كُلَّما أطلق العدو الإسرائيلي تهديداته تجاه المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية، أو حرّك أرتال دبَّاباته نحو الشمال أو الجنوب، كان دومًا يضع في حساباته المُرَّة والصعبة سيناريوهات متعددة تجعله يفكر مرّاتٍ عديدة قبل الإقدام على ارتكابِ أي حماقة غير محسوبة النتائج في العدوان على غزَّة أو لبنان، وأهمُّ هذه السيناريوهات استهداف الجبهة الداخلية للكيان وما يمكن أن يجري عليها من ويلات لا طاقة للاحتلال ومستوطنيه على تحمّلها. ولهذه الجبهة 5 ألوية تتبع لقيادتها وعلى مختلف الصعد تعطينا فكرة حول حجم مساحة هذه الجبهة الداخلية، وهي: لواء الشمال، لواء حيفا، لواء دان، لواء القدس والمركز، ولواء الجنوب.
هذه المخاطر والنتائج الأليمة المتوقّعة في أي مواجهة قادمة كانت وما زالت محور مؤتمرات نُظِّمت ولقاءات عُقِدت وكان آخرها في الثاني عشر من شهر حزيران – يونيو الماضي، بمشاركة مسؤولين على المستوى العسكري والأمني ومسؤولي الطوارئ ورجالات الصحافة والإعلام والسلطات المحلّيَّة وبحضور رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي، والذي كعادته أطلق تهديداته الجوفاء تجاه لبنان، وجرت نقاشات مطولة ووضعت خطط عديدة ونوقشت الإمكانيات والقدرات على الاستجابة للحالات الطارئة وفق الموارد المتوفرة والسبل الأفضل للدفاع عن هذه الجبهة وحمايتها في مواجهة الأخطار المحدِقة.
كانت الأجواء متشائمة وكان الاعتقاد السائد خلال النقاش أنَّ الكيان ككل ليس على استعداد أو جهوزية للمواجهة، ولا يملك القدرة على التعامل مع استهدافات الجبهة الداخلية في حال نشوب حرب، متوقعين حصول انهيارات في الواقع الاجتماعي والخدماتي على مستوى الطاقة والمياه وحاجات المستوطنين اليومية والضرورية في الملاجيء والغرف المحصَّنة، وشبكات الطرق والمرافق العامة والمطارات والموانئ ومنصّات استخراج النفط على طول الساحل الفلسطيني، ولا ننسى مستودعات الأمونيا الشهيرة في ميناء حيفا ومفاعل ديمونا في النقب، ويذهب بعضهم نحو سيناريوهات أسوأ ومنها انحلال الدولة وإداراتها واندلاع موجات من العنف في الداخل على خلفيات عرقية وإثنية بين العرب والمستوطنين أو بين المستوطنين أنفسهم. ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّه لم تُدخِل قيادة هذه الجبهة أيّة تعديلات على الخطط والسيناريوهات الموضوعة للمواجهة منذ العام 2016 بما يتلاءم مع التهديدات القائمة حاليًّا، ولم يُستفَد من الدروس التي كان يمكن استخلاصها من حروب جرت منذ تلك الفترة وما تزال ومنها العدوان على اليمن أو الصراع الروسي – الأطلسي في أوكرانيا، مع العلم أنّه دخلت لدى قوى محور المقاومة عناصر إضافية وحاسمة في أي مواجهة مقبلة يمكن أن تحصل.
إنَّ أسباب هذه الرعب القائم –بالمناسبة هو رعبٌ مشروعٌ ومبرَّر– في كيان العدو على مستوى ما يتوقعه من نتائج مدمِّرة وساحقة عندما يؤخذ القرار وعلى مدى المحور والساحات وتضغطُ أوَّل أصبعة على الزناد مطلقة العنان في إمطارٍ أو إغراقٍ صاروخي –لا فرق– لحِممِ الأرض والسَّماء ولتنهمر على تلك البقعة المسماة بالجبهة الداخلية بمديات قصيرة وبعيدة المدى، بالستية وعابرة للقارات وحتى لطبقة الستراتوسفير في الفضاء وربّما صواريخ كروز الجوّالة ومسيَّراتٍ على أنواعها قاصفةً وانتحاريةً والتي باعتقادي ستكون غير متصوّرة أو مقدّرة سابقًا من أحد، هذه الموجات المتلاحقة والمتعاظمة والمدمِّرة ستُطيحُ أو تُضعِفُ على أقل تقدير قدرات وإمكانيات منظومات الرد والتصدّي والاعتراض من أنواع ثاد وآرو وباتريوت وحيتس ومقلاع داوود وهوك مطوَّرة وقبة حديدية وغيرها مما يجعل جبهته الداخلية كحقل رماية مفتوح على التدمير والخراب. ولطالما استخدم العدو عبارات مثل: “تم اعتراض النسبة الأكبر من الصواريخ المتساقطة” في كذبٍ وخِداعٍ لمواطني “الدولة” وفي تعتيم إعلامي تمارسه الرقابة العسكرية دون تحديد عدد ما تم اعتراضه وما أصاب أهدافه على الأرض.
