بكل شموخ وعنفوان جهادي، وقفت سرايا القدس – رغم جراحها – ترد العدوان وتثأر لدماء الشهداء، بثلة من المقاتلين الميامين الأبطال الفدائيين، استطاعت أن تدك مدن الاحتلال بصواريخها فتثير رعبهم وتشل حياتهم وتظهر عمق عجزهم وتكوي وعيهم بفشل قدرة منظوماتهم المتطورة جدًا والمكلفة ومختلف أسلحتهم في توفير الأمن وتأمين مستقبل بقائهم، وأن الفيلا الزجاجية شديدة التحصين لم تعد آمنة بما يكفي لضمان مستقبلهم هنا، وأن الفلسطيني صاحب الحق أصبح أكثر بأسًا وقوة وإرادة، والأهم أن فكرة إمكانية هزيمتهم غدت وعيًا راسخًا ورائجًا لدى معظم الفلسطينيين.
سرايا القدس أدارت معركتها الثأرية بكل حنكة واقتدار، فمنذ ساعات صمتها الطويلة التي ربما كانت فيها تحيّن فرصة صيد ثمين لم يتحقق؛ عاش الاحتلال فيه ساعات طويلة من رعب الانتظار والاستنفار وشلل الحياة، حتى قبل أن يُطلق الصاروخ الأول، لدرجة تحول فيها الصمت المشحون بالتهديد والوعيد الانتقامي إلى حالة من القلق الشديد وشد الأعصاب لدى الاحتلال، الذي لم يُطق له صبرًا، فبادر إلى المزيد من العدوان لاستفزاز السرايا ببدء معركة الرد.
وقد فاجأت السرايا الاحتلال بقصف تل أبيب وتوقيت قصفها، فجاء قصفها بعد ساعة من إبلاغ الصحفيين الأجانب بتقديرات الأمن أن تل أبيب لن تقصف، وفاجأتهم بالتحكم بإدارة المعركة “أين تقصف؟ ومتى؟” وبمدى الكثافة، وكان الصاروخ الذي ضرب المبنى السكني في “رحوفوت” وأوقع قتيلًا وعددًا من الجرحى رسالة ردع وإرهاب.
وعلى طاولة المفاوضات، لم تبدِ حركة الجهاد استعجالًا في إنهاء المعركة، بل إنها طالبت بشروط لإنهاء المعركة، شروط تعيد التأكيد على تثبيت قواعد الاشتباك وأهمها وقف الاغتيالات، واعتمدت في مفاوضاتها على قدرة التفاوض الصاروخي، ورغم تمسك الاحتلال برفض كافة الشروط؛ إلا أن الاقتراح المصري الذي قبل بهِ الاحتلال حقق أحد أهم شروط حركة الجهاد، ولكن بمفردات غير مباشرة، فعبارة “وقف استهداف الأفراد” بعد جملة التوقف عن استهداف المدنيين وهدم المنازل، تعني وقف الاغتيالات، فوقف استهداف الأفراد ليس تكرارًا عبثيًا لوقف استهداف المدنيين، بل هي تميّز هنا الأفراد عن المدنيين، ويبدو أنها تقصد وقف استهداف نشطاء المقاومة، وهي صيغة مغسولة وغير مباشرة أتاحت لنتنياهو أن يقبلها دون أن يظهر أنه قدم تنازلًا كبيرًا.
إصرار حركة الجهاد على اشتراط وقف الاغتيال هو اشتراط لإنجاز معنوي، لأنه لا توجد ضمانات أبدًا بأن تلتزم إسرائيل بما تتفق عليه، وأن الضمانة الأكيدة دومًا هي قدرة ردع المقاومة، وهي ما أثبتته وأكدته دومًا في الميدان، فلولا قدرات المقاومة الردعية لشاهدنا إسرائيل تنفذ اغتيالات يومية في صفوف المقاومة في القطاع، بسبب وبلا سبب، مثلما تقوم به في الضفة، لكنها أمام المقاومة في القطاع تحسب ألف حساب، وعندما تقوم بعدوان ما على القطاع يكون ضمن خطة مدروسة ومنسقة من أعلى المستويات.
بقاء حركة حماس بما تمتلكه من إمكانيات خارج المشاركة الفعلية العسكرية في عملية “ثأر الأحرار” شكّل مصلحة فلسطينية، وفي ذات الوقت مصلحة لنتنياهو، ففلسطينيًا كان لعدم مشاركة حماس أنها قيدت يد العدوان، حيث كان بنك أهدافه محدودًا، وهذا منح الجبهة الداخلية نوعًا من الطمأنينة والقدرة على الصمود، فها هي السرايا تدك إسرائيل وتشاغلها وتستنزفها وتشل حياتها دون أن تتكلف حاضنة المقاومة تكلفة عالية، أي إننا بأقل ثمن ردعنا الاحتلال وثأرنا لشهدائنا، وهي معادلة رابحة فلسطينيًا.
