قراءة في كتاب “الشرخ – من مار مارون إلى الفراغ”

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

المؤلف: أنطوان فرنسيس
العنوان: الشرخ – من مار مارون إلى الفراغ
بيروت، الطبعة الأولى، 216
الناشر: دار أبعاد للطباعة والنشر والتوزيع
قراءة: شوكت اشتي

الكتاب، موضوع المراجعة، ليس تأريخًا، أو “كتاب تاريخ”، بقدر ما هو “قراءة عصرية”، لتاريخ الطائفة المارونية، من منظار سياسي، اجتماعي، جغرافي، ديني، ممّا يدفع للتساؤل: هل يمكن اعتبار الكتاب بحثًا في “الماضي”، لرسم صورة المستقبل، بكلّ ما يمكن أن يتضمنه هذا المسار من مطبات، وعقبات، وإشكالات في خضم الانقسام داخل هذه الجماعة، موضوع الدراسة، أو في إطار الانقسام المجتمعي السائد في البلد؟ هل يمكن اعتبار هذا الكتاب، مراجعة “نقدية”، لتاريخ هذه الجماعة؟ أم هو محاولة لتوضيح طبيعة “الشرخ” الضارب فيها، وتبيان مخاطره على وجودها؟ أم محاولة لتجاوز هذا “الشرخ”، وإعادة الُلحمة إلى مكونات الجماعة، وتفعيل عملية التفاعل بين عناصرها؟ هل يفتح هذا الكتاب آفاق التلاقي بين الجماعات اللبنانية؟ أم هو أسير “منطق” الجماعة التي يكتب تاريخها؟

إن ما يُثيره الكتاب قد يكون متعدد الأبعاد، وليس من السهولة حصره ببُعد محدّد. خاصة وإن كتابة التاريخ الخاص بهذه الجماعة أو تلك، أو التاريخ المتعلّق بالبلد ككل، هو أقرب لأن يكون نوعًا من المغامرة الخطيرة، التي لا تصل إلى نتيجة، وهذا ما أكدته الأيام. لذلك لا زال البلد، حتّى اللحظة، غير متوافق على كتابة تاريخه، لنقله إلى الأجيال الطالعة، ممّا يجعل كلّ جماعة متحصنة بتاريخها الخاص، ومُعظّمة لهذا التاريخ، هذا إذا استطاعت التوافق عليه. وفي الأحوال كافة، إننا أمام تحدٍّ، قد يبدو غير “طبيعي”، الأمر الذي يزيد العقبات أمام المراجعة.

التباس العنوان
يبدو العنوان للوهلة الأولى واضحًا جدًا، ومُحددًا بدقة، يشد القارئ، ويلفت الانتباه. غير أن متابعة النص، لا تُبيّن هذا الوضوح، أو تُحدد دقته. لأن مفهوم “الشرخ” يبدو غير واضح من جهة، ويتداخل مع غيره من المفاهيم من جهة ثانية، ومحكومًا بالتجريد في نظرته للجماعة المارونية، موضوع الكتاب، من جهة ثالثة.

صحيح أن الكتاب نجح في تحديد معنى الشرخ الطبيعي/الجيولوجي، لكنّه لم يوضّح معنى الشرخ البشري، موضوع الكتاب، الأمر الذي جعله يدمج بين الشرخ والانقسام، ويُطبق “قوانين” الطبيعة على الجماعة البشرية، ومساراتها السياسية. فهل ما ينطبق على الطبيعة/الجيولوجيا، يمتد إلى الجماعة البشرية؟

يوضّح المؤلف أن الشرخ الجيولوجي “انشطار خطير في باطن الأرض”، تسببه العوامل الطبيعية، فيستحيل التحام انشطاراته، الأمر الذي يؤدي إلى “أفظع الكوارث البشرية لأنه مصدر زلازل”. لذلك، فإن “كل جماعة تعيش على حدود الشرخ مُهَدّدة بالانقراض”.

في هذا الفضاء “الانشراخي”، عاشت الجماعة المارونية، على امتداد تاريخها على جانبي “شرخ سياسي رافق وجودها وترحالها”، وكانت أسبابه عوامل سياسية، جاءت مكوناتها من الخارج. والأزمة أن “الذهنية المارونية”، لم تتغير، سواء لجهة محافظتها على “روحيّة الانقسام”، أو لجهة أنها عاشت “انشطارها بلذة”. وإذا كان “الشرخ الجيولوجي” غير قابل للالتحام، فإن “الشرخ البشري يلتحم”، لتبدأ عهود جديدة.

بناء على ما قدمه النص، فإن الشرخ الطبيعي/الجيولوجي، هو غير الانقسام المجتمعي، أو ما يسميه الكتاب، “الشرخ البشري”. الأول/الجيولوجي، لا يلتئم، ولا يلتحم، الثاني/البشري، على العكس، يلتئم، ويلتحم.
لذلك فإن الكتاب، عمليًا، يتابع الانقسام في الجماعة المارونية، التي تبدو، مجازًا، في بعض الأوقات، وكأنها تعيش الـ”شرخ” الطبيعي/الجيولوجي، الذي يمكن أن يُهدّد وجودها. لكن النص لم يستطع تعميق فكرة “الشرخ البشري”، ممّا أبقى الفكرة مُرتبكة، ومشوشة.

إن الكتاب، موضوع المراجعة، يحصر أسباب الانقسام بالعوامل السياسية فقط. وهذا غير دقيق. لماذا؟ لأن للانقسام البشري/المجتمعي أسبابه الاجتماعية، والمالية، والاقتصادية، والثقافية، والجنسية (ذكر، أنثى)، والإثنية… إضافة لذلك، فإن الانقسام رافق الوجود البشري، لذلك لا تعود أسبابه إلى الخارج فقط، كما يُشير الكتاب، وتركيز الكتاب، منذ البداية على الخارج، يحمل أكثر من وجه، الأول، لإبعاد العوامل الذاتية/الخاصة بالجماعة ومكوناتها المُسببة للانقسام. الثاني، لتبيان أن العوامل الخارجية فقط، هي السبب لما وصلت إليه الجماعة المارونية. الثالث، لتبرئة “الذات”/ “ذات الجماعة” من النتائج المؤلمة التي توصل إليها الكتاب، بحق الموارنة في لبنان. الرابع، التركيز على فكرة المؤامرة، ووجودها الدائم، والمستمر التي تستهدف الجماعة المارونية، سواء في الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل، وهذا يظهر كثيرًا في متن الكتاب، موضوع المراجعة.

هذا الخلط بين مفهوم الشرخ، ومفهوم الانقسام، في الكتاب، ترك، على الأقل، سلبيتين على قدر كبير من الأهمية: الأولى إلغاء فكرة التنوع، والاختلاف، والتعدد، والتمايز،… داخل الجماعة، أي جماعة. والثانية، النظرة المجردة، والمثالية، والإطلاقية، والمُتخيلة… تجاه الجماعة المارونية. لذلك يستبطن الكتاب، موضوع المراجعة، فكرة أن الجماعة المارونية، يُفترض، وعليها، وواجبها،… أن تنصهر، بما تعنيه كلمة الانصهار من دمج كامل، وشامل، وتام، لكل عناصرها، لتشكّل وحدة واحدة، لا انفصام فيها، فتبقى، دومًا، يدًا واحدة، وقلبًا واحدًا، وتصورًا واحدًا، ورأيًا واحدًا، وتوجهًا واحدا، وموقفًا واحدا… بكلّ ما يحمله هذا التوجّه من تعصب، وجمود. وهذا التوجّه يبرز في سياق المراجعة، وفي أكثر من موقع.

من هنا، يطرح الكتاب ضرورة معرفة الماضي، وقراءة أحداث التاريخ، وتحليلها، والاعتراف بالحقيقة كما هي، لبناء “المستقبل السليم”. لكن هل يمكن في هذا الفضاء المرتبك الوصول إلى هذا الهدف؟

خصيصة الكتاب
يتصف الكتاب، موضوع المراجعة، بعدد من الخصائص التي يمكن إدراج أبرزها على النحو الآتي:

  • الغِنى بالمعطيات، والأحداث، والتفاصيل، والأسماء، والتواريخ، والمراجع…، وإبراز التعارضات في العديد من المواقف والآراء، وهذا لا يُلغي سلاسة العرض، ودقته.
  • السعي لتأكيد نزعة الجماعة المارونية، وميلها الدائم، ورغبتها المستمرة، لتحقيق أمرين، على الأقل، الاستقلال من جهة، وحرية القرار من جهة أخرى. غير أن هذا الاتّجاه الجدير بالتقدير، يمكن تعميمه، بأشكال مختلفة، على غيرها من الجماعات اللبنانية الأخرى. أي أن هذه الخصيصة، غير محصورة بالجماعة المارونية فقط. وهذه النزعة تفتح مجالات النقاش على مداها الأوسع، سواء لجهة معنى “الاستقلالية”، و”حرية القرار”، في مجتمع طوائفي بامتياز، أو لجهة مدى الدقة والموضوعية، في هذه الرؤية. فهل هذه رغبة ذاتوية؟ أم هي واقع موضوعي؟ مبرر هذه التساؤلات يعود إلى أن الجماعات اللبناني، كافة، كانت، ولا زالت، محكومة بعلاقات خارجية، “قوية”، و”متينة”، و”ثابتة”…، الأمر الذي جعل “الخارج” من مكونات الداخل، ومحركاته.
  • الجهد الواضح لإبراز خطورة الشرخ على الجماعة المارونية، وعلى تفاصيل حياتها، وعلاقاتها، ووجودها. لذلك يستبطن النص، الرغبة الملحّة لتحقيق “وحدة الجماعة المارونية”، لتأمين استمرارية الوجود الماروني الفاعل في الداخل اللبناني. غير أن هذه الرغبة “الوجودية”، والحضور الفاعل، ينطبقان على الجماعات الطائفية اللبنانية الأخرى، دون استثناء، في المجتمع الطوائفي. وبالتالي، لا تنحصر في طائفة دون أخرى لأن هذه الرغبة تبدو ضرورية لتأمين التوازن، أو الرجحان في “لعبة” المعادلات الداخلية.

لكن الأزمة في هذه النظرة/الرؤية الذاتوية، والخاصة، تكاد تُلغي التنوع، داخل الجماعة الطائفية الواحدة من جهة، وتُبقي الآخر محكومًا بنظرة سلبية، إذا لم نقل بأنه “مُهدّد للوطن، وجماعاته، فهو مرذول” من جهة أخرى. إضافة لذلك فإن هذه النظرة “الذاتوية”، لا تفصل بين الإيمان/العقيدة الدينية، والعمل السياسي وشروطه من جهة ثالثة، وتجعل فكرة الدولة مُغيبّة، وطبيعة السلطة مسكونة بالانتماءات الأولية من جهة رابعة.

لذلك يمكن اعتبار الدعوة الوحدوية، التي تُطلقها هذه الجماعات، نرجسية، تتسم بـ”الطهارة”، و”البراءة”، و”التذاكي” السياسي. وهذا ما يمكن تلمسه، في أكثر من موقع في متن الكتاب، موضوع المراجعة، حيث يُشير، إلى أن الموارنة وقعوا، باستمرار “ضحية التقلبات السياسية”، على مدار تاريخهم الطويل، ممّا جعلهم يدفعون ثمن الصراع بين مراكز القوى، في المراحل المتعاقبة. لهذا فشلوا، كجماعة، في أن يكونوا “قوة عسكرية فاعلة”، أو “قوة سياسية ضاغطة”. لذلك كانوا ينقسمون عند كلّ مفترق تاريخي، الأمر الذي جعلهم يفتقدون “البدر الماروني المنير”. لكن كيف يمكن في مثل هذه التصورات تحقيق خطابات الوحدة الوطنية في لبنان؟

وفي الحالات كافة، فإن ما يطرحه الكتاب، يفتح أمام اللبنانيين، بكلّ جماعاتهم الدينية والسياسية، وأمام الأفراد من اللبنانيين، مجالات للمراجعة، والتفكير في الواقع، والتساؤل عن المستقبل وآفاقه.

بدايات الشرخ
بدأ الشرخ مباشرة، لحظة وفاة الناسك مارون. اختار هذا الناسك حياة التوحّد في البرية، وعاش حياته كلها، داعيًا إلى الزهد، والصلاة، والترفع عن كلّ ما هو دنيوي، وأنعم الله عليه بموهبة شفاء المرضى، وحصلت على يديه الكثير من المعجزات، فكان يشفي الأجساد السقيمة، والنفوس العليلة. توفي، مبدئيًا، عام 410، في إثر مرض ألم به، لفترة قصيرة.

