افريقيا في واجهة الصراع الجيواستراتيجي الاميركي الروسي

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أصبح واضحًا في الكثير من المؤشرات أن القارة الإفريقية أصبحت رقعة أساسية لصراع دولي بين لاعبين متعددين. فالولايات المتحدة الأميركية تهتم منذ فترة بالنواحي الأمنية والعسكرية في العديد من المناطق الإفريقية، وتلعب الصين أدوارًا اقتصادية واستثمارية مهمة في القارة، وتكاد فرنسا تكون اللاعب المتفرد بالعديد من المناطق الإفريقية، خصوصًا تلك التي كانت تحت نفوذها الاستعماري. وقد ظهر اللاعب الروسي مؤخرًا في بعض الدول، فضلًا عن تركيا وإسرائيل وإيران وغيرها.

تضم إفريقيا أكبر تجمع للدول النامية في العالم، ذات الأسواق المتعطشة للاستثمارات، والنمو السكاني الأسرع عالميًّا، والثروات الهائلة، والحكومات المفتقرة لأدوات فرض الأمن والاستقرار وتحديث البنى التحتية وتوفير الخدمات الأساسية. يضاف إلى ذلك الموقع الجغرافي لإفريقيا والذي جعل منها قارة ذات أهمية استراتيجية خاصة؛ حيث تحتوي على مضايق مهمة ورئيسة في طرق الملاحة الدولية، وهي ثاني أكبر القارات مساحة وامتدادًا جغرافيًّا. لذلك تسعى القوى الكبرى لتوفير أمنها الطاقوي عبر إفريقيا التي أصبحت تمثل أهمية جيوبوليتيكية واستراتيجية واقتصادية الأمر الذي أدى الى احتدام التنافس خصوصًا بين الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والصين.

مع صدام حامي الوطيس في أوروبا، تتجاذب الولايات المتحدة وروسيا طرفي الخيط في أفريقيا، لترسما ملامح حرب باردة جديدة في القارة السمراء.

لقد عكست جولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للقارة بعد فترة طويلة وجود جملة من الأهداف التي تسعى موسكو لتحقيقها، والتي يمكن عرضها على نحو يؤكد النفوذ الإقليمي الروسي حيث عمد لافروف إلى عقد لقاء مع مندوبي الجامعة العربية بالقاهرة، أشاد خلاله بالمواقف العربية المعتدلة إزاء الأزمة الأوكرانية الراهنة، وأكد نية بلاده توسيع التعاون مع الدول العربية، والعمل على زيادة حجم التبادل التجاري بين روسيا وهذه الدول، والذي يبلغ حاليًا حوالي 20 مليار دولار، مع مناقشة التحضيرات لعقد الدورة السادسة لمنتدى التعاون الروسي – العربي.

ومن ناحية أخرى، عقد لافروف اجتماعًا مع ممثلي الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا، وذلك بهدف تعميق العلاقات بين موسكو والدول الأفريقية. وعمد خلال اجتماعه مع عدد من الدبلوماسيين الأفارقة في السفارة الروسية بأديس أبابا إلى محاولة تقديم روسيا باعتبارها حليفًا أكثر موثوقية بالنسبة لدول القارة مقارنة بالقوى الأوروبية، كما بحث لافروف مع الدبلوماسيين الأفارقة جدول أعمال القمة الروسية –الأفريقية الثانية التي يفترض أن تستضيفها موسكو العام المقبل.

ومن أبرز الرسائل التي عمد وزير الخارجية الروسي إلى بثها خلال جولته، سواء في المقال الذي نشره لافروف في العديد من الصحف الأفريقية أو خلال لقاءاته أثناء الجولة، هو ما يتعلق بالوضع الجيوسياسي الراهن في النظام الدولي، وضرورة تغييره، حيث كرر الوزير الروسي انتقاداته للمساعي الغربية المكثفة للمحافظة على استمرارية النظام الدولي الأحادي القطبية، ومنع تشكيل نظام جديد قائم على التعددية القطبية.

لقد كان واضحًا أن الترحيب الذي حظي به لافروف في جولته الأفريقية الأخيرة قد عكس قوة تأثير موسكو في القارة، وهو ما وضحَ سابقًا حينما امتنعت 17 دولة أفريقية عن التصويت على إدانة روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى جانب تغيب ثماني دول أخرى، وتصويت دولة واحدة ضد القرار.

