نعلم أننا نخوض في ملف صعب ومليء بحواجز التحسس وفخاخ الخطأ في التقدير الاستراتيجي، ويحتوي على جسر دقيق بدقة شعرة فاصلة بين المزايدة والمسؤولية، ولكنه ملف يجب أن يخاض لأن الصمت فيه ولو كان أسلم، فقد ينطوي أيضًا على كتمان للشهادة أو تقصير في الواجب وفرار من المسؤولية.
هذا الملف هو ملف العدوان الإسرائيلي المتكرر على سوريا، والرد السوري المؤجل للزمان والمكان المناسبين، وهو الملف الذي يتحول دومًا لسجالات ونكايات سياسية ومزايدات، وهو مؤهل لذلك بسبب دقة الأوضاع وتعقيدات التحالفات ومستجدات الوضع الإقليمي غير المسبوقة من خيانات حادة وصريحة ومعلنة وغياب أي غطاء عربي لسوريا، بل التحول العربي لتشكيل غطاء للعدو.
وقبل الخوض في ما نريد قوله ينبغي ذكر ملاحظتين:
الأولى: أن ما نوجهه هنا، هو حديث من داخل المعسكر المقاوم والذي يكن لسوريا وشعبها الصامد وجيشها العربي الثابت على عقيدته وقيادتها كل الود والاحترام ويعلم أنها قيادة متفردة حافظت على الثوابت في عصر الانحطاط، واحتفظت بخيار المقاومة رغمًا عن ترغيب وترهيب هما الأعنف في التاريخ الحديث، من حيث لمعان المغريات ومن حيث شدة لهيب نيران العقاب.
والثانية: أن قصف مطار دمشق الدولي وخروجه عن الخدمة ولو بشكل مؤقت هو عمل غير مسبوق ولا ينبغي تمريره لعوامل تتعلق بدلالته المباشرة المتعلقة بالسيادة والشرعية، وعوامل تتعلق بتفاصيل القصف الذي استخدم ستة صواريخ فرط صوتية تشكل تحديًا مباشرًا لروسيا وكامل الدفاعات الجوية المتاحة للجيش العربي السوري.
والشاهد أن سوريا صمدت وقاومت، ورغم احتلال أجزاء من أرضها وخروجها عن السيادة، إلا أن الكيان السوري المقاوم يحتفظ بوجوده وتحالفاته ووزنه، كما تحتفظ القيادة السياسية بشرعيتها، والتي تأسست واستمرت على مبدأ حماية سوريا وخياراتها والقبول الشعبي بالبقاء في حالة الحرب والحصار للحفاظ على هذا الكيان المقاوم.
ومصدر التحسس هنا هو عوامل عامة ترفض النقد بشكل عام أثناء الأزمات، وعوامل خاصة بسوريا، ترفض توجيه أي نقد أو حتى مطالبات بعد حرب كونية لا تزال تشن على هذا البلد المحوري والذي يدفع ثمن الصمود.
لكن هناك أمور ينبغي مناقشتها من داخل المعسكر بعيدًا عن دعايات أعداء سوريا أو حتى انفعالات المحبين والتي يصفها الكثيرون بالمزايدات.
وأبرز هذه الأمور يمكن تلخيصها في ما يلي:
1- مبدأ الرد في المكان والزمان المناسبين وعدم السماح للعدو بفرض توقيت ومكان المعركة هو مبدأ صحيح، ولكن الغياب التام للرد مع تمادي العدو في الانتهاكات، يرسل رسائل خاطئة للعدو وللداخل أيضًا، وهنا يكون المطلوب تشكيل معادلة للردع لو لم يكن توقيت المعركة مناسبًا.
2- الوضع المعقد في الإقليم والتحالفات السورية المتشابكة مع ايران والمقاومة وروسيا، لا ينبغي أن تشكل عائقًا عن الرد، لأن الوصول بالأمور لحد توقف المطار وعزلة سوريا دوليًّا، يشير بالسلب لجدوى هذه التحالفات وهو إخلال بالتوازن يضر في المعادلات السياسية والعسكرية، وهو ما ينبغي مناقشته بشكل جماعي مع الحلفاء وتجهيز رد فوري.
3- مع غياب الرهانات على الغطاء العربي الذي لم يعلن موقفًا، والقانون الدولي الذي لا دور له في الصراعات، فإن لغة القوة والردع هي الخيار الوحيد والذي يجب أن تتوجه له الأنظار والجهود، وأن تكون الأولوية لغرف العمليات العسكرية وليس غرف المشاورات الدبلوماسية.
4- بعد كل عملية صهيونية يحدث جدل كبير داخل جمهور المقاومة، ومع كل عدوان دون رد يحدث اقتطاع من الثقة الجماهيرية واهتزاز في الثقة بالتحالفات وخاصة مع روسيا، وهي ظاهرة ينبغي عدم تجاهلها لأن الدعم الشعبي كان من أبرز المرتكزات في الصمود والمقاومة.
والخلاصة، هو أن هناك أشياء لا ينبغي تمريرها حتى لو اصطدمت بمبدأ المكان والزمان، ومنها ما يتعلق بالسيادة للدولة والشرعية لنظام الحكم، ومنها المرافق الحيوية كالموانئ والمطارات، فهي خطوط حمراء وعلى علاقة مباشرة بسيادة الدولة على إقليمها البحري والجوي، وبشرعية الحكم الحامية للشعب وموارده.
وبالتالي فإن إيقاف مطار دمشق الدولي عن العمل، هو أمر لا يمكن القبول بتمريره ولا بد له من رد وإرساء معادلة مفادها المطار مقابل المطار والميناء مقابل الميناء.
كما يجب البدء فورًا في توفير الأنظمة الدفاعية المقابلة للصواريخ التي تجرأ العدو على استخدامها تحديًا للتوازنات وخروجًا حتى عن مفهوم المعركة بين الحروب، حيث يشكل العدو هنا معادلة جديدة هي التركيع وليس الردع.
مهما كانت الانزلاقات فهي ليست أخطر من تركيع سوريا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.