في لحظة الوفاة، حصل “نزاع عظيم” بين أهالي القرى المحيطة بموقع تَنسّكه، على قمة “قلعة كالوتا”، التي تبعد 30 كلم، عن مدينة حلب. سبب النزاع كان حول أحقية كلّ مجموعة منهم بدفن الجثمان في أرضها.
ورغم أن الأسقف المؤرخ ثيودوريتس، أعاد الخلاف بين أبناء هذه القرى لحظة التشيع، لدوافع الإيمان، ورغبة كلّ قرية بالاحتفاظ بالجسد، “الكنز الثمين”، لكنه، وربما عن غير قصد، نقل إلينا “حقيقة نافرة وغريبة، ولا تقبل أي تأويل”. لماذا؟ لأن الحادثة أثارت تساؤلات، حول أبعاد ما جرى، ومبرره. فكيف يمكن حصول هذا الشرخ العنفي، يوم وفاة “جامعها”، وقبل أن تتكوّن “الجماعة المارونية”، كتنظيم كنسي بزمن طويل؟ هل حقيقة الشرخ الذي حصل لحظة الوفاة، يعود إلى أسباب معنوية فقط؟ أم كان يهدف إلى تحقيق منفعة مادية في الوقت عينه؟
صحيح أن مدفن الناسك تحول إلى محجّة، لكن الحج لمدفنه لا يمكن، في الأحوال كافة، تجريده من بُعده المادي. لذلك برز في الجنازة خطّان متوازيان يتناقضان مع سيرة القديس في التقشف، والدعوة للزهد، والتسامح، والعدالة، و”إصلاح شواذ السلوك”: الخط الأول، العنف الذي وقع بين المشيّعين. الخط الثاني، المنفعة التي جناها من ظفروا بـ”الكنز الثمين، بقوة الغلبة.

من هنا يعتبر المؤلف، أن هذين الخطين تسببا بشرخ ماروني عميق، ظهرت ملامحه الأولى في الجنازة، غير أنه أخذ يتسع، ويتكرّر، ويتجدّد عند كلّ “تحول تاريخي”، وعند “تبدل الدول لم يتعلّم الماروني كيف يحمي رأسه. اشرأب بعنقه عاليًا دافعًا أثمانًا باهظة لصراعاته الداخلية”. وهذه الوضعية تُعيد نفسها، فمنذ العام 410، وحتّى العام 1989، يُعيد التاريخ نفسه، وتأتي المصيبة الجديدة أكبر من سابقتها.

أفكار للنقاش
استنادًا إلى ما توصل إليه المؤلف، يمكن القول، إن هذه النظرة لمسار التاريخ الماروني، وهو سائد، مبدئيًا، عند غيرها من الجماعات اللبنانية الأخرى، سواء في صراعاتها الداخلية، أو في صراعها مع غيرها من الجماعات، يتصمن، من حيث المبدأ، مسألتين:

المسألة الأولى، هذه النظرة، لمسار التاريخ الماروني، تتضمن تعميمًا وتبسيطًا، ونوعًا من التجاهل لطبيعة الجماعات الإنسانية وعلاقاتها… لذلك ينظر إلى الطائفة – الجماعة، على أنها هي المنطلق والأساس، ووحدتها هي الهدف والمآل، ويُلغي فكرة التنوع، والتعارض والتناقض داخل الجماعة، أية جماعة. وبالتالي، هذه النظرة، التي ترجع إلى عمق التاريخ، لتصل إلى العام 1989 (لحظة توقف الاقتتال اللبناني اللبناني، والاتفاق على وثيقة الوفاق الوطني في اتفاق الطائف)، تحمل، بطريقة أو بأخرى، بذور لاستمرارية الطوائفية السياسية في لبنان، وتُجيّر الدين لخدمة السياسة، وتُعلي شأن الطائفة/الجماعة الطائفية على حساب الوطن ومكوناته…

المسألة الثانية، هذه النظرة لمسار التاريخ الماروني، تتضمن تضخيمًا وتوهمًا، لموقع الطوائف ودورها في “لعبة الأمم”، أو عند “تبدل الدول”. وهي، مبدئيًا، سائدة أيضًا عند الطوائف والجماعات اللبنانية الأخرى. بمعنى آخر تتوهم كلّ جماعة – طائفة في لبنان، أنها “محور الكون”، ومرتكز العالم ومحوره. وبالتالي، كلّ ما يجري، في لبنان، يستهدفها، ويتربص بها شرًّا، متناسية طبيعة العلاقة/العلاقات الخارجية، التي نسجتها هذه الجماعات مع الخارج، وكيف تحول الخارج إلى داخل، بكلّ ما يمكن أن يحمله هذا التحول من تداعيات خطيرة، سواء على الوطن، أو على كلّ جماعاته. من هنا تُضّخم دورها، وتُعلي من شأنها، وفي الحالات كافة، الأزمة في بلدنا، أن جماعاته، من حيث المبدأ، غير قادرة على تحديد موقعها الفعلي ودورها بدقة، لدرجة تبدو، وكأنها أكبر من الوطن.

الشرخ الكبير
يُشير المؤلف، إلى أن “الشرخ الكبير” الذي ضرب كنيسة إنطاكية، حصل العام 450، أي بعد أربعين سنة من وفاة مار مارون، الذي لا زال قائمًا حتّى اليوم. وهو نتيجة لمقررات “المجمع الخلقيدوني”، الذي دعا إليه الإمبراطور البيزنطي مارسيان، عام 451، وشارك فيه (343) أُسقُفًا، وبطريركًا من كنائس الشرق. من أبرز مقرراته، القول: بأن للسيد المسيح طبيعتين مُتحّدتين: واحدة إلهية، والثانية إنسانية.

هذا القرار، نقض لكل من “البدعة النسطورية” المؤمنة بطبيعتين، ومشيئتين للمسيح، وما قبلها العقيدة القائلة بـ”الطبيعة الواحدة”، والمعروفين باسم “المونوفيزيين”. وقد أنتج هذا الخلاف العديد من المجازر، والاضطرابات…
وقعت أولى المجازر التي تعرض لها رهبان مار مارون، لتمسكهم بإيمانهم الخلقيدوني، العام 517، حيث تمكّن البطريرك ساويروس من إقناع الإمبراطور البيزنطي بالعودة عن مقررات المجمع الخلقيدوني، مما عرّض رهبان مار مارون إلى الاضطهاد والملاحقة والقتل والتنكيل. من هنا وجهوا سبع رسائل/عرائض، إلى البابا هرمزدا، وأساقفة سورية، والإسكندرية، ومجمع القسطنطينية. وفي رسالتهم إلى أساقفة سورية، اتهام مباشر للبطريرك ساويروس بالتعامل مع اليهود.

ومن اللافت للنظر، أن البطريرك ساويروس، الذي يعتبره رهبان مار مارون “مجرمًا”، و”هرطوقيًا”، هو قديس في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وأحد كبار علماء اللاهوت.

التأسيس والاستقرار
يستعرض الكتاب مسار تأسيس الطائفة المارونية، واستقرارها في لبنان، من خلال سرد تاريخي، معتمدًا على العديد من المراجع، وعارضًا للآراء المتعارضة في هذا المسار، محاولًا الوصول إلى خُلاصات، أو نتائج محدّدة.

  • على مستوى التأسيس، يمكن الإشارة إلى أن “الجماعة” المارونية، برأي المؤلف، كانت موجودة كـ”حالة رهبانية” فقط، في القرنين الخامس، ومنتصف القرن السابع. لكنّها لم تكن موجودة كحالة “شعبية منتظمة كنسيًا”. وبالتالي، فإن تسمية “جماعة مارون”، أو “الموارنة”، أخذت بُعدها السوسيولوجي – الديني – الرعوي المنظم، بعد انتقال البطريرك مار يوحنا مارون، مع “جماعته” من سورية إلى جبل لبنان، هربًا من الاضطهاد البيزنطي عام 685، والبطريرك مار يوحنا مارون، الذي يُطلق عليه الكتاب موضوع المراجعة، اسم “المارد الأول”، كان رئيسًا لدير طبير على نهر العاصي، ومُخلصًا لروما، وانتخب بطريركًا لإنطاكية بعد مجمع القسطنطينية السادس العام 680، وليس بطريركًا للموارنة، لأن الموارنة لم يكونوا موجودين بهذا الاسم، كحالة رعوية، في هذا التاريخ.
    من هنا يعتبر الكتاب أن البطريرك مار يوحنا مارون، استنادًا إلى بعض المراجع، “هو مؤسس الطائفة المارونية وليس القديس مارون الناسك”.
  • على مستوى الاستقرار، يمكن الإشارة إلى أن المسيحية عُرفت في لبنان، منذ بداية انتشارها في فلسطين وسورية. كما أن المارونية كانت أيضًا في جبل لبنان، كحالة إيمانية، عقائدية. وعليه، ما هي العوامل التي ساهمت في تشكيل الجماعة، كـ”طائفة مستقلة”؟.

بعد المجمع السادس في القسطنطينية العام 680، والذي نقض العقيدة “الخلقيدونية”، المتعلّقة بطبيعة المسيح، وأكد على “الطبيعتين والمشيئتن”، حصل شرخ عقائدي جديد في الكنيسة، وولّد حالات من الاضطهاد لمن التزم بهذا التحول، ممّا أدى، إلى جانب عوامل سياسية، إلى هجرة جماعية قام بها البطريرك يوحنا مارون، من سورية إلى لبنان، رافقه فيها جماعات مسيحية كثيرة من الرهبان و”العلمانيين”، بلغ عددهم نحو اثني عشر ألف مسيحي.
من خلال هذه الهجرة، بدأت تتكون “الجماعة المارونية”، وتنتظم في كنيسة مستقلة، وأخذ البطريرك يوحنا مارون لقب “البطريرك الماروني”، بعد فترة زمنية من استقرارهم في لبنان. وقد لعب “المقدم إبراهيم”، ابن شقيقة البطريرك يوحنا مارون، دورًا أساسيًا في مسار هذه الهجرة، وترسيخ دعائم الإيمان وحماية المؤمنين.

ملاحظات أولية
استنادًا إلى ما ورد في الكتاب، موضوع المراجعة، يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات الأولية، التي تفتح آفاقًا للنقاش فيها، وحولها، ولعل من أبرزها الآتي:

