عماد يونس – خاص الناشر
شكل صعود حزب الله، وتنامي دوره، محليًّا واقليميًّا أحد أبرز المعضلات الاستراتيجية التي واجهت، ولا تزال، كلًّا من تل أبيب وواشنطن على حد سواء. اختبر الجانبان، على مدى أعوام خلت، صنوفًا شتى من الخطط المضادة في وجه حزب الله، وجندا في سبيل “المهمة الكبرى” أحدث ما توصلت إليه العلوم والتكنولوجيا العسكرية، وأبرز خبرائهما المتخصصين في رسم استراتيجيات وتكتيكات الحرب بشكليها الدموي “الخشن” و”الناعم” الذي لا يقل دموية، وإن بغير بصمات مباشرة في مسرح المواجهة مع التنظيم اللبناني.
بدت حرب تموز عام ٢٠٠٦، أحد أبرز تجليات النوع الأول، ليتحول مسار تلك المواجهة بعدها إلى النوع الثاني. وبعدما كان الرهان على ضرب حزب الله على يد أعدائه، بات الرهان معقودًا على ضرب الحزب من الداخل اللبناني، وتحديدًا من داخل بيئته الاجتماعية والمناطقية، أو ما يسمى “المجتمع الشيعي”، معطوفًا على مرحلة سابقة ركزت على تشويه صورة الحزب أمام المكونات اللبنانية الأخرى من خلال توظيف أحداث العام ٢٠٠٨ في غير سياقها السياسي والميداني وقتذاك، وصولًا إلى دفع بعض الأنظمة والإعلام الرسميين باتجاه “شيطنة” الحزب في الشارع العربي عقب اندلاع الأزمة السورية.
فلم يعد خافيًا مخطط الولايات المتحدة لتشويه صورة “حزب الله”، وهذا ما اقر به السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان، حين تحدث عن إنفاق واشنطن أكثر من 600 مليون دولار بعد حرب العام 2006 لهذا الغرض، وهو تصريح عادت لتؤكده وثائق ويكيليكس في وقت لاحق حين كشفت تفاصيل إضافية عن نجاح السفارة الأميركية في لبنان في تجنيد عدد من الشخصيات الشيعية، وجلهم من الناشطين السياسيين، والعاملين لدى منظمات المجتمع المدني، الذين تولوا تقديم تقارير دورية لمشغليهم في عوكر حول نشاطات “حزب الله”، وكل ما يمكن أن يفيد عن الدورين السياسي والعسكري للحزب.
منذ البدء، بدت الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، عاقدتي العزم على استخدام شتى الوسائل لتوهين عدوهم الاستراتيجي سياسيًّا واعلاميًّا بعدما فقدت أدوات التعامل العسكري المباشر معه فعاليتها في إخراجه من دوره الوطني والقومي. في المقابل، لم يبدُ الراغبون في الانخراط ضمن المخطط العدواني على الحزب، الذي يعد محل تقدير كبير لدى قطاعات واسعة من الشعب اللبناني لدوره في انجاز تحرير لبنان من الاحتلال “الاسرائيلي” عام ٢٠٠٠، والتهديد التكفيري عام ٢٠١٧، أقل ترددًا في القبول بمهمتهم الجديدة. ولم يكن مستغربًا البتة أن يكون من ضمن هؤلاء “المتعاونين الجدد” مع المشروع الاميركي “الاسرائيلي” الجديد شخصيات سياسية واعلامية وثقافية ودينية، لا سيما من الشيعة، باعتبار أنهم الأقدر على فهم ذلك “المجتمع الشيعي” بتعقيداته المتشعبة على كافة المستويات الفكرية، والاجتماعية، والسياسية، والعقائدية الدينية. وكجزء من هذا التوجه، تنبري بعض تلك الشخصيات ممن يحسبون أنفسهم على “النخبة الشيعية” لتناول الواقع اللبناني، وبخاصة واقع المجتمع الجنوبي، الشيعي بغالبيته، وفق منظور يعكس تحاملًا واضحًا على الحزب، ودوره في الحياة السياسية اللبنانية. فتلك الشخصيات، تنطلق من مقاربة تميل إلى تحميل الحزب أعباء كافة المشكلات السياسية والاقتصادية وأوزار الازمتين المعيشية والاجتماعية اللتين يعيشهما لبنان، وتسند ادعاءاتها من خلال سرد معطيات تزاوج بين “التجهيل المقصود” و”التبسيط العام والمفخخ” من دون أن تستثني استدعاء عنصر الخيال لإقناع الجماهير بوجود ما يسمى “احتلالًا إيرانيًّا” أو “دولة لبنانية تابعة لمرجعية ولاية الفقيه” في اشارة إلى تضخيم متعمد لحضور الحزب “المؤسساتي” في أجهزة الدولة، بوصفه إلى جانب حركة أمل، ممثلًا أساسيًّا للمكون الشيعي، اسوة بحضور أحزاب سياسية أخرى داخل البنى المؤسساتية الرسمية، من بوابة تمثيلها لمكون آخر من النسيج اللبناني.
المؤسف أن بعض هؤلاء ممن يوصفون بـ”شيعة السفارة” المتنكرين لنضالات المقاومة -التي لم يدّعِ حزب الله يومًا أنها حق حصري له- في تحرير مدن وبلدات لبنانية ينحدرون منها، على غرار الباحثة في “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى” حنين غدار، المعروفة بمواقفها المؤيدة للتطبيع، ذهبوا بعيدًا في مداهنة القيمين على مشروع العداء لـ”حزب الله”، ذلك أن الأخيرة، وفضلًا عن حضورها غير مرة جلسات في الكونغرس حول سبل مواجهة حزب الله، شاركت في إحدى ندواتها، حول دور الحزب، بحضور ضابط في جيش الاحتلال “الاسرائيلي”. فغدار، حسمت موقفها من السير في أحدث حلقات مشروع التطبيع المعروفة راهنًا تحت عنوان “اتفاقات أبراهام”، ودعاته ورعاته الإقليميين والدَوليين، كانت في عداد المشاركين في فعاليات ورشة بعنوان “تفكيك شيفرة حزب الله”، من تنظيم مركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية عام ٢٠١٨.
وفي ندوة أخرى، عقدها مؤخرًا معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى” تشاركت غدار معطياتها مع ماثيو ليفيت، وهو مسؤول استخباري أميركي سابق، حيث شغل بين عامي ٢٠٠٨ و ٢٠٠٩ منصب مستشار وزارة الخارجية لمكافحة “الإرهاب” للمبعوث الخاص للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط (SEMERS)، اضافة إلى شغله منصب نائب مساعد وزير الاستخبارات والتحليل في وزارة الخزانة الأميركية بين عامي ٢٠٠٥ و ٢٠٠٧. أما اليوم، فهو باحث في المعهد ومدير برنامج لمكافحة الإرهاب والاستخبارات، ومُنشئ خريطته التفاعلية حول نشاطات “حزب الله” في جميع أنحاء العالم.
وخلال الندوة، “نضح إناء” غدار بكيل تحريضي على حزب الله، لا يخلو من تشويه للحقائق، حين اختزلت موقف الجنوبيين بمشهد بعضهم وهم ينثرون الارز والورود على قوات الاحتلال حين غزت لبنان مطلع الثمانينيات تحت ذريعة مكافحة التنظيمات المسلحة الفلسطينية. في حقيقة الأمر، ورغم بعض اوجه التحفظ في البيئة الجنوبية حيال نشاط تلك التنظيمات في ذلك الوقت، إلا أن اللبنانيين عامة، والجنوبيين خاصة، لم ينظروا يومًا إلى الجيش “الإسرائيلي” على أنه قوة “تحرير”، كما تردد غدار.
شخصية شيعية أخرى في الندوة عينها، هي منى فياض، الناشطة السياسية، والأستاذة الجامعية. ففياض، عرف عنها لفترة طويلة حملها لواء القضية الفلسطينية وإدانة الاحتلال الإسرائيلي، قبل أن تتحول، من حيث تدري أو لا تدري، إلى أشرس أدوات هذا الاحتلال في معركته مع المقاومة في لبنان. ففي مداخلتها “الافتراضية”، التي نظمها المعهد المعروف بصلاته بالدوائر الأمنية والسياسية في واشنطن، تذهب فياض، وبسوء نية بقصد التهجم على دور الحزب الاجتماعي واعطائه لبوسًا تسلطيًّا شموليًّا على غرار ما يعرف بـ”هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” داخل السعودية، للقول إن “حزب الله” فرض تغييرًا على “التعبير الفني والثقافة وأشكال اللباس التي يعتمدها شيعة لبنان بصورة تقليدية”، متجاهلة أن الجنوب لم يتوقف يومًا عن تخريج المبدعين في الفن والثقافة، لا سيما في مجال الادب والشعر، رغم تبني بعض هؤلاء مواقف معارضة للحزب، وتمسك بعضهم الآخر بملاحظاتهم حيال بعض السلوكيات السياسية له. كما أن الجنوب، الذي لا يزال يحتفظ بدوره كحاضرة اساسية، يعج إلى اليوم بالمنتجعات السياحية ومراكز الترفيه اضافة الى محلات الالبسة، على انواعها، المحلية منها والعالمية، الامر الذي يدل على أن تعليقات فياض تجانب الصواب الى حد كبير. وإذا كان قطاع كبير من أنصار الحزب، لديهم قناعات معينة فيما يخص العادات الاجتماعية، والثقافة، واللباس، فإن الأمر لا يعدو كونه نابعًا من العقيدة الدينية لهؤلاء بالنظر إلى كون الحزب يعبر عن نفسه كـ”مجتمع مؤمنين”، وهو أبسط حقوق التعبير والحريات الأساسية التي يكفلها الدستور اللبناني، وليس نابعًا من قرار على مستوى القيادة في طهران، كما تزعم فياض.
وفي معرض تناولها لدور الحزب، تشير فياض إلى أن حزب الله، خالف دستور الطائف، من خلال احتفاظه بسلاحه، باعتبار أن الاتفاق نص على نزع سلاح الميليشيات اللبنانية. الصحيح أن توصيف الميليشيات ينطبق على الفصائل المسلحة التي انخرطت حتى أذنيها في الحرب الاهلية اللبنانية، و”تفننت” في تنفيذ عَمليات القتل والاعتقال والاغتيال والذبح على الهوية، بعضها جماعات تقف اليوم في الخندق ذاته مع فياض، وتحت إمرة “ولي النعمة” نفسه. ولم يكن مقصودًا على الاطلاق، وفق نص الطائف، نزع سلاح المقاومة التي كان لها الفضل الاكبر في تحرير الجزء الاكبر من المنطقة المحتلة جنوب لبنان والبقاع الغربي. كما أن فياض “تتبجح” بأن الحزب “يتذرع بضرورة استمرار المقاومة ضد إسرائيل”، وكأن خطر الكيان الصهيوني المعادي للبنان منذ نشأته هو محض افتراء، أو كأنه غاب عن ذهن فياض أن اأرضًا لبنانية وجزءًا من شعبها لا يزالان يقبعان تحت نير الاحتلال!
وعلى صعيد الممارسة السياسية، تابعت فياض حفلة تجنياتها على الحزب، زاعمة أن الأخير ابتدع مفهوم ما وصفته بـ”الثلث المعطل”، أو ما يعرف بـ “الثلث زائدًا واحدًا”، علمًا أن الدستور اللبناني تحدث بصراحة في نص المادة ٦٥ عن ذلك. وبحسب المادة عينها، فإن النصاب القانوني لانعقاد جلسات مجلس الوزراء اللبناني، يتمثل بثلثي أعضاء الحكومة، حيث تتعطل الجلسات في غياب “الثلث+1″، ولا يمكن اتخاذ قرار في المواضيع الأساسية في غياب أغلبية الثلثين.
في الواقع، يناقض ما عرضته فياض، ما تروجه من مزاعم، ذلك أن كلامها يثبت أن حزب الله ملتزم بقواعد اللعبة السياسية والدستورية في لبنان، أي الدستور، وليس العكس، كما تروج فياض “ومن لف لفها”. ولعله كان أجدى لفياض، التي تزعم حرصها على مصالح أبناء طائفتها، إدانة حكومة فؤاد السنيورة، التي حظيت بغطاء واشنطن وبعض الأنظمة العربية التي تدور في فلكها، حين ضربت عرض الحائط بالقواعد الدستورية المعمول بها، نصًّا وعرفًا، وخالفت مقتضيات العيش المشترك، والوفاق الوطني من خلال استبعاد المكون الشيعي من معادلة الحكم عام ٢٠٠٦.
وكنوع من الاصرار على نهج التعمية، تسوّق فياض ما يسوّقه غيرها من” السياديين الجدد” حول وقوع لبنان تحت الاحتلال الايراني، وهي ادعاءات مثيرة للضحك قبل أي شيء آخر.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.