ستّار محمودي* – خاص الناشر
تجدّدت التوتّرات عبر الأطلسي في العواصم الأوروبيّة بسبب عودة الأغلبيّة الجمهوريّة إلى مجلس النوّاب، فهذه العودة قد تُمهّد الطّريق لتولّي ترامب أو أحد مُؤيّديه مقعد الرّئاسة من جديد في العام 2024. الرّسوم الجمركيّة التي فرضها ترامب على الألمنيوم والفولاذ، والحقد الشّديد على ألمانيا، والخروج من خطّة العمل الشاملة المُشتركة واتفاقية باريس للمناخ، فضلًا عن تهديداته المتكرّرة بمغادرة الناتو، كلها محطّات مؤلمة، لن تمحوها السّلطات الأوروبيّة من ذاكرتها بسهولة.
من منظور أوروبي، فإن فوز الجمهورييّن بغالبيّة أعضاء مجلس النوّاب يُمكن أن يؤثّر سلبًا على مدى دعم الولايات المتّحدة لحرب أوكرانيا، وعلى الرّسائل السّياسيّة الأمريكيّة بشأن الصّين، والانتخابات الّرئاسيّة الأمريكيّة في العام 2024.
وتزامُنًا مع احتدام الحرب، فإن التّضخم والرّكود الاقتصاديّ سيعوّقان الدّعم الغربي لأوكرانيا، حتّى لو رُفعت الأعلام الزّرقاء والصّفراء على طول طُرق المدينة، فالأمر سيّان، إذ لا يُمكن أيضًا تحمّل الأزمات الماليّة طويلةِ الأجل لأوكرانيا. على سبيل المثال، بلغ التضخّم في دول البلطيق، التي قادت الجهود الأوروبية لمُساعدة أوكرانيا عسكريًا وماليًا، نحو 20 في المئة في شهر مايو/ أيّار، كما بلغ مُعدّل التّضخم في جمهوريّة التشيك 16 في المئة. وفقًا للمُحللين، فقد كانت العُملة المُستقلّة للبلاد والارتفاع التصاعديّ في أسعار الفائدة هما العاملين الأساسيّين اللّذين منعا التضخّم من مُتابعة الارتفاع.
اليوم، وبعد أن عاد الجمهوريّون إلى السّلطة فعليًا في مجلس النّواب، عادت سيطرتهم مُجدّدًا في الكونغرس على “الإنفاق”، وبالتالي سيطرتهم على الدّعم المالي المُستقبلي لأوكرانيا. فالتّدفق الأخير للجمهوريين إلى مجلس النوّاب سيجعل من الصعب السّماح بمزيد من المساعدة. سيُكافح كيفين مكارثي، الرئيس الجمهوريّ المُنتظر لمجلس النواب، من أجل الحفاظ على السيطرة على الحزب، رغم تراجعه مؤخرًا عن تصريحه بأنه لن يكون هناك شيكات على بياض لأوكرانيا. لذلك، ومن أجل تزويد أوكرانيا بتمويل جديد، سيتعيّن على إدارة بايدن الانخراط في صراع سياسيّ طويل الأمد مع الكونغرس.
سمحت الولايات المتّحدة بتقديم أكثر من 54 مليار دولار من المساعدات العسكريّة والماليّة والإنسانيّة لأوكرانيا حتى الآن في العام 2022. تتلقّى إسرائيل 3.8 مليار دولار سنويًا من الولايات المتحدة، مما يجعلها أكبر مُتلقٍّ للمساعدات الماليّة من الولايات المتحدة بشكل عام منذ الحرب العالميّة الثّانية وحليفًا أساسيًّا لها. تشكل قيمة المعونة الأمريكيّة الأوليّة لأوكرانيا، والبالغة أربعين مليار دولار، أكثر من نصف الميزانيّة السنويّة لوزارة الخارجية. لذلك، حتى مع وجود الديمقراطيّين في الأغلبية، سيكون من الصعب الاستمرار في الدعم بنفس المستوى الحالي. بالنّظر إلى تولّي الحزب الجمهوري رئاسة مجلس الّنواب، سيكون ذلك مستحيلًا.
هذا لا يعني أن الدّعم المالي لأوكرانيا سينتهي تمامًا، سيعتمد مقدار وسرعة التّراجع على الطريقة التي يختار بها الجمهوريّون استخدام نفوذهم المالي على أوكرانيا للمُساومة على تمويل القضايا المحلية. لكن من المُؤكّد أنّ المستويات ستنخفض بشكل كبير، وهذا أدّى تلقائيًّا إلى النتيجة غير المقصودة المُتمثلة في زيادة الضّغط الأمريكيّ على شركائها الأوروبيين لزيادة مساعداتهم العسكريّة والماليّة لأوكرانيا بشكل كبير، والالتزام بالإنفاق الدّفاعي لحلف الناتو.