  • إن الجذور الأساسية لما عُرف بـ”الجماعة المارونية”، تبدو سورية. أي أن “الهجرات” المسيحية بغالبيتها، انتقلت، من حيث المبدأ، من سورية إلى لبنان، الأمر الذي يُفترض نظريًا، على الأقل، مراعاة “مستلزمات” “القرابة”، إذا جاز التعبير، مع هذه الأصول/الجذور. خاصة لجهة أن “انتماءهم مشرقي، وجذورهم عربية عريقة”. غير أن قراءة المسار التاريخي للجماعة عامة، وللخطاب السياسي خاصة، يُبيّن أن هذا الجذر/الأصل، غير مرغوب عند أغلبية أهل الجماعة من جهة، ويولد أزمة عند بعض الموارنة، وغالبية كتلها السياسية من جهة أخرى.
  • إن تلازم السياسي والديني، عند الموارنة، “كما عند غيرهم” من حيث المبدأ، منذ لحظة التكوين، سبب، في مراحل مختلفة، خلافات بين البطريرك الماروني، وزعماء الموارنة السياسيين، ووسّع الشرخ بينهم، وجلب الويلات إلى طائفتهم، وعلى المسيحيين، كما ورد في متن الكتاب، موضوع المراجعة. هذه الوضعية تدفع للتساؤل: ما هي مبررات هذا التلازم بين الديني والسياسي؟ هل الأزمة في تدخل البطريرك في السياسة، أم في طمع السياسيين وتدخلاتهم؟ هل النزاع على السلطة أجج الخلافات بين البطريرك، والسياسيين؟ ما هي فوائد هذا التلازم (الديني/السياسي)، سواء على مستوى الطائفة، التي ذاقت مختلف أشكال الخلافات نتيجة لهذا التلازم، أو على المستوى الوطني العام، وفكرة بناء الدولة “المدنية”؟
  • تندمج هذه الملاحظة مع سابقتها، مبدئيًا، بل قد توضّحها، وتعمق الأسئلة حولها، وبالتحديد لجهة ما أشار إليه الآباتي بولس نعمان، في أن “المارونية أمّة استطاعت أن تكون في الوقت نفسه ديانة ودولة، من غير أن تُدوّل الدين وتُديّن الدولة..”. يبدو هذا الموقف، الذي أورده المؤلف، موقفًا إيديولوجيًّا، عقائديًا، سياسيًا بامتياز. لماذا؟ أولًا، لأنه أقرب لشعار سياسي تعبوي. ثانيًا، لأن معالم هذه المقولة غير واضحة، وأُسسها العملانية غير مُحدّدة. ثالثًا، صحيح أن الدولة في لبنان، لم “تُديّن”، كونها مدنية وغير دينية، لكن الدين في لبنان، بالمعنى السياسي والطائفي والمصلحي، وتقاسم المواقع، وتوزيع الحصص، هو ركيزة الدولة ومرتكزها. لذلك فإن هذا التذاكي اللغوي، لا يُلغي الواقع الطوائفي وتعصباته “الدينية” في الدولة اللبنانية، ولا يُلغي تأثير الدين ورجالاته على الدولة وسياساتها. بل يمكن القول، إن هذه المقولة أقرب للتعامي عن الواقع، وتدعيم له، الأمر الذي يجعل هذه المقولة موضعًا للنقاش من جهة، ومحاولة تبرئة “ذات الجماعة” من طائفيتها، ودورها في ترسيخ الطائفية.
  • إن الخلاف حول بعض المحطات التاريخية في مسار الطائفة المارونية، التي يُثيرها الكتاب، موضوع المراجعة، قد يكون متماثلًا مع غيرها من الجماعات الطائفية الأخرى في لبنان. أي أن العديد من الخلافات، سواء داخل الجماعة الواحدة، أو خلافاتها مع غيرها من الجماعات، يبدو جدلًا بيزنطيًا، ومن الماضي. لذلك التساؤلات يمكن أن تُثار حول مدى استفادة الوطن و”جماعاته”، من عِبر الماضي، ودروسه في معالجة الخلافات الانشراخية بينها. ما هو دور الأجيال الطالعة في توسيع مساحات التلاقي بين مكونات الجماعة الواحدة، أو بين أطراف الجماعات المتصارعة فيما بينها؟ هل “ارتقينا” في لبنان، إلى مستوى التفاعل الإيجابي، والحوار المُثمر، والتسامح الفعلي؟ إنه التحدّي أمامنا جميعًا دون أي استثناء. من هنا فالأزمة في بعض ما أورده الكتاب، أنه يدور حول الانشراخات دون أن يفتح آفاقًا للتلاقي. لذلك تبدو التجربة اللبنانية غير مشجعة، في ألطف توصيف، ممّا يجعل هذه التساؤلات، وغيرها، حاضرة بقوة في الحياة اللبنانية، وتتطلب جهدًا كبيرًا، لإنجازها.
  • إن من بديهيات الانتماء الوطني، التشبث بالأرض، والاعتزاز بها، والدفاع عنها… وهذا واضح جدًا في توضيح الكتاب لعلاقة الموارنة بلبنان. غير أن النص الذي نراجعه، يجعل من الموارنة هم “أصل” الوطن”، لدرجة تبدو الجماعات اللبنانية/الطائفة الأخرى دون هذا المستوى. وهذه الملاحظة لا تُشكّك، أو تُقلًل، أو تُهمّش،… من علاقة الموارنة بالوطن. لكن هذه المبالغة الذاتوية قد تُصيب، وإن عن غير قصد، الجماعات الطائفية الأخرى في الوطن الواحد، فتبدو الجماعات “غير المارونية”، وكأنها أقل لبنانية. وهذا ما يتضمنه الكتاب، في العديد من المحطات.

والأزمة الكبرى أن هذا الاتّجاه، الذاتوي والمُغالي في نظرته لموقعه، ودوره في قيام الكيان اللبناني، لا زال سائدًا في الحياة السياسية اللبنانية، ممّا يجعله مُحركًا للنزاعات، والصراعات الداخلية. وقد تدفع هذه المغالاة “اللبنانية المارونية”، البعض لتجاوز المنطق، وحقائق التاريخ ومعطياته. فالأب يوسف يمين يعتبر أن السيد المسيح “اجترح معجزته الأولى في بلدة قانا اللبنانية، وليس في قانا الجليل”، وذهب أبعد من ذلك طارحًا نظرية أن سيدنا يسوع المسيح “ولد في لبنان وليس في فلسطين”.

  • إن مختلف الجماعات الطائفية في لبنان، وإن بنسب متفاوتة، تعتقد أنها مركز العالم، ومحط أنظاره. من هنا، على سبيل المثال، يُشير الكتاب، موضوع المراجعة، إلى أن الموارنة كانوا دائمًا ضحية الصراع الدولي. غير أن هذه الرؤية، في إطار النزاعات الداخلية، يمكن تعميمها، بشكل، أو بآخر، على جميع الجماعات الطائفية في لبنان، بحيث تعتبر كلّ جماعة أنها “ضحية الصراع الدولي” من جهة، وتُهمش أسباب الصراعات الدولية التي قد تكون هذه الجماعات وقودًا لها، وليست “ضحية لها” من جهة ثانية، وتُلغي علاقة هذه الجماعات، على خلافاتها، واختلافاتها، مع الخارج، الذي أصبح جزءًا من الداخل من جهة ثالثة. من هنا، فالمأزق ليس في نظرة هذه الجماعات لذاتها المستهدفة، فقط، بل في أن هذه النظرة لا تزال قائمة وبقوة، بكلّ مضامينها وتداعياتها السلبية.

الموارنة في الصراع الإقليمي
نقلًا عن المؤرخ “غيوم الصوري”، سارت الجيوش الأوروبية من الغرب الأوروبي، إلى الشرق الآسيوي “خلف راية الصليب: رافعة شعار تحرير القدس من أيدي المسلمين، تلبية لنداء بطرس الناسك: “الله يريد ذلك””.

وعندما بلغ الصليبيون نواحي طرابلس في القرن الثاني عشر، توافد قسم من الموارنة، من الجبال لاستقبالهم، وإرشادهم إلى “المسالك السهلة للسفر إلى أورشليم”، والترحيب بهم بـ”اسم الأخوة في الدين”. بالمقابل رفض فريق آخر من الموارنة التعاون مع الصليبيين. ففي حين انخرط، مثلًا، “المردة” في صفوفهم، ورافقوهم إلى القدس، آثر سكان جبال بشري التعاون مع المماليك ضدّ الصليبيين. وهذا ما سيوسع الشرخ بين أهالي إهدن وبشري، كما يشرحه الكتاب، بالتفصيل.

من هنا يمكن القول إن مجيء الصليبيين، أوجد الشرخ السياسي الأول بين الموارنة، وكان لهذا تبعاته القاسية، إذ دفع الموارنة “ضريبة الدم والاضطهاد والتشرد”، سواء بقدوم الصليبيين، أو بعد خروجهم مهزومين. وعليه، وقعت أول مجزرة ضدّ الموارنة في بشري على يد الصليبيين، وتبعتها أخرى في إهدن على أيدي المماليك. وهذا، برأي المؤلف، أساس الخلاف بين الموارنة في إهدن وبشري.

يوضّح الكتاب، أن الحملة المملوكية، على جبة بشري، وما أنتجته من ويلات، جاءت نتيجة لمعاهدة الصلح بين المماليك والصليبيين، أي أنها وقعت بعلم الصليبيين وطلبهم، وردًا على ما يعتبره المؤلف، تصلب وشجاعة البطريرك دانيال الحدشيتي، وميله لتكريس “القرار الماروني الحر”. و”القرار الحر” يبدو بالنسبة للكاتب، خاصية “ثابتة” عند الموارنة، دون أن يتمكّن القارئ بالضرورة، من تأصيل معرفته حول هذه الخصيصة المتعلّقة بـ”القرار الحر”. كما يستعرض المؤلف الآراء والآراء المعارضة في موضوع العلاقة مع الصليبيين والمماليك.

إن الموارنة، كما يحاول للكتاب توضيحه، كانوا ضحايا لصراع القوتين الأساسيتين في المنطقة. وهذا الاستنتاج يطرح باستمرار، على الموارنة، كما على جميع الجماعات اللبنانية الأخرى، تساؤلات وجودية. إلى أي مدى تبدو هذه الجماعة، أو تلك، مُحركًا في صراع القوى الكبرى، سواء في الماضي، أو في الحاضر؟ لماذا تعمد هذه الجماعة، أو تلك “إلى تضخيم حجمها، ودورها، وحضورها…؟ إلى أي مدى يمكن إدراك حجم هذه الجماعة ودرورها، الحقيقي، في لعبة الأمم؟ إلى أي مدى أتقنت الجماعات اللبنانية أهمية الحوار الداخلي، وضرورته لتجاوز الشرخ في ما بينها؟ إلى أي مدى أحيت الجماعات اللبنانية القواسم المشتركة بينها؟ إلى أي مدى توافقت هذه الجماعات، على تحديد “العدو” الرئيسي الذي يستهدفها، ويستهدف وطنها؟”… هذه التساؤلات وغيرها، كانت، ولا زالت، دون أجوبة واضحة. وعليه، يحاول الكتاب، انطلاقًا من التجربة المارونية، تبيان الضرر الذي لحق بالموارنة نتيجة لما يمكن تسميته بـ”الصراع الإقليمي”، وموقع الموارنة فيه.

الجوهر والأساس
كانت روما مع الحملة الصليبية، وهذا ما أدى إلى خلاف داخل الطائفة المارونية. يبدو الخلاف في الظاهر حول “معتقدات دينية ولاهوتية وعقائدية”، غير أنه في الجوهر والأساس، كان خلافًا على “الهوية والانتماء”، مع الصليبيين (الغرب)، أم مع المماليك (الشرق).

هذا الانشطار الماروني، بين الغرب والشرق، برأي المؤلف، لا زال مستمرًا في الذهنية المارونية، رغم كلّ الحقبات التاريخية وآلامها، فإنه لم يتبدل.

بناء على هذا التوصيف الدقيق، لطبيعة الانقسام في الطائفة المارونية، يمكن التساؤل: هل يمكن للخارج أن يكون مُحددًا “للهوية، والانتماء الوطني”؟ كيف؟ ولماذا؟ ما هي العوامل التي تجعل هذا الخيار قائمًا ومستمرًا؟ ولماذا تجد جماعة من الشرق، ولدت فيه، وعاشت فيه، أنها “غربية الانتماء” والهوية؟ قد تبدو هذه التساؤلات، وغيرها، “مُستفزة” بالنسبة للبعض، لكنّها طبيعية في سياق النقاش حول هذا الخلاف الذي لم يستقر، أو يصل إلى بر الأمان، خاصة، وأن ارتداداته لا زالت فاعلة جدًا، ومؤثرة بقوة، ومُهيمنة بالكثير من التفاصيل، على التركيبة اللبنانية.

طبيعة الانشطار
إن الاصطفاف “الماروني” في إطار الصراع “الإقليمي” كان، برأي المؤلف، أساس الخلاف بين الموارنة في إهدن وبشري. غير أن هذا الشرخ بقي هامشيًا، من حيث المبدأ، ولم يعره أيّ من المؤرخين الأهمية المطلوبة. لماذا؟
لأن التركيز انصب على انقطاع علاقة الموارنة مع روما، والتي استمر فيها الانقطاع نحو (71) عامًا. أي إن ارتدادات الشرخ، لم تقتصر على خلاف “بعض الموارنة” مع الصليبيين، بل كان الخلاف مع روما الأبرز والأهم، مقارنة بما حدث بينهم كجماعة من انقسام. من هنا كان الجانب “العقائدي” الأكثر حضورًا، مقارنة بالجانب “السياسي” وتبعاته المؤلمة.

كان البطريرك، لوقا البنهراني، قائد عملية الانشقاق عن روما، حيث رفض الاعتراف بسلطة البابا، واعتنق العقيدة اليعقوبية (المؤمنة بالطبيعة الواحدة للمسيح)، بينما جبرائيل ابن القلاعي رائد مدرسة الدفاع عن روما، تجاهل انشقاق البنهراني. من هنا فإن سركيس أبو زيد، كما يرد في متن الكتاب، موضوع المراجعة، أعطى لهذه الخلافات الداخلية، أبعادها ودوافعها الوطنية والطبقية، ووضّح الكتاب مجمل الآراء حول هذا الشرخ وأبعاده، ليصل إلى القول إن التعاون مع “جيوش المحتل”، كانت السبب الأساس للانشراخ. وبالتالي، فإن وصول “جيوش المحتل” إلى قمم الجبال، كان بفضل “تعاون فريق من الموارنة مع الغزاة ضدّ فريق آخر”. وهذا التوصيف فيه شيء من المغالاة. لماذا؟ لأن هذه المناطق تبدو، في الكتاب موضوع المراجعة، وكأنها دولة قائمة بذاتها، تم اختراق “سيادتها” من قبل المحتل، بينما هي في الحقيقة جماعات طائفية، لها علاقاتها السياسية والإيمانية/العقائدية.

