لا يمكن إنكار حجم المتغيرات التي لحقت بالعلاقات السعودية الأميركية خلال العقد الأخير، عقب أحداث ما عُرف بـ “الربيع العربي”. وينطلق البعض من تلكؤ إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، في مساندة بعض الحلفاء الإقليميين للرياض في تلك الفترة، أو في تنحية خصومها، مرورًا بـ “دبلوماسية بيع المواقف” للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تجاه حلفائه السعوديين، وصولًا إلى تعهدات الرئيس الحالي جو بايدن بـ “تدفيع السعودية الثمن” لشرح أبعاد تلك المتغيرات ومدياتها.
ماذا يريد بايدن من السعودية؟
الثابت أن زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن المتوقعة إلى السعودية، لها أبعادها المتصلة بأزمة ارتفاع أسعار النفط العالمية، في ظل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إلى جانب أبعادها الإقليمية المتشعبة بدءًا من تطورات الملف النووي الإيراني، إلى حرب اليمن، والأوضاع في فلسطين المحتلة ربطًا بمسار التطبيع مع “إسرائيل” بعد اتفاقات “أبراهام”. إلا أن بعدًا دوليًا يحضر وبقوة على أجندة الرئيس الضيف، يتعلق بهواجس أميركية من تطور مستويات التعاون بين الرياض وبكين. فماذا يريد بايدن في هذا الخصوص؟ وهل يعود أدراجه خالي الوفاض؟
للإجابة عن هذا السؤال، تشير الباحثة في مركز “بيركلي للعلاقات الدولية”، داليا كايي، إلى أن “مقتضيات التنافس بين القوى العظمى حاضرة لتبرير الحج إلى الرياض”، في ظل الصراع الدائر بين الولايات المتحدة والصين على الساحة العالمية، لافتة إلى وجود حاجة ملحة لدى إدارة الرئيس جو بايدن لإبقاء السعوديين في صف الولايات المتحدة، وخارج فلك الصين.
وتستبعد المحللة المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط أن تسفر الزيارات رفيعة المستوى من جانب المسؤولين الأميركيين إلى دول الشرق الأوسط، أو صفقات الأسلحة الأميركية بمليارات الدولارات المبرمة معها، عن إبعاد الأخيرة عن الصين، مبررة الأمر بمستوى العلاقات النوعية التي طورتها الدولة الشيوعية خلال الأعوام الماضية، على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية.
وتضيف كايي أن “الصين تواصل توسيع استثماراتها الاقتصادية والتجارية مع دول المنطقة لأنها تنظر إليها كمكون رئيسي في مبادرة الحزام والطريق الخاصة بها”، ملمحة إلى وجود أبعاد عسكرية جدية على أجندة التعاون الصيني- السعودي.
ماذا في رسالة الكونغرس بشأن العلاقات الصينية- السعودية؟
قبيل توجهه إلى العاصمة الرياض، رفع عدد من أعضاء مجلس النواب الأميركي رسالة إلى الرئيس جو بايدن، وطالبوه فيها بتنفيذ تعهداته السابقة بخصوص “إعادة ضبط” العلاقات الأميركية -السعودية. وفي الرسالة، التي حملت توقيع عدد من المشرعين الديمقراطيين في مجلس النواب، أبرزهم النائب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا، الذي يشغل مقعد رئيس لجنة الاستخبارات في المجلس، آدم شيف، أثار المشرعون جملة قضايا، من بينها ملف أزمة أسعار النفط، وحرب اليمن، وجريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي.
وجاء لافتًا في الرسالة، دعوة الرئيس بايدن إلى بحث ملف الطموحات النووية للرياض، وتعاونها العسكري مع الصين، مع المسؤولين السعوديين. ودعا موقعو الرسالة الرئيس بايدن إلى تحذير المسؤولين السعوديين من أن “الشراكة مع الصين بصورة تقوّض مصالح الأمن القومي الأميركي سوف ينجم عنها تبعات سلبية طويلة الأمد على مستوى العلاقات الأميركية -السعودية.
