نفسه بشكل كبير في مواجهة 19-6-2023 في مخيم جنين هو عنصر الادارة المعلوماتية التكتيكية المتكاملة وهذا يعني امساكًا وسيطرة كاملة على الجانب الاستخباري في الميدان ويعني أيضًا حسن استثمار المعلومات الفورية لإيلام العدو أشد الايلام وضربه في نقاط ضعفه وقوته في نفس الوقت من خلال تشخيص الضعف في نقاط قوته وضربها واستهدافها.
أظهرت المقاومة منذ شهر تقريبًا إرهاصات تطور قدراتها من خلال استهداف احدى المستوطنات بصاروخ مصنع محليًا، وهو ما يمكن اعتباره بداية عصر التصنيع العسكري في الضفة. كما أظهرت المواجهة الأخيرة إدخال عناصر جديدة على نوعية وفتك الأسلحة التكتيكية التي تمتلكها وهي:
1- العبوة الخارقة الموضوعة على خط مسار مصفحة النمر وقدرة هذه العبوة على تدمير المصفحة وإصابة كل من فيها.
2- الرصاص الفردي المستخدم الذي خرق الجيبات والمصفحات المدرعة تدريعًا كبيرًا وأصاب جنودًا فيها وهذا ما يعني في أي مواجهة قادمة أن الجندي الصهيوني مهما كان يمتلك من تحصين (درع – خوذة) فإنه عرضة للتمزيق بهذا الرصاص.
3- استهداف الأباتشي وتعطيلها.
4- استهداف المسيّرات بعدة وسائل واسقاطها.
أما عن مراكمة القوة التي باتت تمتلكها المقاومة فإن العملية الاستشهادية التي نفذها القسامان مهند شحادة وخالد صبح تبعث رسالة للعدو أنك في أي محاولة قادمة لاجتياحنا ستخسر من غزة الجاهزة على الزناد ومن أسود المقاومة المنفردة في الضفة، الذين يمكنهم اغراق كل الكيان المؤقت في بؤرة الجحيم المقاوم. وهنا لا بد من الاشارة إلى أن المقاومة تمتلك أوراقًا أخرى لم تستعملها بعد وقد تستخدمها في أي لحظة.
عمليات المقاومة الفردية
بداية تستمر العمليات الفدائية الفردية والجماعية بوتيرة متصاعدة منذ أن نقل الفدائيون تركيزهم من الأراضي المحتلة عام 1948 إلى القدس والضفة الغربية المحتلة، بشكل بات يربك أجهزة استخبارات العدو.
ورغم الصيت الكبير الذي يروج عن قدرات التنبؤ الاستخباري الصهيوني، فقد ظهرت أجهزته الاستخبارية السبعة مصابة بالعمى الاستخباري الكلي على مستوى المعلومات وعلى مستوى التقديرات والتوقعات وعمليات الاستشراف التي بدت مفتقدة للكثير من المعرفة بما يدور في عقل المقاومين. فدارت “إسرائيل” الأمنية كلها في حلقة مفرغة في عشرة أيام بعد عملية الاستشهادي عدي التميمي الأولى بتاريخ 8-10-2022 على الحاجز العسكري الصهيوني المقام على بوابة مخيم شعفاط شمال القدس المحتلة وهذا ما تأكد لحظة تنفيذ الشهيد عدي عمليته الثانية والأخيرة على مدخل مستوطنة معاليه آدوميم على بعد 13 كيلومتراً من مكان عمليته الأولى وبعد 10 أيام من التربص في مكان لا يعلمه أحد حتى الآن غير الشهيد عدي التميمي.
1- لا بد من التنويه بأن انتقال فدائي مطارد بحرية مسافة 13 كيلومتر في مدينة محتلة كالقدس التي تعج في الأيام العادية بالجنود وكل تكنولوجيا الأمن (آلاف الكاميرات النهارية والليلية – عشرات الدرونات النهارية والليلية التي كانت تحلق على مدار الساعة – مئات أجهزة التعرف على الوجوه – أجهزة الاتصال المتطورة) يعد أمرًا معقدًا، فكيف في الأيام العشرة التي كانت فيها مهمة ملاحقة الشهيد عدي هي الوظيفة الأولى والرئيسية لكل الاجهزة الأمنية الصهيونية.
2- أن المشترك في العمليات الجديدة هو أنها بمعظمها “فردية” حتى لو نفذها في بعض الأحيان فدائيان اثنان أو أكثر كمنفذي عملية إلعاد (عملية الفؤوس) شرق “تل أبيب” التي قام بها الأسيران من سرايا القدس صبحي صبيحات وأسعد الرفاعي حيث ظهر من سياق العملية أنهما عملا كمنفذ واحد.