العودة إلى روما
انقطع التواصل مع روما، بعد “استشهاد البطريرك جبرايل حجولا” العام 1367، واستمر، مبدئيًا، نحو (71) عامًا، حيث عمد البطريرك يوحنا الجاجي، من بلاد جبيل، إلى وصل ما انقطع. لذلك يعتبره البعض “البطريرك العظيم”، فقد عمل على تلبية دعوة البابا أوجين الرابع، لحضور مؤتمر فلورنسا العام 1438، حيث مثّل “البطريرك العظيم”، “فرا جوان”، رئيس رهبان فرنسيس في بيروت. وبعد عرض رسائل الموارنة في “لبنان والقدس وجزيرة قبرص” في هذا المؤتمر، تم تثبيت البطريرك يوحنا الجاجي في الرئاسة على كرسي إنطاكية، وأرسل البابا له تاجًا، ودرع البطريركية.

غير أن “فرا جوان” كان سببًا لوقوع حادثة خطيرة عند عودته إلى لبنان. ورغم تعدد الروايات حول هذه الحادثة، غير أن الكتاب يوضّح، أن الحاكم التركي في طرابلس، ألقى القبض عليه، بحجة أن مؤتمر فلورنسا، كان يهدف إلى “استخلاص” بلاد الشام من المسلمين، فتدخل البطريرك يوحنا الجاجي، عند الحاكم، الذي وافق على إطلاق سراحه شرط عودته إلى طرابلس بعد إنجاز مهمته الدينية.

غير أن هذا لم يحدث، الأمر الذي دفع الحاكم إلى ردة فعل عنيفة ضدّ البطريرك وأعوانه وأهالي بلدة ميفوق، ممّا أدى إلى انتقال البطريرك إلى دير قنوبين. وهنا يُشير المؤلف، إلى أن ما عرضه المؤرخ كمال الصليبي حول هذه الحادثة غير صحيح، و”غير مطابق للواقع على الإطلاق”، لأن الصليبي اعتبر أن الهجوم على “دير ميفوق”، وأهالي البلدة، “لم يكن عملًا عسكريًا من قبل حاكم طرابلس”. بينما يتساءل الكتاب، موضوع المراجعة، هل يمكن التوجّه إلى بلدة ميفوق، والقيام بأعمال الخراب فيها وبالدير، دون علم الحاكم، وأوامره؟.
في الأحوال كافة، فإن تباين الآراء حول هذه الحادثة، يبقي مسائل الحسم فيها خاضعة للأخذ والرد، لاعتبارات متعددة، ومختلفة.

بين إهدن وبشري
إضافة إلى الشرخ في الجماعة المارونية، يُشير الكتاب إلى شرخ “محلي، ضيّق، لم يلتحم رغم مرور زمن طويل على انشطاره”. تجسد هذا الشرخ بين بلدتين مارونيتين عريقتين، هما إهدن وبشري. ورغم ما بينهما من قواسم مشتركة، لجهة الجيرة، والانتماء الديني، والوطني، والجغرافي، والتشابه في الشدة، والبأس، والقدرة على القتال، ومواجهة الأعداء… لكن البلدتين “لم تتوحّد” رؤيتهما في “الشؤون الوطنية، إلا نادرًا”.

إن وصول الصليبيين، عام 1099، إلى لبنان، عمّق الشرخ، لأن كلّ بلدة أخذت موقفًا من الصليبيين، ففي حين رحب أهالي أهدن بالصليبيين، وانخرطوا في صفوفهم، وأرشدوهم إلى الممرات الجبلية، وساروا معهم إلى القدس، اتّخذ أهل بشري موقفًا معاكسا. تعزز هذا الشرخ، باحتضان مقدمي بشري، ومشايخ جارتها حدشيت، الرهبان اليعاقبة، بينما رفضهم أهل إهدن، وطردوهم. وهنا يُفند الكتاب، هذه المسالة بشيء من التفصيل.

ويُشير الكتاب، إلى أن معركة “الفيدار” التي قام بها المقدمون الموارنة، ضدّ حميدان، قائد عسكر المسلمين، وقيادة جيشه، كانت قد وحدت الموارنة، ومن ضمنهم البلدتان. غير أن أساب هذه المعركة لم يتم شرحها، كما يُشير المؤلف، وجاءت بعد هجوم المماليك على “جبة بشري”، بحوالي تسع سنوات.

ورغم مشاركة المقدم سالم، حاكم بشري، وهو “يعقوبي المذهب”، في المعركة، لكنّه حُرم، من حقه/نصيبه من المغانم، بأمر من البطريرك الماروني، وتم لاحقًا القضاء على ذريته تحت ذرائع متعددة.

بناء على ما تقدم، يمكن القول إن البُعد السياسي، كان ولا زال، إلى جانب طبيعة البُنية المجتمعية، وإفرازاتها السلطوية المحلية، وتجسيداتها على المستوى الوطني/العام،… أبقت جذور الانشراخ حيّة، وتمظهرت تجسيداتها العملانية، حسب طبيعة المرحلة التاريخية وصراعاتها. وهذا ما نلاحظه، حتّى اللحظة الراهنة.

الدس اليهودي
وعليه، يطرح الكتاب، ما يمكن اعتباره “الدس اليهودي”، وهو على قدر كبير من الأهمية، لسببين على الأقل، الأول، لأنه قد لا يكون مُعممًا، ممّا يجعله غير معروف عند الغالبية. الثاني، لأن ارتداداته أقرب لأن تكون نوعًا من التدمير للتاريخ الماروني في لبنان. لذلك من الضروري التوقف عنده، وإبرازه، وتعميمه، ونقله إلى الأجيال الطالعة، لخطورته من جهة، ولكونه يتقاطع، وإن بطريقة مغايرة، مع الحرب التدميرية التي يشنها العدوّ الصهيوني ضدّ قطاع غزّة.

أي أن الدس اليهودي، لم يكن حرب إبادة جماعية، بالمعنى المادي، كقتل البشر وتدمير الحجر، كما يجري في قطاع غزّة اليوم، لكنّه يتقاطع مع حرب الإبادة، لكونه يهدف إلى محو الهوية، وإلغاء الوجود، واقتلاع الجذور. والكتاب، موضوع المراجعة، يوضّح، بشيء من التفصيل، مسار هذا العمل التدميري، بالأسماء، والتواريخ، وبعض الوقائع. فمن قام بهذا التدمير؟ ولماذا؟ وما هي خطورته؟

باختصار شديد، من قام بهذا العمل هو الأب/الراهب جوان باتيشتا إليانو، الذي هو بالأساس يهودي مصري، اعتنق المسيحية، ودخل الجمعية اليسوعية العام 1551، وسيم كاهنًا عام 1560 (بعد أقل من عشر سنوات)، وكان الكرسي الرسولي كلفه بمهمة لدى الكنيسة القبطية في مصر، ثمّ عُيّن من قبل البابا غريغوار الثالث عشر، قاصدًا رسوليًا، لدى الموارنة في جبل لبنان في حدود العام 1578، بناء على طلب البطريرك الماروني مخايل الرزّي، للمساعدة من روما نتيجة “الانقسام داخل البطريركية”، وما أحاط بالبطريرك من اتهامات، وادّعاءات، تطال معتقداته الإيمانية، حيث اتهمه البعض بـ”الهرطقة اليعقوبية”.

خطورة تكليف الأب إليانو، من وجهة نظر المؤلف، تتلخص بأن قرار روما التدقيق بمعتقدات البطريرك مخايل الرزّي، أحدث “كارثة” بحق الموارنة، وتاريخهم، على يد ما سماها “البعثة اليهودية”. كيف؟ ولماذا؟ هذا ما نختصره بمسألتين:

  • المسألة الأولى، تتمظهر في إحراق الأب إليانو، وتدميره “التراث السرياني”. صحيح أن الأب إليانو حمل للبطريرك الرزّي، “رسالة تثبيته”، و”بدلة قداس كاملة”، غير أنه، وبحجة التحقق من “صحة معتقد البطريرك” و”رعيته” أخذ يتفحص الكتب الموجودة، وقرر عام 1578 إحراق عدد كبير منها، وهي “لا تُقدر بثمن”. ولم يكتفِ بدير سيدة قنوبين، بل أمضى سنة كاملة يجول على أديرة الموارنة، بحجة التدقيق في كتبها، ويحرق منها ما يراه يستحق الحرق.

عملية الحرق، كانت قرارًا فرديًا خالصًا وتامًا، متذرعًا بأنه يتصرف بناء على قرار قداسة البابا، حيث أخفى الأب إليانو ما قام به، ولم يذكر أسماء هذه الكتب التي فحصها، وقام بحرقها، ولا اسم ناسخها، ولا سنة النسخ، ولا عددها… كما أنه لم يعرض على البطريرك الأغلاط في هذه الكتب، أو يشرح له وللأساقفة ما تتضمنه من أغلاط، ولم يُفسر، أو يُبرر عملية الحرق وضرورتها، فكان هذا العمل جريمة كاملة، لا تطال الإيمان فقط، بل التاريخ، والعلم، والمعرفة، والذاكرة المارونية.

إن هذه المجزرة تدفع، كما يُشير الكتاب، إلى ضرورة “التفتيش عن الأنامل اليهودية الخفية التي عبثت بتاريخ الطائفة المارونية، وارتكبت المجازر البشرية والمعنوية بحقها جيلًا بعد جيل….”. لذلك ليس غريبًا ما قام به اليهود والصهاينة في لبنان، كما في غيره، وما يجري اليوم في قطاع غزّة خير دليل على هذا الإجرام المطلق.

من هنا يتساءل المؤلف: هل أراد الأب/الراهب إليانو تدمير التراث الديني – الثقافي الماروني، ومحوه من الوجود؟ هل كان عمله مقدمة لإزالة “الحالة المارونية السريانية”، المتميّزّة عن روما، بشرقيتها، وطقوسها، وعاداتها؟

يبدو أن الأب إليانو أراد إزالة تراث الموارنة “الخاص” من الوجود، لتحل “اللتننة” (من اللاتينية)، الكاملة الشاملة، بدلًا من “السرينة”. وهذا ما يعتبره الكتاب “هدفًا غربيًّا”.

  • المسألة الثانية، تتبلور من خلال سعي الأب إليانو لإحداث شرخ داخل الموارنة في لبنان. فبعد عملية إحراقه الكتب، عاد إلى روما بتاريخ 22 آذار 1579، عن طريق البحر من طرابلس. وهناك، أخبر البابا بأن “الموارنة حفظوا وديعة الإيمان الكاثوليكي، وهم ثابتون على الاتحاد بالكرسي الرسولي…”.، وفي “كتبهم الطقسية حاليًّا ورتبهم عادات رديئة وأغلاط في أمور الإيمان سنرفع لقداستكم جدولًا بها…”. لكن لم يُشر إلى هذه الأغلاط، ومصادرها، وطبيعتها، ولم يتعرض إلى ما قام به من حرقه الكتب…

وبعد ثلاثة أشهر، وبتاريخ 29 حزيران 1580، عاد مُجددًا إلى لبنان، حاملًا بعض الكؤوس، والحِلل الكهنوتية، وأهم ما حمله من روما البراءة البابوية، “الباليوم”، وبتاريخ 15 آب من العام 1580، قام وباحتفال مُهيب، بتلبيس البطريرك مخايل الرزّي “الباليوم”، وألقى كلمة مطولة، كانت مُعدة مُسبقًا، حدد فيها “شروط العلاقة مع روما، من وجهة نظره “الشخصية”، وأطلق عليها تسمية المجمع الملي الماروني”، المعروف بـ”مجمع 1580″، فوقعها البطريرك مخايل، وسبعة من الأساقفة، في حين رفض البعض توقيعها، واعترض عليها فريق كبير من الحضور، وانسحب من الاجتماع عدد من المشاركين، بينهم شقيق البطريرك، مما دفع البطريرك إلى التراجع عن التوقيع بحجة “الخوف من الأتراك”. غير أن الحقيقة عند البطريرك كانت الخوف من الانشقاق الذي حصل واتسع مداه.

من هنا تراجع الأب إليانو وأخفى العريضة عن البابا، ووضعها في أرشيف الرهبنة اليسوعية. لكن الكتاب، موضوع المراجعة، لا يتعرض إلى مضمون هذه الوثيقة/العريضة، ولا إلى مسائل الخلاف حولها. لكنّه بالمقابل، يؤكد أن الكنيسة المارونية متمسكة بمشرقيتها بعناد.