وفي هذا الإطار، شرح مصدر في الكونغرس لصحيفة “نيويورك تايمز”، فحوى الرسالة مشدّدًا على أنه “على السعودية ان تفهم أن توسيع شراكتها مع الصين، باعتبارها خصمًا استراتيجيًا صاعدًا للولايات المتحدة، لن يكون بلا ثمن”.
الحسابات السعودية في التعامل مع الصين: منافع اقتصادية أم بدائل استراتيجية؟
في الكواليس، لا يتردد مسؤولون سعوديون في الإقرار بأن إحجام الإدارة الأميركية السابقة عن تقديم المؤازرة المنشودة من قبل الرياض، عقب الهجوم على منشآتها النفطية أواخر العام 2019 دفع قيادة المملكة إلى حسم خيارها بالتفكير في الإقلاع عمّا تعتبره “تبعية مفرطة” للولايات المتحدة كحليف استراتيجي أوحد. وهنا يكمن أحد مبررات توجه المملكة إلى ترسيخ تعاونها مع الصين، التي باتت “الصديق الجديد للسعودية”، وفق مجلة “ناشونال انترست” الأميركية.
ضمن هذا الإطار، يلفت الباحث السياسي السعودي، ومؤلف كتاب “المملكة السعودية وتحديات القرن الواحد والعشرين”، فهد ناظر، إلى وجود “إجماع واسع في الرياض على ضرورة إبقاء كافة الخيارات مفتوحة، وتعزيز علاقات المملكة مع أكبر عدد ممكن من القوى الإقليمية والدولية، من ضمنها بكين، رغم أن الصين لا تملك السجل الحافل للولايات المتحدة، في التدخل العسكري على مسرح الشرق الأوسط”. ويشير ناظر، الذي عمل محللًا سياسيًّا لحساب السفارة السعودية بواشنطن، إلى المسار التصاعدي البطيء في تطور العلاقات السعودية الصينية، بخاصة في مراحلها الأولى، مشددًا على أن النخب السياسية والاقتصادية في المملكة ترى أنه لا يجب الاكتفاء بالواقع الراهن لتلك العلاقات، بل يجب توسيعها على كافة الأصعدة تحسبًا لما قد ينجم عن تطورات الملف النووي الإيراني.
ومع عودة الحديث القديم الجديد بشأن انكفاء واشنطن عن ملفات الشرق الأوسط، بهدف التفرّغ لمواجهة مع الصين، تكتسب العلاقات السعودية الصينية زخمًا أكبر. في هذا المجال، ينظر محللون غربيون إلى أن تجاهل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الالتزامات الأمنية التقليدية لواشنطن تجاه حلفائها، والمعطوف على قرار سلفه بتوجيه الجهد الاستراتيجي الأميركي نحو “الباسيفيك”، أفضى إلى تفاقم القلق الخليجي بشأن الدور المستقبلي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وبرأي هؤلاء، فقد واصل الرئيس الحالي جو بايدن تركيزه على المواجهة مع الصين، لا سيما عقب قراره الانسحاب من أفغانستان، لتكون النتيجة توصل الحلفاء التقليديين للأميركيين إلى قناعة مفادها أن “الولايات المتحدة لم تعد شريكًا موثوقًا في ضمان أمن المنطقة”، وهي قناعة كانت المحرك الأساس لتشتت الخطوات الخليجية خلال السنوات الأخيرة في البحث عن “ضامن بديل لأمنها”، فكان أن توجهت قطر إلى تعزيز علاقاتها مع تركيا وإيران، فيما استثمرت الإمارات العربية المتحدة في علاقاتها مع فرنسا، فضلًا عن اتفاق البحرين مع بريطانيا لإقامة قاعدة بحرية على أراضيها. أما السعودية، وبالنظر إلى موقف كل من بكين وموسكو من أحداث “الربيع العربي”، لا سيما وقوفهما الثابت مع حليفهما الرئيس بشار الأسد في سوريا، خلافًا لواشنطن التي تخلت عن حلفائها، فقد باتت ترى فيهما “قوة داعمة للاستقرار” في المنطقة، في وقت بدت فيه الولايات المتحدة أقرب إلى دور “المزعزع للاستقرار” فيها.