3- إن فردية الفدائيين المنفذين تعطيهم ميزة تسمح لهم كل مرة بالخروج بسلام من مسرح العملية والتخفي أكبر وقت ممكن تمهيدًا لتنفيذ عمليتهم الثانية ورغم أن معظم المنفذين تم كشفهم بكاميرات المراقبة فإن بقاءهم بين الصهاينة يقوي احتمال نجاح العملية الثانية.
4- هكذا عمليات ليست موسمية أو ترتبط بأحداث بعينها، بل هي عملية مستمرة دافعها الرئيسي استمرار الاحتلال ودافعها الثاني هو إجراءات العدو القمعية وتجاوزه الخطوط الحمر ضد أهالي الضفة وأراضي الـ1984 وغزة، وهي تعتمد أسلوب الألف جرح حتى تخلخل بنى الاحتلال في عمقه الصهيوني وفي مكان تجبّره الأمني والعسكري وذلك من خلال المعادلتين التاليتين:
أ- معادلة (الصهاينة): جيش + ضعف وإخفاق = لا أمان للمستوطنين.
ب- معادلة (المقاومة): محافظة على الهدف + مجموعة كبيرة من الانتصارات التكتيكية والموضعية = انتصار المقاومة الاستراتيجي.
5- إن الهجمات الفردية التي يشنّها فدائيون فلسطينيون، تشكّل تحديًا للكيان المؤقت أولًا ولأجهزة أمن السلطة الفلسطينية ثانيًا، من حيث صعوبة التنبؤ بزمانها ومكانها وشخوصها، وكذلك سُبل الردّ عليها، وهو ما يمسّ بشكل مباشر ما يُعرف بـ”قوة الردع” الصهيونية. وللتنويه فإن ثلاثة من المقاومين كانوا من ضباط الاستخبارات في السلطة الفلسطينية وهذا عنصر ضعف إضافي في التقويم والتقدير لأجهزة استخبارات العدو وللسلطة الفلسطينية على السواء.
6- ثبت أن عددًا من المنفذين كانوا معتقلين سابقًا وحسب قواعد “الشاباك”، يفترض أنهم متابَعون من قبله، لكنهم نجحوا في تنفيذ عملياتهم الفردية في العمق الصهيوني (ديزينغورف – الخضيرة – بني براك) وفي المجمعات الاستيطانية الصهيونية (عيلي – أريحا “1و2” – حوارة).
7- يتحجج “الشاباك” في تبرير إخفاقه المستمر بأنه من الصعب “الكشف عن منفذين فرديين ومتابعتهم؛ كون المنفذ يتخذ قراره الفردي وربما بشكل لحظي، فلا مؤشرات ولا متسع من الوقت لدى جهاز الشاباك للوصول إليهم ومنع هذه العمليات”.
8- تسلم جهات التقدير الأمني في كيان العدو بأن أي عمل عسكري صهيوني واسع، ردًا على هذه الهجمات، لن يأتي بنتيجة فورية، لعدم وجود ارتباط واضح حتى اليوم بين المنفذين والفصائل الفلسطينية وصعوبة تأكيد ذلك الارتباط إن وجد فضلًا عن أن الجرأة التي تتميز بها هكذا عمليات تعطي الأمل للرفاق المتأثرين بهذه الأعمال بأن القوة الغاشمة للعدو ليست إلا غطاء لعجزه وضعفه ويأتي التبني الجديد لعملية “عيلي” في 20-6-2023 كتحد إضافي لـ”الشاباك” ولجيش العدو الذي لن يجرؤ إلا على اقحام مستوطنيه بالرد والقيام بعملية عسكرية استعراضية لن تغير شيئًا في الضفة.
9- لا تستطيع الأجهزة الأمنية لدى العدو والسلطة الفلسطينية التعرف على منفّذي هذا النوع من العمليات من خلال مصادرها البشرية، أو عن طريق المتابعات التكنولوجية، فالمنفذ نفسه في ثلاث من هذه العمليات اختار مكان وزمان تنفيذ عمليته قبيل تنفيذها بقليل وذلك عندما كان يشخص أن هذا الهدف أو ذاك يصلح لتنفيذ العملية.
مما تقدم فإن المقاومة في الضفة تثبت نفسها بشكل متراكم وسريع وستعمّق قريبًا وجودها في محور المقاومة ضمن مشروع وحدة الجبهات وإن النجاح الذي سيتحقق قريبًا في هذه الجبهة سيكون مزلزلًا وسيحول الضفة لأكثر الجبهات إيلامًا للعدو في تاريخ الصراع وإن غدًا لناظره قريب.
يوسف الشيخ – موقع العهد الإخباري
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.