ستّار محمودي* – خاص الناشر
مقدمة
كثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن بدْء العمليّات البريّة التركيّة في الشمال السّوري. يتّجه الرّئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان إلى شنّ حملة جديدة في سوريا في ظل تهديدٍ آخرٍ انطلق عبر الجماعات المُسلّحة الكرديّة. في غضون ذلك، أعلنت الدول المُتواجدة في سوريا، أي إيران وروسيا والولايات المتحدة، معارضتها لهذه العمليّة العسكرية. كما أعلنت الحكومة السوريّة أنها ستتعامل مع الهجمات التّركية. وهنا ستحتاج أنقرة إلى ضوء أخضر من الجهات الفاعلة الرئيسيّة إيران وروسيا والولايات المتحدة لتنفيذ عمليّاتها. لكنّ نوع الضوء الأخضر الذي ستُطلقه هذه الدول الثلاث لأردوغان سيطرح تساؤلات عدّة، في حين تبدو الإدارة الأمريكية وقد أعطت الضوء الأخضر الأوّلي له. لكن، ما هي العوامل التي يمكن أن تدفع حكومة أردوغان إلى تنفيذ هذه العمليّة العسكريّة؟ وماذا سيكون رد فعل الحكومات الأخرى على هذه العمليّة؟
على الرغم من ادِّعاء أردوغان الذي وجّه أصابع الاتّهام فيه نحو الجماعات الكرديّة بتفجير اسطنبول في 13 تشرين الثاني / نوفمبر، والقيام بعمليّات عسكريّة لإضعاف وإخراج الجماعات المسلحة الكرديّة من حدود تركيا وضمان الأمن القوميّ للبلاد، لكن يبدو أنّ العوامل الداخليّة السياسيّة منها والاقتصاديّة تدفع أردوغان بقوّة للقيام بذلك، وتتجلّى هذه القضية بوضوح في إيجاد منطقة عازلة على الأراضي السوريّة.
العوامل الداخليّة لحرب أردوغان
الواضح إلى حدِّ ما، حاجة أردوغان إلى حرب جديدة، وبعبارة أخرى؛ حاجته إلى الانتصار على أولئك الذين روّجت وسائل الإعلام والدوائر السياسيّة والمجتمع التركي لهم على أنهم أكبر أعداءِ وحدةِ أراضي تركيا وأمنها القومي. يعلم أردوغان جيدًا أن الأكراد غير قادرين على خلق تهديد خطير للحدود الجنوبيّة لتركيا في الوضع الرّاهن، إذ إن العدو الضعيف الذي تمّ الترويج له بشكل كاف بات يُعد “عبر الترويج” جزءًا من المشاكل السياسية والاقتصادية الداخلية. استخدم أردوغان هذا التكتيك مرّات عدة منذ عام 2016 لتحقيق نجاح سياسيٍّ في الدّاخل، وربما هو أكثر من أي سياسي آخر يؤمن بالقول الشهير أنّ “الحرب نعمة”.
الاقتصاد التركي
في الوقت الرّاهن، فإنّ ارتفاع نسبة التضخّم إلى 85٪، وانخفاض قيمة العملة المحليّة للبلاد، إلى جانب سياسة تدخّل الحكومة في قرارات البنك المركزي، أدّى إلى ارتفاع نسبة استياء الرأي العام من حكومة أردوغان. وصل الحد الأدنى للأجور إلى 394 دولارًا، وهو الأدنى بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم. ويبدو هنا، أنّ البدء بحرب جديدة “يرتفع صدى نشوبها كثيرا”؛ محاولةٌ لصرف انتباه الرأي العام واهتمام وسائل الإعلام عن التضخّم غير المسبوق والمشاكل الاقتصاديّة في البلاد. ومع ذلك، يجب أن تُدرك تركيا أنّ الحرب يمكن أن تستمر، أي ما يعني استنزاف طويل الأمد للجيش التركي، وفي هذه الحالة ستؤدي الضغوط الاقتصادية الناجمة عن الحرب إلى تفاقم الوضع بالنسبة لأردوغان.
السياسة الداخليّة
في الوقت الرّاهن، تبحث الأحزاب القويّة مثل الحزب الجمهوري و”الحزب الصّالح” جنبًا إلى جنبٍ مع الأحزاب الصغيرة عن تحالفٍ للحصول على الأغلبيّة في البرلمان التركي. إذا نجح هذا الائتلاف فإن حزب العدالة والتنميّة سيخسر الأغلبيّة في البرلمان في الانتخابات المُقبلة، وحتى إذا كان هناك منافسٌ قوي من الجماعات المتنافسة، فهناك احتمال للهزيمة أيضًا في الانتخابات الرئاسيّة. في المُقابل، يبتعد بعض ناخبي حزب العدالة والتنمية عن هذا الحزب وسياساته. لقد وصل العديد من هؤلاء الأشخاص إلى استنتاج مفاده أنّ ذروة الحزب قد انقضت وربما يمكن لأحزاب جديدة ذات فكرٍ جديد أن تخلق وضعًا أفضل. وهنا تضع حكومة أردوغان جميع هذه العناصر إضافة إلى المخاطرة في بدء حرب جديدة في الحسبان، وتراهن على تحقيق نصرٍ كبيرٍ فيها بهدف الاحتفاظ بجزء من الأصوات المُتناوبة أو المُتردّدة، لكن إذا طال أمد الحرب، فإن هذا التحدّي سيُصبح نقطة قوّة للمُنافسين لإسقاط الحكومة، وخسارة حزب العدالة والتنمية المزيد من الأصوات.
قضية اللاجئين
إذا بدأت العمليّة العسكرية الجديدة، ستتجه موجة أخرى من اللاجئين الهاربين من الحرب نحو تركيا، ولهذه الموجة إيجابيات وسلبيّات لكل من الحكومة التركية وشخصِ أردوغان في التعامل مع تدفّق اللاجئين. سيترتّب على وصول هؤلاء اللّاجئين إلى الداخل التركي تكاليف اقتصاديّة واجتماعيّة يمكن أن يستغّلها خصوم أردوغان. لكن جزءًا من هؤلاء اللاجئين سيتم جذبهم نحو الاقتصاد التركي كعمالة رخيصة تؤدي بدورها إلى تخفيض تكاليف الإنتاج لاقتصاد البلد. ومن ناحية أُخرى، فإن وجود المزيد من اللاجئين في تركيا يعني نفوذًا أقوى ضدّ أوروبا. وفي الوقت الحالي، أصبحت قضيّة اللاجئين سيف داموقليس الذي قد يضرب الأوروبيين في أي لحظة.
الجهات الخارجيّة وأدوارها
على الجانب الآخر، تحتاج حكومة أردوغان إلى الضوء الأخضر من الحكومات الأخرى المتواجدة في سوريا لتنفيذ هذه العمليّة. يبدو أن الأتراك قد توصّلوا إلى استنتاج مفاده أن كلًّا من هؤلاء الفاعلين لن يكونوا قادرين على معارضة هذه العمليّة بجديّة بسبب الظروف الداخليّة والخارجيّة ومصالحهم مع تركيا، بحيث يمكن الحصول على موافقة هذه الدول عبر الحوار.
روسيا
كخطوة أولى، يجب أن يحصل الأتراك على موافقة الرّوس. تختلف روسيا اليوم كثيرًا عن روسيا قبل بدء حرب أوكرانيا. جزء كبير من الجيش الرّوسي مُنشغل في أوكرانيا، ولا يمكن للرّوس معارضة العمليّات التركية بجدية من أجل الحفاظ على حياد تركيا كعضو في الناتو. ومن ناحية أخرى، فإن الفراغ النّاجم عن إضعاف الوجود الرّوسي في سوريا جعل تركيا تستنتج أن بإمكانها ملء هذا الفراغ على الأقل في مناطق شمالي سوريا. ورغم ضعفهم حاليًّا، يحاول الرّوس دفع الأكراد بعيدًا عن مناطق الاحتكاك بالجيش التركي، رغم أنّ هذه الجهود قوبلت برفض الأكراد.
