منذ صبيحة اليوم جُن جنون جعجع. المسكين ما عاد يدرك ما يقول من شدّة الحنق، حتى بلغ به الكيد قول أنّ لا معنى لأن يحتفل الرؤساء بالاتفاق حول ترسيم الحدود البحرية لأنهم ليسوا من وضع النفط في البحر، بل هو موجود أصلًا. وعليه، بحسب المعيار الجعجعي، ينحصر حق احتفال الناس بالأشياء التي قاموا بوضعها بأنفسهم. مثلًا، يُمنع منعًا باتًا الاحتفاء بافتتاح مشروع مائي، لأن الماء يأتي من الغيوم، كما أنّه لا يمكن إبداء البهجة بإتمام بناء ما لأن مواد البناء مأخوذة من الطبيعة أصلًا. إياكم ثم إياكم أن تحتفلوا بالشتوة الأولى، لستم من أمطر، وإياكم أن تشاركونا صور حفلات النار في ليالي التخييم، هل أنتم من صنع النار؟!
لقد جُن الرجل، لم يعد ذلك المدان بارتكاب الجرائم فقط، بل صار مدانًا أيضًا بممارسة العمل العام تحت تأثير الخيبة المؤدية إلى صدمة أفقدته حتى أهلية التواجد والمحادثة خارج الإطار العائلي الأضيق، وعلى مسؤولية الأفراد المتطوعين للحضور في هذه الدائرة مع تكفّلهم بمعالجة الأضرار التي تصيبهم على نفقتهم الخاصة.
أراد جعجع، مقتنعًا للأسف، أن يسوّق نفسه كرقم مؤثّر في المعادلات الدولية، ليجد أنّه لا يمتلك تأثيرًا يُذكر حتى على الصعيد المحلي، وبدلًا من أن يستحي وينكفئ، خرج اليوم شاهرًا حنقه، مبديًا علامات الحسد والحقد دون تورية أو تجميل، ووجد طبعًا في الإعلام من يتلقّف خطابه الخائب، فنالت محطة الجزيرة شرف استصراحه وهو على هذه الحال، ما أتاح لنا جميعًا كمشاهدين التمتّع بمشاهدة حاله واعتمادها نموذجًا عما يختلج في نفوس من توجعهم قوّة المقاومة، في لبنان والمهجر.
يقول جعجع في حديثه للجزيرة: “تدخّل حزب الله أسهم بتأخير الاتفاق”. وهنا تضيع الطاسة. يفترض جعجع إذًا أن الاتفاق بشكله الحالي كان ممكنًا منذ البداية، وأنّه تأخّر بسبب تدخّل حزب الله. لكنّه منذ أسبوعين تقريبًا، أثنى على موقف “حزب الله” من الترسيم، وقال إنها المرة الأولى التي يتصرف فيها الحزب بمنطقية. لم يسأله أحد عن سرّ التناقض بين التصريحين، وإن سُئل قد لا يجيب بحقيقة الأمر. في الثالث من تشرين الأول/ أوكتوبر، لم يكن جعجع يتوقّع الخضوع الصهيوني. فالأداة عادة لا يمكنها أن تصدّق ضعف مشغّلها، إلى أن يتهاوى فتُصدم.
ويقول أيضًا “معادلة الردع هي للاستهلاك المحلّي”. هو حكمًا يعني ما يقول، لكنّه يتعمّد تجاهل ما يجري بهذا الخصوص على المقلب الصهيوني، وينطق بهواه الناشىء هناك دون أن يكلّف نفسه عناء التحلّي بالمنطق. فمعادلة الرّدع التي ثبّتت الحقوق معترف بها عالميًا وهي من دواعي الهستيريا الجعجعية بسبب تأثيرها على المعادلات الدولية، أما عن الشعور بكونها ذات بعد محلّي، فالأمر يتوقّف على المعسكر الذي يدسّ فيه بعض المحليين أنفسهم، فيرونها خطرًا عليهم بمقدار ما تشكّل خطرًا على الصهاينة ومصالحهم العدوانية.
ثم يعود ويقول “ترسيم الحدود جاء نتيجة مصالح أميركية وأوروبية التقت مع مصالح لبنان وإسرائيل”. عودة إلى التناقض والسطحية. التقاء المصالح هذا ما الذي فرضه؟ ما الذي يمنع الأميركيين والأوروبيين و”اسرائيل” من أخذ ما يريدون دون التفات إلى مصلحة لبنان؟ يعرف جعجع الإجابة. وهنا مكمن وجعه. ومن صدى توجّعه يمكن للمتابع التيقّن بأهمية الاتفاق كإنجاز لبناني تحقّق بقوّة المقاومة وفي ظلّ عهد رئيس وفيّ، لم يخضع.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.