وكان من بين اهداف الزيارة ان الوزير الروسي عمل في خلال جولته على دحض الادعاءات الغربية أن بلاده مسؤولة عن أزمة الغذاء الحالية وارتفاع أسعاره، إذ ألقى باللوم على العقوبات الغربية والحصار المفروض على روسيا، وهو الأمر الذي بدأ يجد صدى لدى بعض الدول الأفريقية. وتجدر الإشارة إلى أن حوالي 40% من واردات القمح إلى أفريقيا تأتي من روسيا وأوكرانيا، ومن ثم تأثرت هذه الإمدادات كثيرًا بسبب الحرب الأوكرانية الحالية.

وتتبع روسيا استراتيجية واضحة في أفريقيا، تسعى من خلالها لتقديم نفسها كبديل أكثر موثوقية عن الغرب، وتستغل في ذلك حالة السخط لدى بعض الدول الأفريقية من الوجود الغربي، مقابل تعاطف هذه الدول مع الموقف الروسي. وفي هذا الإطار عمل لافروف خلال جولته الأفريقية على محاولة تخفيف حصة الدولار في التجارة البينية مع الدول الأفريقية، والعمل على استبدال العملات المحلية به.

ولا بد من الاشارة الى زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إلى جنوب أفريقيا، وجمهورية الكونغو الديموقراطية ثم رواندا، في جولة تهدف الى التصدي للنفوذ الدبلوماسي الروسي في القارة.

لقد كشفت الولايات المتحدة الاثنين (8 أغسطس/آب 2022) عن إعادة صياغة شاملة لسياستها في إفريقيا جنوب الصحراء حيث تعتزم مواجهة الوجود الروسي والصيني وتطوير أساليب غير عسكرية ضد الإرهاب.
تتزامن هذه الاستراتيجية الجديدة التي تأخذ في الاعتبار الأهمية السكانية المتزايدة لإفريقيا وثقلها في الأمم المتحدة بالإضافة إلى مواردها الطبيعية الهائلة وفرصها، ويأتي هذا التحول أيضًا في وقت يؤكد البعض على أن تركيز الولايات المتحدة على محاربة الجماعات المتطرفة في إفريقيا عسكريًا لم يحصد نتائج كبيرة.

من جهتها، اشارت المحللة الروسية ماريانا بيلينكايا، في مقال في صحيفة “كوميرسانت” الروسية تحت عنوان “رالي إفريقي”، الى أسباب سفر أنتوني بلينكن العاجل إلى القارة السمراء في أعقاب زيارة الوزير الروسي لافروف، حيث قالت: أنهى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن جولة في الدول الإفريقية، وضعتها وسائل الإعلام الغربية في سياق الصراع مع روسيا على النفوذ في هذه القارة. في غضون أربعة أيام زار بلينكن جنوب إفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. لم يكرر المسار الذي سلكه وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف في نهاية شهر يوليو، فقد زار دولًا أخرى.

وفي الصدد، قال الباحث في الشؤون الإفريقية أليكسي تسيلونوف، لـ”كوميرسانت”: “من دون شك، هناك عنصر تنافسي في رحلة بلينكن، بلغ مستوى جديدًا بعد اعتماد القانون المناهض لروسيا في مجلس النواب الأميركي. إن جنوب إفريقيا والولايات المتحدة متقاربتان أيديولوجيًّا وسياسيا ولا سيما اقتصاديًّا، ولكن هناك حاجة إلى “إصلاح” سمعة الولايات المتحدة في إفريقيا بعد الضرر الذي لحق بها بسبب التقاعس عن الفعل وتصريحات الرئيس السابق دونالد ترامب”.

وأضاف مدير مركز دراسة إفريقيا بالمدرسة العليا للاقتصاد، أندريه ماسلوف، لـ “كوميرسانت”: “يتمثل التحدي الذي يواجه بلينكن في إبقاء إفريقيا تحت النفوذ السياسي الأميركي، على الرغم من التناقص المستمر في عدد وحجم الأدوات الاقتصادية والحوافز الحقيقية التي يمكن أن تقدمها الولايات المتحدة للقارة. ووفقًا لمعلوماتنا، تمارس الولايات المتحدة ضغطًا قويًا لا يقتصر على البلدان، بل يشمل القادة المسؤولين وصناع القرار، لإجبارهم على رفض العمل مع روسيا”.