إيران
إيران “اللّاعب الآخر”، وعبر وجود عدد كبير من قُوّاتها وطائراتها المُسيّرة في سوريا، يمكن أن تخلق مشاكل جادة للجيش التركي من خلال تقديم الدّعم المالي والعسكري للأكراد وتحويل انتصارهم السّهل إلى معركة صعبة، على الرّغم من أنّ إيران لديها أيضًا مشاكلها الداخليّة والخارجيّة. فقد أدّت العقوبات الأمريكيّة الشديدة إلى إضعاف اقتصاد البلاد، وأدّى هذا الضعف إلى اضطرابات داخليّة. كما أنّ الجوار مع تركيا ووجود حجم كبير من التبادلات التجاريّة جعل إيران غير مُستعدة لمواجهة تركيا مباشرة. لكن إذا بدأت الحرب، فمن المؤكّد أن الإيرانيين سيحملون مُفاجآت للجيش التركي. دعونا لا ننسى أن الإيرانيين بارعون في خلق وإدارة الحروب بالوكالة. كما أنّهم قاموا بقفزة كبيرة لملء الفراغ النّاجم عن الوجود الرّوسي في سوريا، وإذا نجح هذا النّفوذ فسيتحقّق لهم ضغطٌ أقوى على “إسرائيل”. إذا نجحت الجماعات الكرديّة في استخدام الأسلحة والموارد التي ربما تُقدّمها إيران كهبة لها، فيمكن القول إن هذا البلد سوف ينجح إلى حد كبير في ملء فراغ الوجود الرّوسي في سوريا.
أمريكا
بعد تشكّل تنظيم داعش الإرهابي، تمكّنت أمريكا التي كانت تبحث عن حليف للمعركة البريّة مع داعش، تمكنت من تشجيع الأكراد على محاربة داعش من خلال تقويتهم. نجح الأكراد في صدّ داعش بدعم لوجستيّ وجوِّي من الولايات المتحدة، وهم اعتبروا أنفسهم بذلك حُلفاء للولايات المتحدة، لكن في نهاية الأمر اختار الأمريكيون تركيا. وتركيا كعضو في الناتو لها دورها المُحايد، فهي وسيط لفكرة أن أمريكا لا تقوم بأيّ عمل جادّ لدعم الأكراد. لكن هذا السلوك الأميركي قد يكون فخًا لأردوغان وحكومته. الأمريكيون غير راضين عن حكومة أردوغان وسلوكه في الناتو وقضايا سياسيّة أخرى، ويحاولون إبعاده عن السلطة. وعليه، فإنّ مَنحهم الضوء الأخضر الأوليّ يعني جرّ أنقرة أولًا إلى سوريا، ثم الإيقاع بأردوغان وحكومته في مُستنقع الحرب عبر دعمهم العسكريّ واللوجستيّ للأكراد. يُمكن لهذا الفخّ الأمريكي الخطير إلى جانب سوء تقدير أردوغان أن يُزيلاه من السياسة التركيّة إلى الأبد.
النّتيجة
يبدو أن حاجة أردوغان إلى حرب لضمان الانتصار على الخصوم المحليّين والتستّر على المشاكل الاقتصاديّة ستجعل هذا البلد يُخاطر ببدء حرب جديدة. يأمل أردوغان في كسب رضا الدّول الأجنبيّة المُنخرطة في سوريا عبر الحوار، ويعتقد أنه يمكن أن ينال الرّضا الأوّلي لهذه الدّول. لكن السّلوك اللّاحق وسياسة هذه الدول، التي قد تتخلّلها سياسة الالتفاف ومساعدة الأكراد، يمكن أن تُساهم في تحديد مُستقبل أردوغان في الانتخابات المُقبلة. الأمريكيون الّذين سئموا من أردوغان خلال هذه الفترة، وربّما أبعد من كل العلاقات “التجارية والسياسية”، يريدون توجيه ضربة قويّة للجيش التركي من خلال استغلال سوء تقدير أردوغان، وذلك عبر جرّ هذا البلد إلى مستنقع شبيه بأوكرانيا كما هو الحال بالنسبة لروسيا، وتحقيق خسارة لأردوغان في الانتخابات المقبلة. بدء هذه العمليّة ليس بالأمر المُستبعد بالنسبة لحكومة أردوغان، لكن إدارتها وتحقيق الانتصار فيها سيكون مصحوبًا بالتحديات العِظام.
*باحث إعلامي إيراني
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.