د. أكرم شمص | خاص الناشر
شهدت المناظرة الرئاسية الأولى بين كامالا هاريس ودونالد ترامب مواجهة كلامية محتدمة لم تقتصر على الملفات الداخلية الأميركية مثل الاقتصاد والهجرة، بل امتدت لتشمل قضايا دولية حساسة، أبرزها الحرب في أوكرانيا والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. هذه المواضيع، التي تمثل محورًا هامًا في السياسة الخارجية الأميركية، لم تكن مجرد نقاط نقاش، بل قضايا عميقة أثارت مشاعر قوية لدى الجمهور المتابع. في هذا المقال، سنحلل أداء المرشحين تجاه هذه الملفات، بالإضافة إلى استخدامهما للغة الجسد في إرسال رسائل سياسية وجذب دعم الناخبين.
الشرق الأوسط: دعم “إسرائيل” والصراع الفلسطيني
لطالما كان دعم الولايات المتحدة لـ”إسرائيل” محورًا ثابتًا في السياسة الخارجية الأميركية، وهو ما ظهر بوضوح خلال المناظرة. تناول كلا المرشحين الملف الإسرائيلي – الفلسطيني بحذر، ولكن من منظورين مختلفين يعكسان رؤية كلّ منهما لعلاقة أميركا بالشرق الأوسط.
كامالا هاريس: دعم ثابت لـ”إسرائيل” مع دعوة لإنهاء الحرب
خلال المناظرة، أكدت هاريس دعمها الثابت لـ”إسرائيل” في إطار “حقها في الدفاع عن نفسها”، وهو موقف معروف للديمقراطيين، ولكنه جاء محاطًا بموقف أكثر توازنًا من الصراع. أشارت إلى ضرورة إنهاء الحرب بين “إسرائيل” وحماس فورًا، داعية إلى وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن. كانت لغة جسد هاريس هنا هادئة ومتعاطفة، حيث استخدمت إيماءات معتدلة لتؤكد حرصها على إنهاء العنف، مع الحفاظ على التزامها بدعم “إسرائيل”.
في هذا السياق، شددت هاريس على أهمية حل الدولتين، وهو الحل الذي تدعمه إدارة بايدن والهياكل الدبلوماسية الأميركية، قائلة: “أؤكد لكم أنني سأعطي “إسرائيل” دائمًا الفرصة للدفاع عن نفسها”. تلك العبارة جاءت مصحوبة بإيماءات محسوبة تعكس التفاني والتزامها بمسار دبلوماسي قد يحاول تهدئة الأوضاع، ولكن من دون التخلي عن دعم “إسرائيل”.
دونالد ترامب: اتهامات بالكراهية وتجاهل للفلسطينيين
في المقابل، شن ترامب هجومًا لاذعًا على هاريس، متهمًا إياها بـ”كراهية “إسرائيل””. ذهب إلى أبعد من ذلك بقوله إن “إسرائيل” ستزول خلال عامين إذا فازت هاريس بالرئاسة، مستخدمًا لغة جسد غاضبة وحادة للإشارة إلى ما يعتبره تهديدًا وجوديًا لحليفته الأقرب في الشرق الأوسط. من الواضح أن ترامب كان يسعى لاستمالة الجمهور الذي يعتبر الأمن الإسرائيلي خطًا أحمر.
لكن المثير للاهتمام هنا هو تجاهل ترامب الكامل تقريبًا للقضية الفلسطينية، إذ ركز فقط على دعم “إسرائيل” دون الإشارة إلى ضرورة التوصل إلى حل عادل أو حتّى وقف القتال. استخدامه للتعبيرات القاسية والمبالغة في التهديدات جعل خطابه يبدو غير متوازن، مقارنة بهدوء هاريس، التي قدمت نفسها على أنها مرشحة تفهم تعقيدات الصراع وتسعى إلى تحقيق حل متوازن.
القضية الفلسطينية: غياب من النقاش
في حين ركز النقاش على دعم “إسرائيل”، لم تحظَ القضية الفلسطينية باهتمام كبير من كلا المرشحين. هاريس أشارت بشكل مقتضب إلى مقتل الفلسطينيين الأبرياء في سياق دعواتها لإنهاء الحرب، ولكن لم تقدم رؤية واضحة لحل يعالج طموحات الفلسطينيين الوطنية أو قضايا حقوق الإنسان. أما ترامب، فقد تجاهل الجانب الفلسطيني تمامًا، ولم يشر إلى أي خطوات لحل النزاع من منظور فلسطيني.
يظهر هذا الغياب في النقاش عن القضية الفلسطينية أن كلا المرشحين يسعى لعدم تعقيد موقفه تجاه “إسرائيل” أمام الناخب الأميركي، الذي يميل كثيرًا لدعم “إسرائيل”. ومع ذلك، فإن غياب الرؤية لحل عادل وشامل للصراع يعكس حالة الجمود التي تعاني منها السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط.
أوكرانيا وروسيا: اختلاف الرؤية وتباين في لغة الجسد
قضية الحرب في أوكرانيا كانت محورًا آخر من النقاش، حيث أظهرت المناظرة تباينًا كبيرًا بين رؤية كلّ من هاريس وترامب للحل وكيفية التعامل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
كامالا هاريس: دعم أوكرانيا والتعاون الدولي
عندما تحولت المناظرة للحديث عن أوكرانيا، استمرت هاريس في استخدام لغة الجسد التي تعكس الثقة والاستقرار، مشيرة إلى أن إدارة بايدن نجحت في جمع تحالف دولي من 50 دولة لدعم أوكرانيا في وجه العدوان الروسي. ركزت هاريس على أهمية التعاون الدولي وضرورة استمرار دعم أوكرانيا حتّى تحقيق حل يضمن سيادتها.
لغة جسد هاريس خلال هذا الجزء من المناظرة كانت توحي بالثقة والاطمئنان. تواصلها البصري المباشر مع الكاميرا أثناء حديثها عن أوكرانيا كان يهدف إلى كسب ثقة الناخبين الأميركيين، وخاصة أولئك الذين يخشون تصاعد الصراع إلى حرب عالمية جديدة. استخدمت هاريس إيماءات دقيقة لتعكس قدرتها على التعامل مع هذه الأزمة الدولية بواقعية وتوازن.
ترامب: تودد لبوتين وحل سريع
على الجانب الآخر، قدم ترامب نفسه كمرشح قادر على إنهاء الحرب بسرعة، مؤكدًا معرفته العميقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. قال ترامب إنه يستطيع التوصل إلى اتفاق مع روسيا قبل حتّى أن يصل إلى البيت الأبيض. هذه التصريحات جاءت مع لغة جسد توحي بالثقة بالنفس ولكن أيضًا بنوع من التباهي بالقدرة الشخصية على التعامل مع زعماء العالم.
لكن التودد الواضح الذي أظهره ترامب تجاه بوتين قد يكون مقلقًا للكثير من الناخبين، خاصة مع اتهامه سابقًا بالتساهل تجاه روسيا. حركات يديه المتكرّرة وتعابير وجهه أثناء الحديث عن بوتين أظهرت رغبة واضحة في التميّز عن هاريس من خلال التأكيد على قدراته التفاوضية. إلا أن بعض المحللين قد يرون أن لغة جسده المبالغ فيها تعكس نوعًا من الضعف أو الرغبة في إثبات الذات بطريقة غير مبررة.
التوتر بين الإستراتيجيات: تأثير لغة الجسد على قضية أوكرانيا
من الواضح أن قضية أوكرانيا أظهرت اختلافًا كبيرًا في الإستراتيجية بين المرشحين، مع تركيز هاريس على التحالفات الدولية والدبلوماسية، بينما ركز ترامب على شخصيته القوية وعلاقته ببوتين كحل للأزمة. لغة الجسد لكل منهما كانت معبرة عن هذه الإستراتيجيات، حيث بدت هاريس أكثر واقعية وحذرًا، بينما اعتمد ترامب على استعراض قوته وثقته الزائدة.
نتائج وتأثير المناظرة على الناخبين
النتائج الأولية بعد المناظرة تشير إلى تفوق واضح لهاريس في استطلاعات الرأي، حيث أظهرت أن 63% من المشاهدين يرون أنها قدمت أداءً أفضل، مقارنة بـ 37% لترامب. يمكن تفسير هذا التفوق بأن هاريس نجحت في الحفاظ على هدوئها وثقتها في مواجهة استفزازات ترامب، خصوصًا في ما يتعلق بالملفات الحساسة مثل “إسرائيل” وأوكرانيا.
لكن ترامب لا يزال يحتفظ بقاعدة دعم قوية بين الناخبين الذين يرون في خطابه الحازم ونهجه الشخصي في السياسة الخارجية وسيلة لتحقيق نتائج سريعة. قد يكون تأثير لغة جسده العدوانية عزز من قناعته بأنه المرشح القوي، لكنّه قد يفقد بعض الناخبين الوسطيين الذين يبحثون عن حلول أكثر توازنًا وهدوءًا.
الرؤية المتكاملة وتأثير لغة الجسد على السياسة الخارجية
إذا نظرنا إلى المناظرة من منظور أوسع، فإن لغة الجسد لم تكن مجرد وسيلة للتعبير عن الثقة أو القوّة، بل كانت جزءًا من إستراتيجيات كلّ مرشح في التعامل مع السياسة الخارجية. هاريس استخدمت لغة جسد هادئة ومنضبطة لتعكس فهمًا عميقًا وتعاطفًا مع القضايا العالمية، بينما اعتمد ترامب على لغة جسد عدوانية واستعراضية للتأكيد على قدرته على السيطرة والتفاوض.
النتيجة النهائية للمناظرة هي أن الجمهور تلقى رسائل مختلفة من كلا المرشحين، بناءً على كيفية تفاعلهم مع لغة الجسد واستخدامها في تقديم رؤيتهم السياسية. من الواضح أن هاريس قد نجحت في تعزيز صورتها كقائدة مستقرة ورصينة قادرة على التعامل مع الأزمات العالمية بحكمة، بينما ظهر ترامب بمظهر المرشح الذي يعتمد على الاستفزازات والعلاقات الشخصية لتحقيق أهدافه.
الخاتمة: بين التوازن والاستعراض في السياسة الخارجية
في نهاية المطاف، لا يمكن إنكار أن ملفات الشرق الأوسط وأوكرانيا ستكون حاسمة في تحديد نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. لغة الجسد لكل من هاريس وترامب في المناظرة أظهرت تباينًا واضحًا في كيفية رؤية كلّ منهما للعالم والتعامل مع القضايا الدولية. كلا المرشحين استخدم لغة الجسد كأداة للتعبير عن شخصيته السياسية، مما أثر بشكل مباشر على كيفية تلقي الجمهور لأفكاره وبرامجه.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.