ووفقًا لماسلوف، خلافَ الولايات المتحدة، تعرض روسيا على إفريقيا “شراكة ندية”. “نبيع السلع والخدمات مقابل المال ونكتفي بذلك، بينما تفرض الولايات المتحدة والغرب بشكل عام شروطًا إضافية على إفريقيا. في السياسة الخارجية، يطلبون منها أن لا تصادق روسيا والصين، وفي السياسة الداخلية، أن تطور “مؤسسات ديمقراطية” وكل ما يتعلق بذلك في المجال الاقتصادي، مثل القيام بخصخصة وإلغاء الضوابط التنظيمية، الأمر الذي يعني بالنسبة للاقتصادات الإفريقية الاندماج في سلاسل الإنتاج العالمية بشروط أبعد ما تكون عن مصلحتهم”.

رقعة الشطرنج
الخارجية الأميركية قالت نهاية يوليو/تموز الماضي إن بلينكن سيحاول أن يثبت “للدول الأفريقية أن لديها دورًا جيوسياسيًّا أساسيًّا وأنها تمثل حلفاء جددًا مهمين في المسائل الأكثر إلحاحًا، في عصرنا، وكذلك في تطوير نظام دولي منفتح ومستقر للحد من مفاعيل التغير المناخي وانعدام الأمن الغذائي”.
وتأتي زيارة بلينكن في أعقاب إعلان الإدارة الأميركية عن قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا التي ستعقد في العاصمة واشنطن، خلال ديسمبر/كانون أول 2022.

وقبل الحرب في أوكرانيا، كانت الدبلوماسية الأميركية في أفريقيا تتركّز على المنافسة مع الصين، التي وظفت استثمارات مهمة في البنى التحتية بالقارة الأفريقية، من دون أن ترفق استثماراتها بمطالب على صعيد الديمقراطية وحقوق الإنسان كما تفعل الولايات المتحدة.

لكن التحركات الجيوسياسية الروسية في القارة الأفريقية في الفترة الأخيرة، وخاصة جولة لافروف، دفعت باتجاه تحول في السياسة الأميركية إلى مواجهة النفوذ الروسي، وفق مراقبين.

اهداف للسنوات المقبلة
وتؤكد وثيقة تحمل عنوان “استراتيجية الولايات المتحدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء”، على 4 أهداف تمتد لخمس سنوات، تشمل “دعم المجتمعات المفتوحة وتقديم مكاسب ديموقراطية وأمنية لها، والعمل على الانتعاش بعد الجائحة، وإتاحة الفرص الاقتصادية ودعم الحفاظ على المناخ والتكيف معه، والتحول المنصف للطاقة”.

وهاجمت الوثيقة الأميركية روسيا بشكل مباشر، وقالت إن موسكو “ترى أن المنطقة تمثل بيئة مستباحة للشركات شبه الحكومية والعسكرية الخاصة، وغالبًا ما تخلق حالة من عدم الاستقرار لكسب مزايا استراتيجية ومالية”، وفق وكالة “فرانس برس”.

سياق التنافس
ويأتي التنافس الأميركي الروسي على أفريقيا، في وقت تشكل فيه الضغوط الاقتصادية والصحية والجيوسياسية الحالية، لحظة فريدة من المرجح أن تعيد ترتيب الأولويات وتدفع باتجاه المزيد من الإجراءات الصعبة.

ولا تزال البلدان الأفريقية تعاني من صدمات اقتصادية شديدة بعد محاولتها التعافي من اضطرابات كورونا، وإدارة الأزمات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، مع توقف الصادرات الزراعية والغذائية من كلا البلدين. وتهدد الحرب في أوكرانيا سلاسل الإمدادات الغذائية الهشة بالفعل في أفريقيا.

رغم الانطباع السائد بأن عودة روسيا لأفريقيا مرتبطة بسياق الصدام الحالي مع الغرب، إلا أن موسكو دشنت سياستها الجديدة في القارة السمراء تدريجيًّا منذ عام 2019.