إذًا، على الرّغم من حقيقة أن الديمقراطيّين يسيطرون على مجلس الشّيوخ ومن المحتمل أنهم سيواصلون تمويل أوكرانيا، دون دعم مجلس النّواب، سيكون من الصعب الحفاظ على المستويات الحاليّة من الدّعم الفعّال.
فيما يتعلق بسياسة الصّين، في حين أن التشدّد اتّجاه بكين هو من اتّجاه الحزبين في واشنطن العاصمة، فإن الجمهوريّين في الكونغرس سينتقدون إدارة بايدن لكونها مُتساهلة للغاية مع الصّين، وقد يدفعون بقوة إلى تشديد الضوابط التنظيميّة والصّادرات لردع شركات الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي عن الاستثمار هناك كما فعلوا مؤخرًا مع قانون الشرائح والعلوم، حيث وُضِع مشروع القانون هذا من قبل إدارة بايدن لتعزيز سلاسل التوريد “لأشباه الموصِّلات” في الولايات المتحدة. ومع ذلك، طالب الجمهوريون في مجلس النواب بحظر أي عمليات من جانب الشركات الأمريكية التي تتلقّى إعانات للاستثمار في صناعة أشباه الموصِّلات الأمريكية في الصين.
قد يؤدي “بعض” هذا إلى انخفاض التّجارة الأوروبيّة مع الصّين، والصادرات إلى الولايات المتحدة أيضًا، حيث سيتم تعزيز قدرة الشركات الأمريكيّة على التّنافس مع الصّين عبر الإعانات، ما سيجعلها أيضًا أكثر قدرة على المُنافسة مع أوروبا. في الاجتماعات مع الخُبراء ومسؤولي الإدارة السّابقين، تردّدت فكرة واحدة دافعة للحزب الجمهوري بشكل متكرر: “لقد كنا هناك من أجل الاتحاد الأوروبي بشأن روسيا، والاتحاد الأوروبي بحاجة الآن إلى أن يكون هناك من أجل الصين، وإلّا، سيُصبح لدينا العديد من الخلافات السياسيّة للقتال من أجلها.
خارج التّداعيات المُباشرة، من المُهم التّفكير في ما قد تكشفه النّتائج النّصفيّة عن المناخ السّياسي في الولايات المتّحدة واحتمال فوز الجمهوريّين في الانتخابات الرّئاسيّة لعام 2024.
تُشير الأغلبية التي يحتفظ بها الحزب الجمهوري في مجلس النواب إلى أن الحزب سينجح في الاستيلاء على البيت الأبيض في غضون عامين. وبالنّظر إلى التّأثير الهائل للسّلطة التّنفيذيّة على السّياسة الخّارجيّة للولايات المتّحدة، فإن ذلك سينتج عنه تداعيات كبيرة على أوروبا. من ناحية أخرى، فإن وجود رئيسٍ جمهوريٍ مثل ترامب يعني دعمًا أقل لأوكرانيا. وهذا بدوره سيؤول إلى تسوية مع بوتين والمزيد من الاعتماد على الطّاقة الرّوسية والأمن الأمريكي لأوروبا.
إضافة إلى ذلك، ينظر الجمهوريّون إلى الاتّحاد الأوروبي على أنّه الجانب الخاسر من الحرب الثّقافية، وذلك بسبب شِدّة التزامه بسياسات الهوية اليساريّة. إنّ “أجندة الضعف واليقظة” (الدّراية بالقضايا الاجتماعيّة والسّياسيّة المُتعلّقة بالعرق والجنس والطّبقة، وما إلى ذلك…)، والتي يُقال إنّ العديد من أصدقاء الولايات المتّحدة القُدامى في أوروبا تحت تأثيرها، تتزايد معارضتها من قِبل القادة الجمهوريين. لذلك، بدلًا من فرنسا وألمانيا، ستنظر الإدارة الجمهوريّة بعين أوسع إلى بولندا والمجر كحليفين. ومن المُرجّح أن تؤدّي النّزاعات بين الجمهوريّين والدّيمقراطيّين حول سياسات الهوية، مثلما حدث أثناء إدارة ترامب، إلى تصدّع العلاقة بين الولايات المتّحدة وأوروبا، وكذلك، إلى حد ما، بين أوروبا الشّرقية وأوروبا الغربيّة.
من المتوقع أن تتطوّر المنطقة التي أصبحت بسرعة معقلًا لتحالف مؤيّد لأوكرانيا إلى مركز للاضطرابات السياسيّة مع اشتداد الضغوط الاقتصادية تزامُنًا مع عودة الجمهوريين إلى السّلطة. سواء كانت الأغلبيّة الجمهوريّة هي عودة ترامب، أو إذا تم تمرير الشّعلة إلى شخص مُماثِل، فقد تتحوّل كوابيس القلق لدى القادة الأوروبيين إلى حقيقة واقعيّة ومقلقة. ويبدو أن السّبيل الوحيد للمُضيّ قدمًا بالنسبة للأوروبيين هو الاستقلال عن الأمن الأمريكي والطّاقة الروسية.
*باحث إعلامي إيراني
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.