هذه البقعة في وسط الكيان والتي تضم أكبر حشد سكاني واستيطاني، ناهيك عن المراكز الحساسة الأمنية والعسكرية والاقتصادية والإدارية، باتت تشكل الخاصرة الرخوة ونقطة الضعف الإستراتيجي في أي مواجهة مع الرعب القادم من الشمال، وستشهد تساقطًا مدوّيًا ومرعبًا ومدمرًا للصواريخ من مختلف الأنواع، ولن ينفع معه صراخ وتهديدات قادة أركان العدو والتي هي بمثابة فقاعات صوتية من النوع الذي لا يطمئن الجمهور بل يزيده خوفًا وقلقًا على المستقبل، وهنا نتحدّث عما يقوله جنرالات العدو في هذا الشأن بصراحة عن توقعاتهم “بأن المقاومة في لبنان سوف توجه ضربات قوية وقاسية إلى العمق الإسرائيلي في حال نشوب أي حرب”، وهذا ما يصرِّحُ به تحديدًا قائد الجبهة الداخلية في الكيان الغاصب “اللواء أوري غوردين” حيث أشار وبوضوح إلى أنَّ “النبأ السيّئ هو أنه في الحرب القادمة –حرب لبنان الثالثة أو حرب الشمال الأولى، مهما سميناها– ستطلق عشرات الآلاف من الصواريخ والقذائف باتجاه (منازل إسرائيلية) وآلاف الصواريخ والقذائف كل يوم، على (المدن الإسرائيلية)، على طول وعرض البلاد”، محذِّرًا (المواطنين الإسرائيليين) داعيًا إياهم للاستعداد للحرب القادمة.
هذه الصواريخ التي يتوقعها العدو في أي مواجهة مستقبلية، والتي تقدرها مصادره بأنها لا تَقل عن 150 ألف صاروخ من عيارات وقياسات متعددة، -تصل إلى أي نقطة كانت في “إسرائيل”- من الأجيال القديمة إلى جانب الحديثة منها والتي أدخلت عليها التعديلات والتطويرات اللازمة من منظومات الملاحة والتّوجيه (التي يطلق عليها الآن ما يسمى بالصواريخ الذكية والتي شغلت بال العالم بأسره حول وجودها لدى المقاومة في لبنان ) بحيث أصبحت نقطوية الأهداف وفي مساحات ضيقة جدًّا وليست جبهوية كما عُرفت في السابق، وباتت أكثر تطوّرًا في القدرة على التوجيه وإعادة التوجيه نحو المسارات التي يتبعها الصاروخ عند إطلاقه وصولًا إلى الدقة في إصابة أهدافها، دون أن ننسى آثارها ونتائجها التدميرية للأماكن المستهدفة والتي تقدِّر أيضًا مصادره ( أي مصادر العدو ) أنه سيستهدف منها المدن والقرى المحتلة والمستوطنات ما لا يقل عن 2500 صاروخ يوميًا وربما أكثر. ومن المفيد هنا الإشارة إلى أنَّ نوعية الصواريخ الموجودة لدى المقاومة في لبنان هي أصلية ومن بلد المنشأ (نسخة أوريجينال وليست مقلَّدة) من حيث القدرة والمدى والحمولة خلافًا لما يستخدمه المقاومون في غزة والذين رغم الحصار أبدعوا في تصنيعها وتطويرها وفرض المعادلات الرادعة على العدو.
أمام تصاعد التهديدات اليومية المتكررة تجاه لبنان ومقاومته من قبل جنرالات جيش العدو والذين بمعظمهم شارك وذاق طعم الهزيمة المرة في مواجهات وحروب سابقة مع المقاومة، يعلمون علم اليقين أن صراخهم وتهديداتهم الجوفاء لا تصريف لها في وعي المقاومين وثباتهم ولا قيمة لها في تحقيق الإنجازات والانتصارات، وأنَّ هذه القدرة الصاروخية والنارية المتعاظمة لدى المقاومة في لبنان ستبقى تشكّل القلق الأول والإستراتيجيى لقادة هذا الكيان المؤقت لما عرفوه حقيقة وخبروه ميدانيًّا حول هذه القدرات والإمكانيات وتطورها، وما خفي عنهم أعظم، وما تجربة عدوان تموز من العام 2006 ببعيدة عنهم حين توالت المفاجآت الواحدة تلو الأخرى في تلك الحرب مما أذهل العدو وأحبط كل خططه ومشاريعه للعدوان في حينه وفي المستقبل، ومرسِّخةً توازنًا في الردع وكيًّا في الوعي الصهيوني حول أوهام هزيمة المقاومين وكسر إرادتهم في القتال ومؤكِّدةً على سقوط الجبهة الداخلية وأمن مستوطنيها، وما في جعبتهم من مفاجآتٍ قادمة لا يعلمها إلا الله والراسخون في المقاومة، وربما في ارتكاب أي حماقة مقبلة من العدو قد نشهد بداية العد العكسي لسقوط كيانه نهائيًّا وزواله من الوجود.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.