وفي هذا العام، تزايد التعاون الأفريقي الروسي بشكل ملحوظ، ما أدى إلى انعقاد قمة روسية أفريقية في أكتوبر/تشرين الأول 2019، كانت إشارة عودة موسكو إلى دورها بأفريقيا، بعدما تراجع دورها بانهيار الاتحاد السوفياتي بداية من عام 199١.

وظهر نفوذ موسكو المتزايد في أفريقيا في مارس/آذار الماضي، أثناء تصويت الأمم المتحدة لإدانة الهجوم الروسي في أوكرانيا. وبينما صوتت 28 دولة أفريقية لصالح القرار، صوتت نسبة كبيرة من دول القارة (25) إما بالامتناع عن التصويت أو عدم التصويت على الإطلاق.

لكن هذه العودة السياسية الروسية، جاءت بعد عودة اقتصادية وعسكرية متدرجة إلى أفريقيا؛ فخلال العقدين الماضيين، استطاعت روسيا لعب دور في أفريقيا، وقامت بإبرام اتفاقيات في مجال الطاقة النووية وتصدير الأسلحة، لتصبح أكبر مصدّر للأسلحة إلى هذه القارة. وأشار إلى ذلك التقرير السنوي الصادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام عام 2020؛ إذ ذكر أن الصادرات العسكرية الروسية لأفريقيا مثلت 18٪ من إجمالي صادرات روسيا من الأسلحة في الفترة ما بين عامي 2016 و2020.

ولم تقتصر مساعي روسيا في تعزيز تواجدها في أفريقيا على الجانب العسكري، بل سعت إلى بيع التكنولوجيا النووية لعدد من البلدان الأفريقية مثل زامبيا ورواندا وإثيوبيا ومصر ونيجيريا حيث تبني موسكو محطات للطاقة النووية.

عودة موسكو لأفريقيا، والتي باتت واقعًا جليًّا، ينظر إليها في أوساط الكونغرس الأميركي على أنها تهدد المصالح الجيوسياسية والاقتصادية الأميركية بشكل كبير، وفق تقرير سابق لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية.

ووفق الصحيفة، فإن المشرعين الأميركيين قلقون بشدة من استخدام موسكو لمجموعة “فاغنر” العسكرية لإبراز مكانة روسيا في القارة الأفريقية، وسلطوا الضوء على أنشطة المجموعة في مالي، وزعموا أنها أعطت روسيا موطئ قدم في غرب أفريقيا. كما أعرب المشرعون عن قلقهم من أن نفوذ روسيا المتسع في جميع أنحاء القارة الأفريقية يمكن أن يطرد الولايات المتحدة من قطاع التعدين الغني في أفريقيا، مع التركيز بشكل خاص على المعادن النادرة مثل الكوبالت، وهو عنصر حاسم في بطاريات أيون الليثيوم القابلة لإعادة الشحن، والمستخدمة في الهواتف المحمولة والكهرباء، والمركبات والعديد من المنتجات الأخرى.

ووفق ما خلصت إليه الباحثة ميشيل غافين، لن يكون هناك نظام دولي مرن قائم على قواعد واضحة في المستقبل، لا يشمل دورًا قياديًّا لأفريقيا ويراعي المصالح الأفريقية. وتابعت في تعليق على موقع مجلس العلاقات الخارجية “بحثي”: “يمكن للمرء أن يعترف بأن القوى الكبرى تسعى جميعها إلى التأثير في أفريقيا دون تأطير القارة كمكان للمنافسة بالوكالة”. لكنها أشارت إلى نقطة ضعف واضحة في الاستراتيجية الأميركية بالقارة الأفريقية، قائلة إن “من الخطر تخيل أن الزيارات رفيعة المستوى وحزم المساعدات الطارئة، بحد ذاتها، تكفي للتغلب على الإهمال المستمر منذ فترة طويلة”. ووفق مراقبين، فإن الاحترام والتقدير الذي تحظى به موسكو في القارة منذ فترة الاتحاد السوفيتي، تضع الروس في موقع متقدم خطوة على الأميركيين في أفريقيا.

في ظل التنافس بين موسكو وواشنطن، فإن المستقبل يمكن أن يحمل تجليات حرب باردة جديدة بين القوتين في أفريقيا، يحسمها الأكثر اهتمامًا وقربًا وحسمًا في قضايا القارة على الصعد كافة.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد