من الواضح أن استراتيجية الضغوط ستكون الورقة الأبرز في خطة بايدن نحو اليمن، هدفها المعلن الدفع باتجاه وقف إطلاق النار والدخول في عملية سياسية تنهي الحرب المتواصلة للعام السابع على التوالي، أما جوهرها فيتمحور حول إجبار أنصار الله والقوى الحليفة على القبول بنهاية وفق ما تحدده الرؤية الأميركية، وليس وفقا لمعادلات الميدان.
وبما أن واشنطن حاضرة في الحرب بتفاصيلها الدقيقة، فقد توصلت إلى قناعة أن الاستمرار فيها بات يعطي نتائج عكسية، والتطورات الجارية في الميدان توحي بذلك، لذلك دفعت باتجاه وقف الحرب ضمن مسار يعتمد على تحقيق ثلاثة أهداف:
الأول، منع تحرير مأرب لما له من مكاسب استراتيجية لصنعاء،
الثاني، شرعنة الحصار عبر اتفاق توقع عليه صنعاء، وضمان استمراره كورقة وحيدة بعد انسداد الأفق العسكري،
الثالث، شرعنة الوجود الأجنبي، وهذا الهدف له علاقة بتواجد القوات الأميركية وليس السعودية فحسب، إذ إن اليمن لا يزال ساحة مهمة للولايات المتحدة سواء في مواجهة محور المقاومة أو في السيطرة على باب المندب ضمن صراعها الأوسع مع الصين، وتظهر هذه الأهمية جليةً في حديث بايدن ومسؤوليه السياسيين والعسكريين تحت يافطة مواجهة القاعدة وداعش، وقبل أسابيع أكد بايدن في رسالة لمجلسي الشيوخ والنواب وجود قوات أمريكية في اليمن تحت هذه الذريعة.
بروز اليمن في أولويات السياسة الخارجية لبايدن، يعيد تعريف الدور الأميركي في الحرب كفاعل رئيس وليس ثانوياً، وكان ذلك واضحا من خلال اتخاذ واشنطن منصة لإعلان العدوان، ثم الدعم الذي تبنته إدارة أوباما لوجستيا واستخباراتيا وإداريا عبر عشرات الخبراء في غرف القيادة بالرياض وعدد غير معروف من الفنيين المتخصصين في تشغيل الطائرات الحربية وأنظمة الدفاع الجوي، ثم الالتزام بتوفير متطلبات الحرب من أسلحة وتقنيات حديثة، علاوة على الغطاء السياسي في مجلس الأمن والمحافل الدولية.
قبيل مغادرته بأشهر، حاول أوباما التملص من مسؤولية إدارته عن الحرب عبر ما عُرف بخطة كيري، وقد فشلت لكونها شكلية لن تؤدي إلى رفع المعاناة عن الشعب اليمني. انتقل الملف إلى ترامب الذي مضى على نهج سلفه مع وضوح أكثر في الدعم.
صعد بايدن إلى السلطة واليمن حاضر ضمن حملته الانتخابية، وقبل ذلك في نقاشات وقرارات مجلسي الشيوخ والنواب، حين تبنى كثير من الديمقراطيين مشروع إيقاف المشاركة الأمريكية في حرب اليمن، إضافة إلى هاجس الرأي العام الذي كان يُحمّل واشنطن ولندن وعواصم غربية مسؤولية الأزمة الإنسانية الأسوأ في العالم، لذلك كان لزاما على الرئيس الجديد أن يُعيد النظر في موقف بلاده المعلن، وأن يبدأ استراتيجية ناعمة ظاهرها الحرص على وقف الحرب، وباطنها العمل على احتواء نتائج فشلها.
كانت الخطوة الأولى في إعلان وقف الدعم للسعودية مع التزام بحمايتها من الهجمات الصاروخية والمسيّرات، ثم بتعيين مبعوث خاص لأول مرة إلى اليمن.
بدا وكأن واشنطن تعول على تحقيق تحول في الموقف اليمني تجاهها ولو إعلاميا عبر الترحيب بدور الإدارة الجديدة، لكنها قوبلت بموقف غير مكترث طالما لم تقترن الأقوال بالأفعال، ومن غير المنطقي القبول بواشنطن كوسيط ومسؤوليتها لا تقل عن السعودية، ولها دوافعها في ذلك، فهي تشترك مع الرياض في هدف إعادة الوصاية على اليمن بعد إسقاطها في ثورة 21 سبتمبر2014م.
بدأ المبعوث الأمريكي تيم ليندركينغ نقاشات غير مباشرة مع الوفد الوطني الممثل لصنعاء، كانت الأولوية باتجاه وقف العمليات العسكرية نحو مأرب دوناً عن أي ملف آخر، وبالتوازي، كانت الأمم المتحدة ومختلف المنظمات الإنسانية تتباكى على مليون ونصف من النازحين، والأرقام الفعلية تصل إلى عشرات الآلاف.
فشلت الضغوط الأمريكية لتجاهلها كل اليمن ومعاناته جراء الحصار، فقُدمت اقتراحات جديدة تربط الملف العسكري بالإنساني، وفي هذا المقترح إقرار صريح بأن تحالف العدوان يوظف الورقة الإنسانية في خدمة أهدافه العسكرية. اعتبرت صنعاء أن قبولها بهذا المقترح يعني جريمة كبرى بحق الملايين من اليمنيين، إذ لا يمكن الموافقة على رهن لقمة عيشهم مقابل ملفات شائكة، فأي إشكال عسكري أو سياسي يمكن أن يوفر مبررا للتحالف لإعادة إغلاق مطار صنعاء وميناء الحديدة؟!
تطالب صنعاء بأن يتم الفصل بين الجانب الإنساني عما سواه، فحرية السفر للمدنيين ودخول البضائع والمشتقات النفطية حق مكفول حتى وفق قرارات مجلس الأمن. وبمجرد أن تتم معالجة الملف الإنساني يمكن النقاش حول أي تفاصيل أخرى بما يضمن إيقاف العدوان وإنهاء الوجود الأجنبي، وهذا أيضا حق طبيعي ومكفول، وفي السياق يمكن النقاش حول التعويضات وباقي التفاصيل.
وبما أن بايدن وفريقه لا علاقة لهم بوقف الحرب وفق نتائجها، فقد اعتبروا موقف صنعاء تصلبا ورفضا للسلام، بالتوازي مع تقديم السعودية طرفا حريصا على تحقيقه، وهي مجاملة شبيهة بمثل شعبي يمني “ما تشهد للعروس الا امها”!.
بعد مضي أشهر على محاولات المبعوث الأمريكي، وبعد إشراك الوسيط العماني، بات واضحا أن واشنطن أمام خيارين:
الأول، القبول بما تطرحه صنعاء، وهذا مستبعد راهناً.
الثاني، توسيع دائرة الضغوط، لتشمل الاقتصاد وشركات يمنية على اتصال بتوفير الإمدادات الغذائية والدوائية والنفطية للمحافظات الحرة. وقد بدأ هذا المسار من خلال عقوبات أمريكية على شركات لا علاقة لها بأنصار الله، سبقتها عقوبات على قيادات عسكرية وأمنية، ومن المتوقع عقوبات جديدة. وفي السياق عادت الحرب على العملة اليمنية من خلال طباعة مئات المليارات من الريالات بطريقة غير قانونية وضخها في السوق المحلية بغية إضعاف القدرة الشرائية، وبالتالي مضاعفة التأثيرات الإنسانية. أما البحر فتتواصل سياسة احتجاز سفن المشتقات النفطية وإدخالها عبر أسلوب التقطير.
تتوازى مع الخيار الثاني حملة تحريض واسعة لتقديم أنصار الله رافضين للسلام، وتحميلهم أي تداعيات إنسانية، وتصوير الحرب في مأرب كدليل على ذلك بعيدا عن حق اليمن في تحرير أراضيه من الهيمنة الأجنبية. وقد ساهمت الأمم المتحدة مؤخرا في هذه الدعاية من خلال تصنيف أنصار الله ضمن القائمة السوداء لمنتهكي حقوق الأطفال، مع تبرئة السعودية والإمارات وبقية دول التحالف.
أما صنعاء فتبدو رغم الضغوط أكثر فهما وقناعة بموقفها وخياراتها، وأولها تحرير مأرب، ولا نستبعد عمليات واسعة في العمق السعودي، علاوة على أننا قد نشهد معادلات جديدة للتصدي لحرب التجويع.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.