يبدو أن ملف “الترسيم البحري” بين لبنان والكيان المؤقت سيصل ولو بعد حين إلى خواتيم مرضية. رغم سيل التهديدات والتهديدات المقابلة، وحساسية الملف بكل جوانبه، استطاع لبنان فرض شروطه ورؤيته ولو بحده المقبول على الكيان ورعاته.
رغم أن الملف يعود عمره الافتراضي إلى العام 2007، خلال فترة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، الذي فرّط بحقوق لبنان دون رادع ووازع، مرورًا بالمسار القانوني ووصولًا الى خواتيم التفاوض غير المباشر، ورغم حفلة الجنون التي شهدها الكيان مساء أمس على خلفية قرار “الكابينت” رفض تعديلات لبنان على مسودة الاتفاق، إلا أن كل التقديرات تشير الى عدم جدية الكيان بحكومته الحالية نسف التفاوض والاستخراج من كاريش بأي ثمن.
لا شك أن العامل الانتخابي أثر بشكل كبير على الملف من جانب كيان العدو، وشد الحبال بين نتنياهو ولابيد جعل التفاوض على ملف الغاز مادة دسمة للمزايدات الانتخابية التي تؤثر بشكل لافت على مزاج الناخب الإسرائيلي. لكن يبقى ما حققه لبنان اليوم إنجازًا غير مسبوق في تاريخ الصراع مع العدو لجهة الثبات على موقف موحد وعدم التنازل أمام التعنت الإسرائيلي ومحاولة الابتزاز الرخيصة التي يحاول رئيس حكومة العدو يائير لابيد لعبها في الدقيقة التسعين من عمر المفاوضات.
في لمحة تاريخية على مراحل الصراع بين لبنان وكيان العدو، فقد شهدت ساحة الصراع بين لبنان تحديدًا وكيان العدو مراحل عديدة لم يكن الاجتياح عام 1982 أولها، ولن يكون الترسيم البحري آخرها. لكن المشترك بين كل المراحل المفصلية هو جولات قتالية عسيرة تمكن لبنان فيها بفعل مقاومته من فرض شروطه تدريجيًا، بالاستفادة من تراكم القوة واهتزاز صورة الردع والرعب لدى الكيان، التي لطالما اعتمد عليها العدو في خوض حروبه وعدوانه خارج حدوده المصطنعة. منذ تفاهم نيسان عام 1996 مرورًا بتبادل الأسرى بالتفاوض غير المباشر بمرحلتيه، وتحرير القسم الأكبر من جنوب لبنان عام 2000، إضافة إلى عدوان تموز 2006 الذي رفع فيه العدو سقف طموحاته، فعاد خائبًا بفعل الانتصار الجديد الذي سجّله لبنان في تاريخ الصراع. الأمر ينسحب إلى المعارك بين الحروب التي حاول العدو خوضها من خلال العدوان على سوريا ومحاولته العبث بالداخل اللبناني، فرضت المقاومة عليه معادلات ردع كبلت قدرته على المناورة والتحرك والتزم مرغمًا بما حددته المقاومة من معادلات، إيمانًا منه بقدرة المقاومة على تنفيذ تهديدها وإلحاق الهزيمة به.
اليوم، وبعد جولات الصراع الضروس، يخوض لبنان شكلًا جديدًا من أشكال الصراع التي يسعى من خلالها للحفاظ على ثروته النفطية وضمان الاستفادة منها. الفارق الجوهري اليوم هو اقتراب لبنان من خواتيم الاتفاق وتحقيق ما طالبت به الدولة اللبنانية مجتمعة، لكن دون جولة قتال حامية لغاية الآن!
يسجّل للمقاومة اليوم، وبعد أشهر قليلة من إطلاق الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله تهديده الأشهَر بمنع العدو من استخراج الغاز فيما لو منع لبنان من ذلك، أن بفضلها استطاع لبنان فرض شروطه كاملة وضمان عدم تجرؤ العدو على الاستخراج قبل حل الملف.
ما رُدع العدو بهذا الشكل الواضح والفاضح إلا للسببين التاليين:
الأول يتمثل بالظرف الدولي والإقليمي الذي يجبر الأميركيين أولًا على الضغط على كيان العدو من أجل القبول بشروط لبنان لإيجاد مخرج للأزمة دون اندلاع حرب، وهذا ما أكد عليه أمس الموفد الأميركي عاموس هوكشتاين بعد قرار “الكابينت” رفض التعديلات، وذلك بفعل الحاجة الأميركية لتعويض شيء من الغاز الروسي الذي يغذي أوروبا وفقًا لحسابات الصراع القائمة.
والثاني يتمثل بحاجة الكيان للاستخراج الآن وليس غدًا ليستفيد من الظرف الراهن. أما تهديد المقاومة باستخدام القوة مع العدو في حال تجاهل مطالب لبنان واستخراج الغاز من منصة كاريش بمعزل عن الوصول الى اتفاق، فيعد العامل الأبرز الذي لجم جماح العدو وأجبره على الرضوخ صاغرًا.
ما يسجل أيضًا تبدّل اللهجة الأميركية مع لبنان التي كانت في بداية الأمر تعتبر أن على لبنان القبول بالفتات كي لا يضيع عليه الكل، لكن سرعان ما بدّلت المسيرّات لهجة هوكشتاين ومقاربته، بعد تيقن كيان العدو والموفد الأميركي أن المقاومة لن تتهاون في تحصيل الحقوق ولو أدى ذلك لحرب كبرى.
بالمحصّلة، استطاعت المقاومة اليوم إجراء تجربة حيّة لتكريس استراتيجية دفاعية حقيقية يكون فيها سلاحها بخدمة الدولة اللبنانية بمؤسساتها، دون أن يفقد السلاح ميزته وتأثيره ومن دون أن يكون لها تدخلٌ في قرار الدولة السيادي. من هنا، يمكن القول إنه بما تحقق لغاية اليوم بمعزل عن موعد التوقيع إن كان عاجلًا أم آجلًا فإن المقاومة أثبتت أن تراكم القوة والردع يمكن تطويعه لمصلحة لبنان أولًا وبشكل واضح ومباشر لا لبس فيه. كما يظهر واضحًا أن العدو رغم كل مناوراته ومماطلته في إتمام الاتفاق وفق مصالحه الانتخابية وهذا واضح، يبقى لغاية الآن ملتزمًا بسقف المقاومة بمنع الاستخراج في حال عدم التوصل الى اتفاق.
يبقى السؤال الأهم اليوم بعد المماطلة الاسرائيلية الأخيرة: هل ينوي العدو تأجيل البت بالاتفاق الى ما بعد انتخابات الكنيست الشهر المقبل ليبني على الشيء مقتضاه، أم أننا أمام مكر أميركي – إسرائيلي جديد يستغل عدم تشكيل حكومة في لبنان لغاية الآن وسط كلام جدي وملموس عن شغور في كرسي الرئاسة، الامر الذي يعيق لبنانيًا توقيع اتفاق في حال عدوم وجود سلطة تنفيذية، ما يجعل العدو أكثر راحة في البدء بالاستخراج في ظل واقع لبناني صعب ومهترئ؟
ماذا إذا رفعت المقاومة من سقوفها في هذه الحالة واعتبرت أن الفراغ الرئاسي والحكومة يحتمان عليها فرض معادلات أخرى والذهاب بعيدًا ما بعد خط 23 وحقل قانا المفترض؟ مرحلة مفصلية تحمل في طياتها مفاتيح الحل وشرارة القتال في آن، فهل يتعقل العدو أو يعيد تكرار التجربة التي يعرف نهايتها جيدًا؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.