أما إسرائيليًا فاعتبروا ذلك – ولسبب غريب – بأنه إنجاز، الإنجاز بالنسبة لهم أن بإمكانهم الاستفراد بحركة الجهاد وتحييد حركة حماس، وهم يغفلون أو يتغافلون عن حقيقة مهمة؛ أنه لم يعد بوسعهم تحميل حركة حماس المسؤولية عن أيّ أعمال تنطلق من الأراضي التي تسيطر عليها، كما كان يحدث سابقًا، كقصف مقدرات الحركة أو إغلاق المعابر، ردًا على ما تعتبره اختراقًا للتهدئة تقوم بهِ بعض الفصائل، وبذلك وكأن الاحتلال حرر حماس من مثل هذه المسؤولية.
للمرة الثالثة تقريبًا، تقوم إسرائيل باستهداف حركة الجهاد وحدها، عندما اغتالت الشهيد بهاء أبو العطا، وفي معركة “وحدة الساحات” في آب الماضي، وفي معركة “ثأر الأحرار”، وربما يعكس ذلك حالة من الردع الذاتي الإسرائيلي من مواجهة المقاومة الفلسطينية مجتمعة، وهو يؤشر على أن معظم هذه العمليات العدوانية ليس هدفها خدمة الردع، بل هي عمليات محدودة توقيتًا وأهدافًا، ودوافعها الرئيسية هي دوافع داخلية؛ رغبة الحزب الحاكم في ترميم صورته وفي رفع أسهمه.
وإذا ما عُدنا للأسباب والدوافع الحقيقية للعدوان الإسرائيلي الذي استهدف قيادة السرايا تحت اسم “الدرع والسهم”، فإنها لا تتعلق بما يسمى استعادة مفهوم الردع – رغم إعلانه كهدف رئيسي للعملية – بقدر ما تتعلق باستعادة نتنياهو لمكانة وترميم الكثير من التآكل في مكانته، باعتباره لم يعد قادرًا على إدارة دفة حكومته التي باتت مخطوفة من قِبل اليمين الفاشي، حيث تراجعت مكانة نتنياهو كثيرًا في استطلاعات الرأي، والكثير من الغضب الشعبي عليه وعلى إدارته للحكومة ظهر في الاحتجاجات ضد خطة الإصلاحات القضائية، ولاحظ جميع المراقبين كيف أن بن غفير وسموتريتش يبتزانه ويسيطران على أجندة الحكومة، هذا فضلًا عن التململ بين مستوطني الغلاف وشعورهم بفقدان الأمن بعد تنقيط الصواريخ.
نتنياهو أراد، عبر عملية الاغتيال المركزة، أن تتم عملية سريعة يقطف من خلالها ثمار صيد ثمين يعزز من خلاله مكانته كـ “سيد الأمن” الذي يعود مجددًا لإدارة الحكومة بعد أظهر لبن غفير باب الخروج من الحكومة إن أراد، وكأنه يقوم بالعملية متحررًا بعد أن أعاد غالنت إلى الحكومة وأوقف الإصلاحات القضائية متحديًا لفين – ولو مؤقتًا – دون أن يدفع ثمنًا كبيرًا. وبالفعل، فقد حظي نتنياهو في أعقاب العلمية العدوانية برضى شعبي كبير رمم من خلاله مكانته، حتى إن المعارضة أيدت العملية ووصفتها بالناجحة، أي إن نتنياهو أرادها عملية محدودة لأغراض سياسية داخلية، وها هو ليس فقط يوقف تراجعه في استطلاعات الرأي؛ بل ويتقدم مكتسبًا المزيد من القوة والدعم.
ولكن الصورة الكبرى، بينما يكسب نتنياهو تكتيكيًا؛ فإن إسرائيل تخسر على المستوى الاستراتيجي، تخسر من قدرتها على الردع، وتخسر بعدم قدرتها على توفير الأمن، وتخسر بخوفها المتعمق، الذي يزيد دومًا من قدرتها على تحدي فصائل المقاومة، وتخسر بالتنامي المتزايد في وعي الفلسطينيين بقدرتهم على هزيمة العدوان وردعه.
أطلس للدراسات
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.