من هذا المنطلق، ترى مجلة “فورين أفيرز”، أن توجهات السياسة الخارجية الأميركية المشار إليها، لم تسفر عن “اندفاعة سعودية متهورة” باتجاه بكين، أو موسكو، إلا أن حلفاء واشنطن الخليجيين باتوا مع مرور الوقت أكثر راحة حيال اتباع “خطة التحوّط الاستراتيجي”، بما تعنيه من علاقات أكثر دفئًا مع دولتين، مصنفتين ضمن خانة “الخصوم الاستراتيجيين” لأميركا.
وفي المحصلة، وفق المجلة الأميركية، فإن الخيارات الخليجية الجديدة تعكس حجم التغيرات في المنطقة بفعل تذبذب سياسات واشنطن، وتحديدًا منذ عهد الرئيس باراك أوباما. وتضيف المجلة أن “الولايات المتحدة قد أسهمت في تخفيض سقف توقعات حلفائها من حليفهم الأمني الأساسي، بحيث بات لزامًا عليها اليوم أن تتأقلم مع التداعيات المترتبة على ذلك”.
ووفق تقديرات غربية، فإن الرغبة السعودية في تنويع شراكاتها الاستراتيجية، المترافقة مع تصاعد الضغوط على بيت الحكم السعودي، بـ “جناحه السلماني”، على خلفية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، أوجدت حافزًا لدى ولي العهد محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي في المملكة، لرفع مستوى التعاون مع الصين، مراهنًا على ثقلها الاقتصادي، وتنامي حصتها من صادرات النفط السعودي، إلى جانب دورها العسكري المتنامي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
أبعد من النفط: صواريخ بالستية!
هذا، وتكشف مصادر دبلوماسية سعودية أن المزايا الحالية والمستقبلية للطلب الصيني المتزايد على النفط الخليجي، على أهميتها، تحجب جزءًا هامًا من الصورة، مشيرة إلى أن الأسباب الحقيقية الكامنة خلف الافتتان السعودي بالانفتاح على الصين، يتعلق بعدم اشتراطها “قيودًا” سياسية في تعاملها مع الدول الاخرى، على عكس الولايات المتحدة.
وتشرح تلك المصادر، أن دوافع السعودية لتنويع شراكاتها الاقتصادية، هي الدوافع عينها التي حدت بها إلى التفكير في توسعة مروحة “خياراتها الاستراتيجية”، التي تشمل تنويع وارداتها من الأسلحة، مشيرة إلى أن هذه المسألة تحظى بدعم قطاعات واسعة في الأروقة السياسية والأمنية في الرياض، التي تجد نفسها محاصرة بين تهديد “داعش” في الشمال، وهجمات “حركة أنصار الله” في الجنوب.
حقيقة الأمر، أن هذا النهج الاستراتيجي المستجد لدى القيادة السعودية، يجد له ما يعززه تاريخيًا. وتستذكر المصادر السعودية، لجوء المملكة إلى شراء عدد من الصواريخ البالستية متوسطة المدى من الصين في العام 1988، دون علم واشنطن، كنوع من الاستجابة لصعود قوة النظام العراقي السابق، والحديث الإيراني عن “تصدير الثورة الإسلامية”.
وبحسب تقرير استخباري أميركي حديث، فقد واصلت الرياض تعاونها العسكري مع بكين، حيث عمدت في العام 2007 إلى شراء صواريخ بالستية أكثر دقة وتطورًا من سابقاتها، في إطار ترسيخ شراكة استراتيجية أكثر عمقًا بين السعودية والصين.
وبرأي خبراء عسكريين، تعتبر الصواريخ ذات المدى القصير “DF-21″، المشمولة بصفقة العام 2007، تطورًا نوعيًا على صواريخ DF-3 التي حصلت السعودية عليها سرًا عام 1988.
وربطًا بمعطيات التقرير، يبدي مسؤولون أميركيون خشيتهم من تلك الشراكة، وما قد تسفر عنه في ظل توجه الرياض إلى تطوير صناعاتها العسكرية، وإنشاء بنية تحتية محلية لتصنيع الصواريخ البالستية، على غرار إيران. واستنادًا إلى مصادر استخبارية أميركية، فإن صفقة الصواريخ الصينية في العام 2007 لم يتم الإعلان عنها، ولقيت دعمًا سريًا من واشنطن؛ حيث اشترطت الأخيرة تأكد ضباط “CIA” من أن هذه الصواريخ ليست مصممة لتحميل رؤوس نووية.
القلق الأكبر، في أوساط المسؤولين الأميركيين، هو ما أعلنه ولي العهد السعودي من أن خيار التسلح النووي لبلاده، محسوم إذا ما نجحت طهران بتطوير أسلحة نووية، خصوصًا وأن الخطط السعودية المعلنة على الصعيد النووي، رُصدت لها ميزانية تقدّر بـ 80 مليار دولار، وتشمل بناء 16 مفاعلًا نوويًا، وهو ما قد يحمل مضامين حول عدم اكتفاء السعوديين بالجانب السلمي للطاقة النووية، وإمكانية توجههم إلى دول مثل باكستان أو الصين لتطوير صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية. وتنقل مصادر غربية عن مسؤولين سعوديين سابقين قولهم إن بلادهم ترغب في امتلاك المستوى نفسه من القدرات النووية التي سوف تتاح لطهران من قبل المجتمع الدولي، أي عدم قبول الرياض بما دون ما قد يعطى للإيرانيين على طاولة المحادثات النووية مع القوى الكبرى.
التقديرات الاستخبارية الأميركية تشير إلى أن السعودية توجهت إلى الصين بهدف الحصول على أنظمة صاروخية، لا تسمح الولايات المتحدة بتصديرها إلى دول أخرى. ووفق تلك التقديرات، فإن سيناريو امتلاك الرياض ترسانة من الصواريخ البالستية، ناهيك عن حصول الرياض على قدرات نووية، سوف ينعكس سلبًا على الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، وسوف يولّد واقعًا جيوبوليتيكيًا “هشًا”، و”خطرًا”.
ووفقًا لتلك التقديرات، “فقد تعزّز التعاون العسكري بين بكين، والرياض، خلال العامين الماضيين، بخاصة في مجال الصواريخ البالستية، بحيث يبدي السعوديون اهتمامهم بشراء صواريخ ذات مديات أبعد من تلك الموجودة بحوزتهم”. ويلفت التقييم الاستخباري إلى أن الهدف النهائي للسعوديين يتمثل في “اكتساب تكنولوجيا تصنيع الصواريخ، والتوصل إلى إنتاج مكوناتها في منشآت صناعية داخل البلاد، على أن يتبعها إجراء عمليات تجريبية” لإطلاق صواريخ منتجة محليًا. هذا، ولا تنظر دوائر المؤسسة الأمنية والاستخبارية الأميركية إلى التزامن بين تلك الخطط السعودية، وتصاعد المواجهة بين الولايات المتحدة، والصين، بعين الرضا.
للتعليق على الموضوع، يستعرض الخبير في قضايا التسلح والدفاع، جيفري لويس، صورًا تم التقاطها مؤخرًا عبر الأقمار الصناعية لمنشأة عسكرية داخل السعودية مصممة لإجراء عمليات إطلاق تجريبية للصواريخ، مشيرًا إلى أنها تعد “نسخة مصغّرة عن منشآت صينية مشابهة”. ويكشف الباحث في معهد ميدلبوري للأبحاث الدولية، أن “السعوديين باتوا يمتلكون القدرة على تصنيع محركات، وتجميع مكونات الصواريخ”، ملمحًا إلى أن البرنامج الصاروخي للرياض لا يزال في مراحله الأولى.
بدورها، تشرح الباحثة في الشؤون الإقليمية داليا كايي، أن “ملف الصواريخ (السعودية) يعد مسألة منفصلة عن الهواجس النووية السائدة” في الشرق الأوسط، مؤكدة وجود “هواجس متصلة بقيام السعودية ببناء قدرات ذاتية في مجال تصنيع الصواريخ”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.