يبدو أن “الدور اليهودي” لم يقتصر على ما قام به الأب إليانو، في القرن السادس عشر، بل ظهر بحسب ما ورد في الكتاب، في القرن التاسع عشر، وخلال أحداث 1860، حيث “حارب” الإنكليز “انتفاضة الفلاحين الموارنة على المشايخ”، التي قادها طانيوس شاهين. لأن البريطانيين اعتبروها قامت بدعم وتشجيع فرنسي، ممّا يُضعف “نفوذهم في جبل لبنان الجنوبي”، وإلى “طرد الإرساليات البروتستنتية منه”. وهنا “برز بوضوح تأثير العائلات اليهودية الثرية على السياسة الإنكليزية في تلك الحقبة”. ويبدو أن الكتاب يكتفي بهذه الإشارة العامة، دون أية تفاصيل “خاصة” تُظهر دور العائلات اليهودية في أحداث 1860.

لكن من اللافت للنظر، في هذا العرض، ثلاث مسائل، مبدئيًا: الأولى حضور “يهودي” مؤثر في لبنان. الثانية، تأثير “يهودي” على السياسة البريطانية. الثالثة، خشية الإنكليز، و”خوفهم” من فقدان “نفوذهم” في “جبل لبنان الجنوبي”. لكن هل حقيقة خاف الإنكليز من “تقزيم” دورهم، وتقليصه في جزء من جبل لبنان، وهم يتحركون على مستوى المنطقة كلها؟ أليس في هذه النظرة خلل ما؟ من هنا يصوب الكتاب، بطريقة غير مباشرة، على “الدروز” كطرف آخر ويُبيّن علاقتهم بالإنكليز. وفي الحالتين، لا يخرج النص من انتقائية ما. لأن الهم هو الآخر، وليس التأثير والتدخل الأجنبي لضرب العلاقات بين الجماعات اللبنانية.

عوامل عززت موقع الموارنة
تعززت مواقع الموارنة في جبل لبنان، في مسار تاريخي تداخلت فيه عوامل سياسية، وطائفية، واقتصادية، وتأثيرات خارجية،… ضمن فضاء متلبد بالصراعات بين جماعاته، أو داخل الجماعة الواحدة، ممّا ساهم في تقدم الموارنة، رويدًا رويدًا، مقارنة بغيرهم من الجماعات اللبنانية الأخرى. ومن الملاحظ أن هذه العوامل متداخلة من جهة، وجاءت في سياق تاريخي من جهة ثانية. لذلك ما يمكن استنتاجه من الكتاب، موضوع المراجعة، يُلقي الضوء على هذه المسألة، دون أن يكون كافيًا. والسبب يعود إلى أن الكتاب لا يتطرّق إلى هذا الموضوع مباشرة. من هنا فإن أهم العوامل التي عززت موقع الموارنة يمكن حصرها بالآتي، من حيث المبدأ:

  • الشرخ الدرزي: إن الشرخ الدرزي، وما ولده من نزاعات داخل الطائفة، عزز موقع الموارنة. حيث تبين أنه كلما ازداد هذا “الشرخ” اتساعًا، كلما “ترسخت مقومات “التقدم” الماروني. وعليه، يمكن القول إن النزاع في المجتمع الدرزي، كان “المعبر” لولوج الموارنة إلى حكم إمارة جبل لبنان، خاصة وأن مسار النزاع الدرزي الدرزي، أخذ وقتًا، ولم يتوقف في محطة تاريخية.

ويلاحظ، أنه “بزوال” الخصومة القيسية اليمنية، بعد معركة عين دارة عام 1711، سرعان ما تمحور الانقسام الدرزي في ثنائية “جديدة”، لا تزال مستمرة حتّى تاريخه، تمثلت في “الغرضية” اليزبكية الجنبلاطية.

وقد استمرت الخلافات بين الدروز، من جديد بعد وفاة الأمير ملحم شهاب العام 1761، فتقاتل “الإخوة الأعداء”، الأمر الذي أدى إلى استنزاف قدراتهم، وأنهك قواهم، “فباتوا أقليّة في الشوف، مما حمل أمراءهم على اعتناق المسيحية”. لكن هل كان هذا “التمورن” نابعًا من الإيمان أم خاضعًا للمصالح والأهواء؟ لا يمكن الحسم في الإجابة، لأسباب مختلفة ومتعددة، غير أنها في الأحوال كافة زادت قوة الموارنة.

  • دور الكنيسة: في العام 1770، خلف الأمير يوسف شهاب، الماروني المذهب، الأمير منصور شهاب، فبدأ عهد الشهابيين النصارى. فما هو دور الكنيسة في هذا التحول الإيماني؟ وما هو دور الكنيسة في إيصال الموارنة إلى الحكم في إمارة جبل لبنان؟
  • “المدرسة المارونية”: كان لهذه “المدرسة” في روما، دور هام في بعث نهضة ثقافية لدى الموارنة. وهذه المسألة لم تكن متوفرة للجماعات اللبنانية الأخرى.
  • العامل الاقتصادي، والثروات التي جناها زعماء الموارنة من تجارة الحرير، وتربية “دود القز”، الأمر الذي رسّخ حضورهم وعزز قوتهم.
  • العلاقة مع فرنسا: لعبت العلاقة الفرنسية مع الموارنة، بعد أن استعادت الدول الأوروبية نفوذها في الشرق، دورًا أساسيًا في تعزيز موقع الموارنة وتقويته.
  • تراجع الدور الشيعي: من العوامل المُعززّة لتوسيع النفوذ الماروني وتقويته في لبنان، يمكن النظر إلى تراجع موقع الشيعية ودورهم في لبنان، والمنطقة. فقد كان الشيعة يتمتعون برعاية الدولة الفاطمية في مصر، لذلك كان لهم في لبنان حظوة “وسيطرة على لبنان كله”، كما يشير الكتاب، باستثناء مناطق بشري، والبترون، وجبيل في الشمال، التي كانت تحت سيطرة الموارنة، ومنطقتي الشوف ووادي التيم، اللتين كانتا منطقتين درزيتين.

بدأت أحوال الشيعة بالتراجع، مع وصول الجيوش الصليبية إلى بلاد الشام، وبداية انهيار عهد الفاطميين. وبالتالي، عند انهزام الصليبيين، في بلاد الشام، انقلب المماليك على الشيعة، وشنوا، حملات عسكرية على مناطقهم في لبنان، بدأت منذ العام 1292، ممّا أدى إلى نزوحهم عنها، في حين بدأ النازحون من الموارنة يستوطنون هذه المناطق. غير أن الشيعة أعادوا تكاثرهم في كسروان، من أوائل القرن السادس عشر، وامتد نفوذهم في مناطق جبيل، والبترون، وبشري، إلى أن استطاع الموارنة في نهاية القرن الثامن عشر طردهم بمساعدة الشهابيين.

من هنا فإن الحضور الماروني كان كغيره من حضور الجماعات اللبنانية الأخرى، خاضعًا للمد والجزر. غير أن التحولات اللاحقة بعد القرن الثامن عشر، كانت تصب في تثبيت مواقعهم وتعزيزها. والأزمة أن تحصن كلّ جماعة في منطقة، دون أخرى، جعلها حكرًا عليها، الأمر الذي ساهم، إلى جانب عوامل أخرى، في إبقاء البلد مسكونًا بالتاريخ، وعاجزًا عن مواكبة التقدم والتطور وغير قادر على ترسيخ فكرة الدولة الحديثة.

تضخيم عير مبرر
في إطار المعارك التي خاضها الموارنة، وشاركوا فيها، تُسجّل للمؤلف موضوعيته في تقدير أعداد الموارنة في خضم هذه المعارك. حيث لحظ، وبالأرقام، أن بعض المؤرخين عمد إلى “تضخيم الدور الماروني”، سواء لجهة أعداد المقاتلين، الذين يحسبون بالآلاف المؤلفة…، أو لجهة بطولاتهم التي “تفوق أحيانًا إمكاناتهم الحقيقية”، أو لجهة الدور الماروني في القتال، أو لجهة عدد الكنائس وحجمها، وقدرة استيعابها المؤمنين…، ويُعطي معركة “الفيدرا” نموذجًا.

وعليه، فإن هذه الدقة في التوصيف، والموضوعية في التقدير، وعدم الانجرار وراء التضخيم، تؤسس لرؤية موضوعية يمكن الاستفادة منها عند قراءة كلّ جماعة لبنانية لحجمها، ودورها، وموقعها في النزاعات السياسية بين الدول.

المبالغة في الحلم
يُشير المؤلف إلى قيام “تحالف” ماروني درزي، بعد معركة “الفيدرا”، لمواجهة المماليك، علهم يحصلون على “إمارة مستقلة”، وذلك بتشجيع من الصليبيين. غير أن هذه الغاية بقيت في عالم الأحلام، ومجالات التمني وفسحة الخيال، لأن المماليك استطاعوا بعد جهد جهيد، هزيمة المغول في العام 1303، الأمر الذي وفّر لهم في العام 1305، توجيه حملة عسكرية عنيفة انتهت “بإحراق كسروان بالكامل”، كرد فعل على موقف الموارنة والدروز من المماليك، لحظة ضعفهم، حيث عمد سكان جبال لبنان، إلى التصدي للجيوش المملوكية المنهزمة العام 1299، وسعوا إلى “الاستقلال” في مناطقهم الجبلية.

من هنا كانت عملية انتقام المماليك مروعة، ممّا أدى إلى خضوع المنطقة لسلطتهم، وتولى أمر السلطة بهاء الدين قراقوش كحاكم لدمشق. وتم منع أي مسيحيي من دخول أرضه من جهة، وقُطع كلّ اتّصال بين الموارنة والدروز من جهة ثانية. واستمرت هذه الوضعية حتّى انهزام المماليك، ودخول العثمانيين في العام 1516.

غير أن متن الكتاب، موضوع المراجعة، يتضمن بعض المغالاة، أو النرجسية، لجهة اعتبار “مواقع الموارنة” في “الجبال لم تطأها أرجل غريبة”، أو لجهة “أهمية” التحالف الماروني الدرزي، وما ولدته من “فكرة لبنان الوطن القومي للنصارى والدروز معًا”، أو ما يعتبره النص “الكيانية اللبنانية”. من هنا يعتبر المؤلف، أن فكرة “الوطن القومي”، التي تجمع الطائفتين، عادت وظهرت بعد مئتي سنة على يد الأمير فخر الدين المعني الثاني. غير أن اللافت للنظر، اعتباره المماليك “جيش احتلال”، “دنس الجبال العصية” دون التعرض للوجود الصليبي مثلًا، وكأنه مسألة طبيعية. لذلك قد يكون من الصعوبة بمكان الدخول في نقاش هذه المسائل، لأن مفاعيلها لا تزال نابضة بالحياة من جهة، ولأن الولوج في نقاشها قد يأخذ أبعادًا خارج فكرة المراجعة من جهة ثانية.

النزعة الاستقلالية والأقليات
ضمن هذا السياق، يستعرض الكتاب مسار فخر الدين المعني، والتلاقي “الدرزي الماروني”، الطامح باتّجاه ما يعتبره المؤلف، “الطموح الاستقلالي”. السؤال هنا، استنادًا إلى النص، يتركز على مسألتين: المسألة الأولى، ما هي طبيعة هذا التلاقي “الدرزي الماروني”؟ المسألة الثانية، ما هو مبرر هذا “الطموح الاستقلالي”؟ في محاولة للإجابة، وباختصار شديد، يمكن الإشارة إلى الآتي:

في المسألة الأولى، يُشير النص إلى أن هذا التلاقي لم يأخذ أي شكل تنظيمي. من هنا يمكن الاستنتاج، أن فكرة التلاقي كانت “شكلية”، وهي، من حيث المبدأ، نظرة مُجردة، وأقرب لأن تكون فكرة “وهمية”، غير واقعية، وبعيدة عن أية إمكانية للتَجسد. والولوج في هذه المسألة يحتاج لنقاش طويل، خارج حدود المراجعة، وطبيعتها.

في المسألة الثانية، من أين نشأ هذا الطموح الاستقلالي؟ يُشير الكتاب، إلى أن هذا الطموح نابع في الأساس من اختلافهما (الموارنة والدروز)، الديني العقائدي، مع الخلافة الإسلامية العثمانية. هذه النظرة، نقاشها “طويل”، أيضًا، وقد لا يتم التوصل بعد هذا النقاش إلى نهاية ما. لكن علاقة الدروز مع الخلافة الإسلامية العثمانية، لم تكن متوترة، كما يُبيّن الكتاب، موضوع المراجعة، وفي أكثر من موقع. فلماذا أورد، النص أن الخلاف الدرزي مع السلطنة العثمانية كان سببًا للاستقلال عنها؟ ولماذا تم زج الدروز في هذه “النزعة الاستقلالية”؟ من خلال متن الكتاب، موضوع المراجعة، يُلاحظ أن الخلاف الدرزي الديني العقائدي، مع الخلافة الإسلامية، لم يكن سببًا للتصادم معها، أو الانزواء عنها، أو التآمر عليها، أو القوقعة في إطار “مستقل” عنها.

وهذا ما يمكن استنتاجه، من الكتاب، موضوع المراجعة، حيث يُشير إلى أن علاقة الدروز مع الخلافة الإسلامية كانت متينة، وقوية، وواضحة… لدرجة “اتهم الكتاب” بأن المجازر التي قام بها الدروز بحق الموارنة والمسيحيين، كانت بتخطيط “درزي عثماني”. بل إن يوسف بك كرم، تأخر عن نجدة مدينة زحلة في حزيران 1860، بسبب رسالة القنصل الفرنسي التي تعلمه بأن “التسوية تمّت”. وبالتالي يحسم المؤلف، في خلاصة متابعته موضوع المجازر ضدّ المسيحيين، أن هذه المجازر “وليدة اجتماعات طويلة ومتكرّرة” عُقدت في بيروت شتاء 1860 بين “زعماء الدروز والسلطات العثمانية، وعلى متن “البوارج الإنكليزية” في صيدا. هذه على الأقل إشارة مباشرة إلى أن الدروز كأقلية دينية عقائدية، لم تكن على خصام مع الخلافة الإسلامية العثمانية، إضافة للعديد من الأمثلة التي يُقدمها الكتاب، موضوع المراجعة، تؤكد هذا المنحى.

إذًا الاختلاف مع الخلافة الإسلامية، هل كان من طرف واحد؟ أم أنه كان تمنيًا أو رغبة، لتعميمه على الأقليات الإسلامية، وغير الإسلامية لإيجاد مأزق سياسي، وأزمة “وجودية” وهمية؟ السؤال الأبرز، هل ما زال هذا “الطموح” “الاستقلالي الأقلوي” قائمًا؟ ما معنى هذا “الاستقلال”؟ وما هو مبرره؟ وما الغاية منه؟ وما هي تجسيداته، العملانية، في الوقت الحاضر؟ وما أهمية هذا “الاستقلال”، إذا كان الأجنبي حاميه، وراعيه، وصانعه.

إن فكرة “الاستقلال”، في الفترة التي يتابعها الكتاب، كانت “مُلازمة” لنشاط الأمير فخر الدين المعني. بل يمكن اعتبار الأمير، من “صّناع” الفكرة و”روادها”، و”المُبشّرين” بها. غير أن الأمير فخر الدين المعني، كما يُشير الكتاب، بعد “مغادرته لبنان”، إلى توسكانا العام 1613، ولمدة خمس سنوات، سعى جاهدًا لإقناع الأوروبيين بشن حملة عسكرية على الشرق، لاسترجاع بيت المقدس من العثمانيين، لكن دون جدوى. فإلى ماذا يقود هذا الاتّجاه الاستقلالي؟ وما معنى النزعة الاستقلالية التي تزعمها الأمير فخر الدين في هذه الحالة؟

إمارة الوهم
من هنا يناقش الكتاب فكرة ما سمّاها “إمارة الوهم”، متسائلًا: هل ضخّم المؤرخون خطط فخر الدين المعني الثاني؟ وهل أبرزوا دوره في بناء “كيانية لبنانية” مستقلة عن الدولة العثمانية، بالتحالف مع الموارنة؟ هل خطط فعلًا، الأمير المعني، لقيام “دولة لبنانية”، خاصة بالدروز والموارنة؟ ليصل الكتاب، موضوع المراجعة، إلى نتائج محدّدة جدًا، تبدو متعاكسة مع النظرة المارونية، أي أن الموارنة لم ينظروا إلى “الحقائق” بواقعية.

لذلك، اعتبر أن فخر الدين لم يقم بأية محاولة فعلية لخلق “كيانية” موحّدة للبنان. وهو لم يتعامل مع الموارنة كحلفاء، لأنه لم يكن لديهم أي نفوذ في الحقبة العثمانية. لكنّه غيّر “نظام الحكم عند الموارنة”، سواء لجهة استبداله المقدمين بمشايخ من آل الخازن، الذين في تلك الحقبة كانوا موظفين في إدارته، أو لجهة مساهمته في إعادة النفوذ الماروني إلى كسروان، وتثبيته. وقد تم ذلك من خلال شراء “الأراضي الشيعية”، أو لجهة تعزيز الحضور الماروني في الشوف.

وبالتالي، فإن فخر الدين لم يؤّسس، بالضرورة لـ”علاقة درزية مارونية سوية” يتولد منها “وطن”، وتنشأ من خلالها “أمة”. وما قام في عهده من “تعايش درزي ماروني”، فرضته “ظروف اقتصادية تجارية وحاجة اقتصادية”. وهذا التعايش، برأي المؤلف، لم يصمد، إذ انكسر بعد ربع قرن ونصف.

العيش في الماضي
يتضمن الكتاب، موضوع المراجعة، خاصة في جزئه الثالث، العديد من الإسقاطات غير الموضوعية، مقارنة بالأجزاء الأخرى، لجهة إظهاره أن أحداث الماضي، تُعاد في اللحظة السياسية التي نعيشها الآن. وهذه الإسقاطات تستعيد الماضي، بانشراخاته، وانقساماته، ونزاعاته… دون وجه حق من جهة، ودون دقة علمية من جهة أخرى. لماذا؟ لأن التاريخ لا يُعيد نفسه أولًا، ولأنه إذا حدث وأعاد التاريخ نفسه، فسيكون “الحدث” في الحاضر أكثر “سطحية”، و”مهزلة”، و”عبثية” ممّا كان عليه في الماضي.

من هنا، وقبل البدء بمناقشة بعض إسقاطات الماضي على الحاضر التي يُقدمها الكتاب، ونظرًا لحساسية الموضوع، ورفضًا لإقحام المراجعة في مناخات، واصطفافات، ومتاريس، ليست من طبيعتها، أو من أهدافها، لا بُدّ من لفت الانتباه إلى الآتي:
إن مناقشة هذه الإسقاطات، التي يعرضها الكتاب، ليست في وارد الرد، أو التخندق، بل تندرج في إطار المناقشة الموضوعية، والحوار الهادىء. وبالتالي، فإن الملاحظات المُقدمة، لا تصطف في القاطع الآخر، ومواقع المواجه لما يُقدمه الكتاب من أحداث، وإن كانت هذه الملاحظات لا توافق على ما عرضه الكتاب. لماذا هذه الملاحظة، ولفت النظر؟

لأن طبيعة البناء الطوائفي للبنان، وانحيازاته، وسطوته، ومدى اتساعه، أولًا، وخصيصة الكتاب المتابع لتاريخ الموارنة في لبنان ثانيًا، وغياب المراجعة الموضوعية للتجارب السياسية والمجتمعية ثالثًا، تجعل المناقشة “الحيادية”، غير الطوائفية، صعبة، إذا لم نقل مستحيلة. لهذه الأسباب، وغيرها، كان لا بُدّ من لفت الانتباه، استدراكًا، واحتياطًا.

الملاحظة الأساس التي يمكن تحديدها، تتمثل في أن المتابع/القارئ لمضمون هذه الإسقاطات، يستنتج أن “النص” لا زال قابعًا في الماضي السحيق من جهة، ولم يستطع تجاوز وقائعه وأحداثه من جهة ثانية، ويبدو غير مهيأ للمصالحة مع الآخر من جهة ثالثة، وغير قادر، أو مستعد للشروع في بناء المستقبل من جهة رابعة.

من هنا تبدو هذه الإسقاطات محكومة بنوع من التعصب، بحجة المحافظة على العصبية المارونية أولًا، ومنحازة، في العديد من الأمثلة، لاتّجاه سياسي دون آخر ثانيًا. وقد تُساهم في “نبش القبور ونكء الجراح” ثالثًا. بالرغم من اعتباره أن متابعته للمجازر التي ارتكبها الدروز بحق المسيحيين، على مدار التاريخ، ليست سياسة “نبش القبور ونكء الجراح”، لكن مسار العرض يبدو أنه يقع أسير هذا المنطق.

ولتوضيح ما نذهب إليه، يمكن، وباختصار شديد، متابعة بعض هذه الإسقاطات الانتقائية، وغير الموضوعية، كنماذج معبرة، لها دلالاتها، وأبعادها.

إسقاطات مُلتهبة
في محاولته توضيح أوجه الشبه بين الماضي (القرن التاسع عشر)، والحاضر، أواخر القرن العشرين، بما تضمنه من أحداث كبرى، يؤكد الكتاب، موضوع المراجعة، وعبر العديد من المقارنات والإسقاطات، أن “التآمر الدولي” هو في غير “مصلحة الموارنة”، والمؤامرة مستمرة ضدّهم. من هنا تمتد مجالات الإسقاطات على أكثر من مستوى وصعيد إقليمي، ومحلي، غير أنها جميعًا، لا تخرج عن فكرة التآمر الذي يستهدف الوجود الماروني في لبنان، من حيث المبدأ، وللتوضيح نشير إلى بعضها، على أكثر من مستوى، على النحو الآتي:

  • أن قبول الرئيس السوري بشار الأسد، الانسحاب من لبنان عام 2005، كان في ظروف مشابهة للظروف التي فُرضت على محمد علي بعد “معاهدة لندن”، في 12 تموز 1840، بين الإمبراطورية العثمانية، والدول العظمى (بريطانيا، روسيا، بروسيا، النمسا). فهل تصح هذه المقاربة؟ وكيف؟ وهل حقًا تبدو الظروف مشابهة؟ وبماذا؟
  • أن تدخل روسيا في سورية في شهر أيلول عام 2015، مُشابه لتدخلها عام 1833، لصد الهجمة العسكرية المصرية. كما أن “المسألة الشرقية”، برأيه، لا تزال بلا حل جذري منذ القرن التاسع عشر، لكن ما تغير هو اسمها فقط، حيث غدت “أزمة الشرق الأوسط”.
  • أن هزيمة جمال عبد الناصر في العام 1967، كانت نتيجة لتخلي الروس عنه، ووقفت روسيا تتفرج، وهذا يتماثل، برأيه، مع ما حدث صيف 1840، إذ تخلت فرنسا عن محمد علي… فهل يمكن الاطمئنان إلى هذه التماثلات، وقبول تلك المعطيات؟ وكيف؟
  • أن ما حصل عام 1840، يتكرّر بـ”حذافيره في أيامنا هذه. حيث تعمل القوى العظمى على تفتيت المنطقة إلى دويلات صغيرة”، وهو ما حددته، برأي المؤلف، وزيرة الخارجية الأميركية، كونداليزا رايس، عام 2011، بقولها بـ”الشرق الأوسط الجديد”. وإذا كانت سياسات القوى العظمى تستهدف حرية الشعوب، ومصادرة خيراتها، فإن مسارات هذه السياسات غير متماثلة مع القرن التاسع عشر.
  • أن مجريات اتفاق الطائف تبدو متماثلة، مع ما حصل في حزيران عام 1840. كيف يُبرر الكتاب هذه المقولة؟ وكيف يُقدمها؟ يشير الكتاب، إلى إنه في القرن التاسع عشر، حصل لقاء شعبي حاسم في أنطلياس، تخلّى فيه البطريرك الماروني، يوسف حبيش، عن الأمير الماروني بشير الشهابي الثاني الكبير، ممّا أدى إلى سقوط الأمير، وسقوط ما يسميها الكتاب، “الإمارة المارونية”.

وهذا ما حدث عام 1989/1990، حيث واجه البطريرك نصر الله صفير، وضعية مُشابهة بعد توقيع اتفاق الطائف، فقبل نصيحة السفير الأميركي، بينما ساند الفرنسيون السلطة السياسية في لبنان، المتمثلة بالعماد ميشال عون، فلقي الجنرال عون المصير نفسه الذي كان قد لقيه قبله، بمئة وخمسين عامًا، الأمير الشهابي. أي أن البطريرك نصر الله صفير تخلّى عن الجنرال عون. وعليه، فإن التآمر على الموارنة، والموافقة على اتفاق الطائف عام 1989، متماثل مع التآمر على الموارنة قبل (150) سنة. لماذا؟ لأن هذا الاتفاق، برأي المؤلف، مؤامرة على المسيحيين.

إن ما يذكره الكتاب، يدفع للسؤال: هل الدولة اللبنانية اليوم، هي امتداد لـ”لإمارة المارونية” في الماضي؟ إلى ماذا يقود هذا التوجّه؟ ولماذا “الثبات”، والجمود عند “الإمارة المارونية”، كمدخل لإعادة “الحضور المسيحي”؟ إن الولوج في مناقشة هذا الاتّجاه يُخرج المراجعة عن مسارها، ولا يؤدي إلى نتائج تُفكك الأزمة اللبنانية وتسعى لمعالجتها، وفي الحالتين سيُبقي البلد “أسير” انقساماته وحروبه العبثية.

نتيجة مؤلمة
ضمن هذا المسار، وصل الكتاب، موضوع المراجعة، بعد سلسلة الإسقاطات التي قدمها، إلى خُلاصة “صادمة”، ونتيجة مؤلمة، وقراءة “ذاتوية”. إذ اعتبر أن “أحداث 1860 كأنها كانت المقدمة التمهيدية للحرب اللبنانية التي بدأت عام 1975، والتي كان “اتفاق الطائف” آخر فصولها الأليمة، والتي لم تشهد خواتيمها بعد لأنها مستمرة منذ القرن التاسع عشر”.

إن ذكر هذه الخلاصة/النتيجة تبدو مؤشرًا واضحًا، للتدليل على المنحى الذي يعتمده الكتاب، موضوع المراجعة، رغم ما يتضمنه من “انفتاح” و”ليونة”. غير أن الدخول في مناقشة هذه الخلاصة/النتيجة يُدخل المراجعة في منحى آخر، وقد يُخرجها عن طبيعتها المحدّدة، خاصة، وأن “الحرب الأهلية اللبنانية”، هي موضوع قائم بذاته، له تشعباته، واتّجاهاته، وارتداداته، وأسبابه…، والإسقاطات الماضوية، رغم أهميتها، تُلغي، أو تهمش، أو تحجب الواقع والمعطيات التي فجرت الحرب من جهة، وتؤكد أن الجماعات اللبنانية، بعامة، لا تزال مسكونة في الماضي، وهواجسه، رغم طروحاتها الحداثوية من جهة ثانية. لكن الإصرار على هذه النتيجة/الخلاصة التي يصل إليها الكتاب تدفع للتساؤل: أين يمكن موضعة الدور الفلسطيني في هذه الحرب، طالما أن جذورها تعود إلى 1860؟

هذه نماذج محدّدة، دون الدخول في مقاربة الكتاب لأحداث 1860، بين الدروز والمسيحيين، ومناقشتها، إذ أظهر الكتاب الدروز، وكأنهم “دواعش”، بكلّ معنى الكلمة، لأن هذا الموضوع، حساس جدًا، وعلى قدر كبير من “الخطورة”، ومقاربة الكتاب لهذه المسألة، تنسف كليًا فكرة المصالحة الوطنية التي رعاها البطريرك نصر الله صفير، في منطقة الجبل، بعد الحرب الأهلية من جهة، والأخطر تبدو هذه المقاربة وكأنها تؤسس لحملة انتقامية، ثأرية، ضدّ الدروز، من جهة أخرى.

بناء على ما تقدم، تُعبر هذه الإسقاطات، عن انتقائية فاقعة، ونزعة تعصبية، وسعي حثيث لتبرئة الـ”ذات”، وإلقاء اللوم على الآخر في الوطن، وتدفع للاستنتاج، بأن النظرة إلى البلد، الوطن، الدولة، لا تزال مُرتكزة على فكرة “الإمارة”، بطابعها الطائفي البحت، والخاص، حيث الجماعات تتربص ببعضها البعض، وتتخندق ضدّ بعضها البعض، يُحركها “الشرخ” الداخلي، ويوجهها رفض الآخر. لذلك تبدو بعض هذه الجماعات غير راغبة، أو غير قادرة على التفلت من هذه الذهنية، للانتقال إلى المستقبل، وترسيخ فكرة الدولة، ممّا يجعل الآفاق أكثر سوداوية، بالرغم من كلّ خطابات التلاقي، والتآخي، والمحبّة، والتسامح، و”التعايش” المشترك…

شروخ متعددة
من هنا يُبيّن الكتاب، أن “الشرخ الماروني” لا زال مستمرًا، وفي أكثر من مفصل سياسي، بحيث تتعدد أنواعه ومظاهره. والانشراخات التي يمكن استخلاصها من الكتاب، موضوع المراجعة، لتوضيح استمرارية “الشرخ الماروني” عديدة منها، كنماذج، وعلى سبيل المثال، لا الحصر، الآتي:

  • التباين بين الزعيمين المارونيين، إميل إده، وبشارة الخوري. الأول، اعتبر وجود المسلمين، تهديدًا “للقومية المسيحية”، وطالب بتحجيم “لبنان الكبير”، والثاني، اعتبر أن لبنان “يُبنى بتعاون سكانه المسيحيين، والمسلمين، وبضرورة قيام علاقة وثيقة مع سوريا”. ويعتبر الكتاب أن هذا الشرخ تجسد، بشكل أو بآخر، في نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين، بين “التيار الوطني الحر”، و”القوات اللبنانية”. غير أن هذا التماثل يبدو غير طبيعي، ويتسم بانتقائية غير موضوعية.
  • مجزرة إهدن، في 13 حزيران 1978، حيث اعتبر الكتاب أنها “تُذكّرنا”، “بشرخ 1145، والذي استمر أربعمائة سنة”، كذلك يمكن القول بأن هذه المقارنة تبدو تضخيمًا للحدث، وخارج “المنطق”.
  • الموقف من “إسرائيل”، حيث طالب حزب “الكتائب اللبنانية”، بتوقيع معاهدة مع “إسرائيل”، بينما رفض سليمان فرنجية، أي تعاون أو تفاهم معها.
  • مجزرة الصفرا، بتاريخ 7 تموز 1980، التي قام بها بشير الجميل ضدّ “نمور الأحرار”، تحت شعار “توحيد البندقية المسيحية”.
  • المواجهة العسكرية الضارية “داخل المنطقة الشرقية”، في 31 كانون الثاني 1990، بين الجيش اللبناني، و”القوات اللبنانية”، التي سمّاها الجنرال عون حينها، “حرب توحيد البندقية”، واعتبرتها “القوات اللبنانية”، “حرب إلغاء”.

إضافة لذلك، يوجد شرخ وطني عام، من نماذجه:

  • الشرخ الذي بدأ حول هوية لبنان، منذ الإعلان عن “دولة لبنان الكبير”، ومرحلة الانتداب.
  • الشرخ نتيجة معركة الجبل، في مطلع العام 1983، حيث شبهها الكتاب بكونها متماثلة مع مجازر عام 1860، ضدّ المسيحيين، دون الإشارة إلى المصالحة الوطنية التي رعاها البطريرك صفير.
  • الشرخ الوطني بعد نهاية ولاية الرئيس أمين الجميل، والذي يُعتبر امتدادًا لما بدأ في العام 1975…
    أما على المستوى الإقليمي، فكان الشرخ الذي أعقب زيارة الرئيس المصري، أنور السادات إلى “إسرائيل”، في 19 تشرين الثاني 1978.

محطات التلاقي
يستعرض الكتاب، موضوع المراجعة، دون أن يتابع بدقة وعمق، ما استجد من تحولات في هذه الانشراخات، خاصة على المستوى الماروني بالتحديد. كما لا يلحظ، بالقدر المطلوب، مواقع التلاقي بين الأطراف المنشرخة في الوسط الماروني، وما حملته من دلالات، وأبعاد سياسية وطائفية… من هنا يمكن الإشارة إلى بعض المحطات التي كان فيها هذا الشرخ يلتئم، ويلتقي أطرافه حول مسألة مُحددة، ممّا يعني أن ما يعانيه الموارنة، هو “انقسامات” سياسية، واختلافات لها مُبرراتها وأسبابها، وليست شرخًا جيولوجيًا، لا إمكانية لجمع أطرافه، منها مثلًا، استنادًا للكتاب، وعلى سبيل المثال، لا الحصر:

  • بعد “اتفاق القاهرة”، وأمام تصاعد الخطر الفلسطيني على وجود الكيان اللبناني، “توحّدت النظرة المسيحية إلى مستقبل الوطن، وتحالف موارنة الشمال مع موارنة جبل لبنان في ردة فعل عفوية”. أي أنه حصل التحام “فرضته غريزة تنازع البقاء”. ويوضح الكتاب، موضوع المراجعة، أن هذا التضامن المسيحي تجلى في مظهرين:

الأول، نشأت مخيمات التدريب على السلاح في المناطق المسيحية، “منذرة بمواجهة شعبية مع الفلسطينيين”.
الثاني، قرر الحلف الثلاثي (الرئيس كميل شمعون، الشيخ بيار الجميل، والعميد ريمون إده)، دعم نائب زغرتا سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، والذي فاز على مرشح “النهج الشهابي”، إلياس سركيس. غير أنه يمكن التساؤل، في هذه النقطة، متى كانت النظرة المسيحية غير متوحدة للبنان؟

  • قيام “الجبهة اللبنانية”، المؤلفة من “حزب الكتائب”، و”الوطنيين الأحرار”، و”الكتلة الوطنية”، مدعومة من الرئيس سليمان فرنجية.
  • وحدة الموقف الماروني، من دخول الجيش السوري إلى لبنان، في نيسان عام 1976، حيث استعان “المسيحيون بالرئيس حافظ الأسد”، ليكون ما اعتبره الكتاب “المُنقذ من المشنقة الفلسطينية”.

من هنا لا يأخذ، على سبيل المثال، “الشرخ” بين التيار الوطني الحر، والقوات اللبنانية حيزًا في السرد. كما لا يأخذ، مثلًا، ما استجد بعد مجزرة إهدن، ومواقف سليمان فرنجية الابن، المتسامحة. لذلك توسع في سرد الأحداث وما ولدته من انشراخات، دون أن يلتقط “مسارات”، “التوحّد” و”الالتئام”، ليبني عليها، ويُحلل، بما فيه الكفاية، مخاطر “الشرخ”، سواء على الموارنة، أو على الوطن.

وبالتالي، لم يستطع الكتاب أن يفتح الآفاق المستقبلية الإيجابية، أمام “الماروني الحائر”، كما يُسميه. وهذا الانغلاق، وتضخيم مسارات الشرخ، سيكون مردودها سلبيًا، ليس على “الماروني الحائر” فقط، بل على الوطن برمته. لماذا؟ لأنه يتضمن شيئًا من التعبئة، والتحريض، والتذكير بالسلبيات، واستعادة المجازر، وكأن المشكلة، بالأساس، تكمن في الآخر، الجماعات الأخرى، في الوطن، فقط لا غير.

نرجسية فاقعة
إن الأجواء “التشاؤمية” التي يستحضرها الكتاب، موضوع المراجعة، تُحدّد موقفًا نقديًا تجاه ما يُسمّى “المارونية السياسية”. غير أن هذا التوجّه “النقدي” تُحاصره نرجسية فاقعة، ومتعالية، ومقطوعة الصلة بالواقع ومعطياته، ومتخيلة صورًا تاريخية غير موجودة.

مجال “النقد المُحاصر” يتمثل في أنه يعتبر أن “المارونية السياسية” مسؤولة، لدورها في “القضاء على نفسها”، حيث “انتهت بنشوب حرب أهلية دمّرتها ومزّقت “الميثاق الوطني” أو نظام العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين”، لافتًا إلى أن “ميثاق 1943” “سقط بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر وخروج جمهورية مصر العربية من عروبتها، إثر توقيع معاهدة الصلح مع “إسرائيل” عام 1980″.

لكن هذه المراجعة النقدية، التي تبدو “جريئة”، و”مميزة”، تأتي بشكل عابر، وبسيط، ومُحاصرة بأثقال الماضي، ومخاوف المستقبل، والقلق على الوجود. كيف؟ ولماذا؟ لتوضيح ما نذهب إليه، لجهة النرجسية، ومحاصرة النقد الذي يُقدمه، نستعرض، باختصار، توضيحه لتعبير “المارونية السياسية”.

يعتبر، الكتاب، موضوع المراجعة، أن تسمية “المارونية السياسية”، التي أطلقها بعض المؤرخين على الطبقة السياسية التي حكمت لبنان، طوال سبع وأربعين سنة (1943 – 1990)، تبدو “غير دقيقة”. لماذا؟ لأن “تلك الطبقة السياسية لا تُشبه على الإطلاق حكّام الأنظمة السابقة في تاريخ الموارنة”. أي أن هذه “الطبقة”، ليست من سلالة “المقدمين”، ولا هي من “الأمراء الإقطاعيين”، ولا من “البرجوازية المثقفة”. إنهم “فئة خاصة من السياسيين صنعتهم مدرسة الغرب “النيو – مادية”. إنهم “خلطة سياسية متعدّدة المذاهب..”، همها مصالحها، و”مصالح رُعاتها”، استغلّت “الدعم الغربي” لتتحكم بمصير الوطن، وقادت الدولة، في ركاب السياسة الغربية “مغمضة العينين، ومن دون أن تؤمّن المصلحة الوطنية العامة”.

هذا التوضيح يوقعنا في مطبات خطيرة، على الأقل، كونه يُجرد “حكام الموارنة” السابقين، في القرن التاسع عشر، وما قبله، من المصالح، والعلاقة بالغرب، ويتباهى بأنهم ليسوا من “مذاهب متعددة”، وهم إقطاعيون، ومقدمون…الخ.

كما إن هذا التعميم “المُطلق” تطال شظاياه زعماء الموارنة كافة، الذي واكبوا قيام “دولة لبنان الكبير” ومرحلة الاستقلال، ممّا يدحض كلّ ما أورده النص من مواصفات إيجابية عنهم، ويكاد “يخوّن” كلّ من مارس العمل السياسي منذ الاستقلال، على أقل تقدير، والكتاب غير قادر على تحمّل أي نقد يتعلق بالجماعة المارونية، ويُحمّل مصطلح “المارونية السياسية”، كتعبير توصيفي سياسي يطال مرحلة سياسية مُحددّة، أكثر مما يحتمل ويتضمن. وفي النتيجة يمكن التساؤل، إلى أي حد يمكن لهذا التوجّه أن يتفاعل مع الآخر، أو يتصالح معه؟

التحضير لانفجار قادم
يستكمل الكتاب، موضوع المراجعة، هذا النمط من “المغالاة” في توصيف الأوضاع السياسية، منذ مرحلة الاستقلال، وصولًا إلى 1990، من حيث المبدأ، حيث كان “اتفاق الطائف” كارثة الكوارث. ويُقدم هذا العرض في سياق سردي، وسلس، وغني بالمعطيات. ويستعرض “عهود” رؤساء لبنان، منذ الاستقلال وهم: بشارة الخوري، كميل شمعون، فؤاد شهاب، شارل الحلو، سليمان فرنجية، الياس سركيس، أمين الجميل، الأمر الذي يوفر للقارئ العديد من الأحداث والوقائع، والمعلومات، الهامة، والضرورية. لذلك تبدو متابعة هذه المحطات التاريخية، أقرب لنوع من العرض المُلخص لمرحلة الاستقلال. لكن ما هي النتيجة/النتائج، والخُلاصات التي يمكن استخلاصها من هذا العرض؟

تتعدد في هذا العرض الخُلاصات، والنتائج التي يمكن تحديدها، لكن من الممكن الإشارة، وباختصار، إلى الآتي.

  • يحاول الكتاب التأكيد على أن لبنان لم يشهد أبدًا معنى الاستقرار كغيره من “الدول المتحضرة”. غير أن هذه المقارنة بين لبنان، و”الدول المتحضرة”، تبدو مقارنة غير دقيقة، وغير موضوعية. لماذا؟ لاختلاف وضعية لبنان، على الصُعد كافة، عن هذه “الدول المتحضرة”، الأمر الذي يجعل مثل هذه المقارنات “صرخة في واد”، لا تُؤتي ثمارها المرجوة، كونها تقفز عن الواقع، وتعيش في الخيال، والأوهام.
  • يعتبر الكتاب أن الموارنة في لبنان، منذ أن تركوا “سهول سورية الخصبة وانتقلوا في هجرة جماعية عام 685 ليستوطنوا جبال لبنان الصخرية القاحلة الوعرة… التي لا تصلح للزرع”، آثروا “العذاب” و”التشرد”، و”فقر الوعر” للحفاظ على “الحرية والتمسّك بالمعتقدات”. وبالتالي لم يعرف الموارنة “حقبة واحدة من الاستقرار والازدهار” إلا في “الإمارة اللبنانية”، على يد الأمير بشير الثاني في القرن التاسع عشر. واليوم يمر الموارنة، كما الماضي، بـ”أزمة لا تختلف كثيرًا عن الأزمات التي تعرضوا لها في الزمن المملوكي أو الزمن العثماني”.!

في هذه الأجواء “العاصفة” يقف “الماروني الحائر” يتلمّس “طريق النجاة مغمض العينين ويتساءل في أعماقه خائفًا”. أي أن “الماروني”، في هذه المرحلة، تكثر لديه التساؤلات، وتقل الأجوبة، ممّا يجعله يسير في “نفق” يزداد عتمة بعد “اتفاق الطائف”، وهذا “يقود المسيحيين نحو المجهول أكثر فأكثر”.

ضمن هذا التوصيف “المخيف” و”المؤلم” و”الخطير”،…. الذي يُقدمه متن الكتاب، يمكن التساؤل عن “حقيقة”، و”موضوعية”، و”دقة” ما عرضه، وإلى ماذا يريد الوصول. هل يهدف لإعادة “الإمارة اللبنانية المارونية”، وإلغاء فكرة الدولة؟ هل حقيقةً أن الموارنة في لبنان خاصة، والمسيحيين عامة، يعيشون هذه الوضعية؟ كيف يمكن تطمين الموارنة، والمسيحيين؟ هل المقصود السير بـالـ”تقسيم” ليستعيد الموارنة الاستقرار، الذي عرفوه (لفترة قصيرة)، في عهد الأمير بشير الثاني؟ هل الأزمة “الوجودية” التي يمر فيها البلد وناسه، محصورة بالموارنة والمسيحيين؟ أين الجماعات اللبنانية الأخرى؟ أين الدعوة للمحاسبة؟ لماذا إلقاء اللوم على الآخر، وتبرئة الذات؟… عديدة، بل كثيرة، هي الأسئلة التي يمكن طرحها، لكن الكتاب قدم الجواب، باعتباره “اتفاق الطائف” “القشة التي قصمت ظهر البعير”، حيث تخلّى المسلمون فيه عن المسيحيين.

  • يؤكد الكتاب، دون مواربة، أو “مسايرة”، أن “اتفاق الطائف”، أسقط “المارونية السياسية”، التي كان قد اتهمها بأبشع النعوت، وتبرأ من اعتبارها “مارونية”، فتحول، بعد “اتفاق الطائف”، “الماروني الحاكم” إلى “ماروني حائر”، وظهرت “السنيّة السياسية”، و”الحريرية السياسية”، ودخل “العنصر الفارسي”، الذي تحول إلى “مارد شيعي”. معتبرًا أن هذا المارد “لم يكن له أي وجود في “الميثاق الوطني” 1943، غير أنه فرض نفسه “شريكا أساسيًا” في “اتفاق الطائف”. دون أن يُدرك، الكتاب، موضوع المراجعة، أو يُشير، إلى أن “الاتفاق الوطني”، انحصر، عمليًا، بالطائفة المارونية، والطائفة السنّية، كممثلين عن باقي الطوائف، لاعتبارات متعددة. فهل يجوز، مثلًا، استخدام هذا الخطاب الاستعلائي على الآخرين؟ وهل يمكن تصور أن الكتاب يستكثر على الطائفة الشيعية”، وبالتأكيد على الجماعات اللبنانية الأخرى، كما سيأتي في سياق المراجعة، أن تكون من اللبنانيين؟
    وعليه، فإن المسلمين في “اتفاق الطائف”، تنكروا لما كانوا قد التزموا به تجاه الموارنة والمسيحيين عامة، حيث سحبوا “صلاحيات رئيس الجمهورية”. دون أن يُشير الكتاب إلى طبيعة هذه الصلاحيات، ودون السؤال عن طبيعة الصلاحيات التي كان يتمتع بها رئيس الجمهورية قبل الطائف، ولماذا لا يقوم اللبنانيون “المتحضرون” بالحوار في ما بينهم، دون تدخلات خارجية، لإعادة تحقيق نوع من “التوازن”، أو تفعيل المشاركة في السلطة؟.

لذلك اعتبر الكتاب، موضوع المراجعة، استنادًا إلى مراجع، أن “اتفاق الطائف” هو “زورق إنقاذ مثقوب”، في بحر هائج، يهدف إلى “إيصال لبنان إلى بر الأمان”. فهل يمكن تحقيق هذا الهدف؟ إن مجمل ما تقدم ألغى، بالنسبة للكتاب، دور “المارونية السياسية”. لكن هل تنحصر المسؤولية بـ”المسلمين” فقط؟ وهل يمكن تحميل “اتفاق الطائف” كامل المسؤولية؟ ولماذا لا تعمد “الجماعات اللبنانية” إلى تطبيق هذا الاتفاق والتفاهم على تطوّره؟ لماذا حصل ما حصل؟ ما هو السبب الأساس للوصول إلى أن يُصبح “الماروني حائرًا”؟

  • يوضّح الكتاب، موضوع المراجعة، أن المسلمين في “اتفاق الطائف”، انتزعوا من المسيحيين ما كانوا قد أعطوه لهم في “الميثاق الوطني”، المعروف بـ “ميثاق 1943”. فكان الأول (الطائف)، إعلان وفاة للثاني “الميثاق الوطني”. غير أن الأزمة أعمق وأكثر خطورة. كيف؟ ولماذا؟

يعتقد الكتاب أن “المسلمين الذين رفضوا صيغة لبنان الكبير وطالبوا بالانضمام إلى المملكة العربية بقيادة فيصل”، لم “يتغيّروا” ولم تتبدل، أو تتغير مشاعرهم. هذا “الفريق ما زال مستمرًا في معارضته للكيانية اللبنانية المستقلة”، لدرجة اعتبر أن “الوطن الجديد”، أي “لبنان الكبير”، و”دولة الاستقلال”، “جرح لم يندمل في قلوب العروبيين”، وكأن “لبنان الكبير” “عضو غريب زُرع قسرًا في الجسم العربي… لم يتأقلّم العروبيون مع الكيان اللبناني”، لذلك لا زالوا “يتحَّينون الفرص لاستئصاله”.

إن هذه النظرة المغالية في تطرفها، وتعصبها، والمستقرة في الماضي، والمشككة بلبنانية اللبنانيين من الطوائف غير المسيحية تتناسى، أو تتجاهل كلّ ما حصل من تطوّرات داخلية، وإقليمية، ودولية… بل تُنكر على هذه الجماعات، أو تستكثر عليهم أن يكونوا لبنانيين. لذلك يؤكد الكتاب أنه منذ “مئة سنة… ولا شيء تغيّر”. فهل يمكن القبول بهذا الجمود؟ وإلى ماذا يمكن أن يصل في عرضه لهذا النظرية المتطرّفة؟ هل يمكن، بعد مئة سنة، التنكر لما حصل من تطوّر، وتغيير؟ وكيف؟ لماذا الإصرار على رفض استيعاب التحولات في الجماعات اللبنانية؟ ولماذا الإصرار على إبقاء هذه الجماعات وكأنها خارج التاريخ؟

عديدة التساؤلات التي يطرحها مضمون الكتاب، وعلى أكثر من مستوى، لكن من الصعوبة، إذا لم نقل الاستحالة، مناقشتها، لأنها قابعة في “عليائها”، مستوطنة في “كبريائها”، مستقرة في “أحلام اليقظة”، رافضة الآخر جملة وتفصيلًا.

إن مجمل المقارنات التي يعرضها الكتاب، لا زالت سجالًا بين الجماعات اللبنانية، ومواضيع خلافية في الأوساط السياسية والطوائفية في لبنان، الأمر الذي قد يحول دون الحوار والمناقشة، وبالتالي، دون الوصول إلى أية نتيجة، لأسباب مختلفة ومتعددة، من أبرزها: الخلفية الطائفية، عدم المقدرة على الحوار، غياب فكرة الدولة، عدم التنازل للمصلحة العامة، عدم استيعاب البعض لفكرة التطور المجتمعي، استقرار هذا الطرف أو ذاك في ماضيه، واعتباره الأنصع، والأرقى، والأصح… التعامي عن الواقع ومعطياته، إذا لم نقل تجاهل البعض للواقع، وحجبه.

من هنا فإن الكتاب يبدو مُفيدًا، رغم الملاحظات النقدية التي تم عرضها في هذه المراجعة، لأنه يُفصح عن مكنونات الذات، الأمر الذي قد يجعله، ويجعل غيره من الكتب، مدخلًا للمزيد من معرفة الذات والآخر في الوقت نفسه، سعيًا لتجنب انفجار أمني جديد.

موقع العهد

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد