خضر محمد – خاص الناشر |
كنّا على طاولة عمل واحدة جمعتنا في إحدى الورشات. سمعتُ موسيقى وأصوات أطفال تُنشد بلغة أجنبية من لغات غرب آسيا. لم يلفتني اللحن حينها، ولكن ما لفتني أن صديقي الذي كان يستمع إلى النشيد راح يبكي بحرقة بلا أي مقدمات. ظننت حينها أنّ النشيدة حزينة وأن كلماتها قد لامست موقفًا عاطفيًا خاصًا به. واصلتُ العمل بانتظار أقرب فرصة أسمع بها هذا النشيد بدافع الفضول لا أكثر. سألته لاحقًا عن الاسم فأخبرني.
“نشيد “سلام فرمانده” مترجم إلى اللغة العربية”. كانت تلك العبارة التي كتبتها في محرك البحث “غوغل” منتظرًا أن يكون هناك نتيجة أو لا يكون أصلًا في حال لم تكن النشيدة مترجمة، ولكن ما وجدته كان أكثر من المتوقع ومن أصل البحث أصلًا! عشرات المقاطع المترجمة إلى اللغة العربية عدا باقي اللغات، وصورة الغلاف في معظم النتائج أمٌّ ترتدي العباءة المعروفة باسم (شادور) مع بناتها الصغيرات باللباس نفسه المنتشر بشكل واسع في إيران. هي نشيدة باللغة الفارسية إذًا والموضوع لا بدّ مرتبطٌ بملحمة كربلاء وهو ما جعل ذلك الصديق يبكي.
ثوانٍ قليلة وتبدّد كلمات الأغنية ذلك التوقع المسبق، ويرسم سياق الموسيقى والكلمات ومكان التصوير في باحة مسجد جمكران مسارًا آخر للنشيد، “يا عشق روحي، يا إمام زماني”، فالمخاطب هنا هو المهديّ الغائب الذي ينتظره المسلمون ليأتي في آخر الزمان يملأ الأرض عدلًا كما تذكر الروايات، ينشدها له في الفيديو كليب الأساسي مئات الأطفال الذكور والإناث المصطفين بانتظام وبمشهد جميل بصريًا، بجوار المنشد الأساسي الذي لم أنتبه لاسمه أصلًا، حيث كان تركيزي منصبًا على قراءة الكلمات وفهمها بصفتها المرة الأولى التي أستمع فيها إلى النشيد.
مقاطع كثيرة لنفس النشيد ضمّت مئات وآلاف الأطفال تم تصويرها في أماكن مختلفة وأساليب مختلفة في إيران. هي بروباغندا يقوم بها قسم الإنتاج الإعلامي في الحرس الثوري الإيراني في غالب الظن، أو إنها بروباغندا مدفوعة الثمن تنفذها إحدى شركات الإنتاج وتمولها الحوزة الدينية في قم أو مكتب مرشد الثورة على أبعد تقدير. ذلك ما جال في خاطري وأنا أتابع تلك المقاطع، ولم يكن من الممكن أن أعتقد بغير ذلك، لأن عملًا بهذا الانتشار الواسع، مع حشد آلاف الاشخاص في أوقات محددة وأماكن مختلفة، وتصوير ونشر ذلك وتنسيقه لوجستيًا وإعلاميًا، ليس بالعمل الشعبي أبدًا ولا السهل أيضًا، وتثبّتَ ذلك الاعتقاد في خاطري بعد الحشد الضخم في ملعب العاصمة الإيرانية طهران لأداء نفس النشيد.
أيامٌ لاحقة، ومكالمة فيديو بيني وبين أحد العاملين الفاعلين في المجال الإعلامي في طهران، لأستغل الفرصة وأحاول أن أنتزع منه بعض أسرار العمل الإعلامي التي يمكن أن أستفيد منها ضمن البيئة التي أعمل فيها، وأسأله مستفزًّا: “أحسنتم، إنّه نجاحٌ كبير الذي تحققه “سلام فرمانده”، ولكن كم تكلّفكم عملية الترويج لها؟”. ينظر إليّ وكأنني قرأت نصف أفكارٍ تجول في رأسه، ويجيب بحماسة وانفعال: “البارحة كنّا في اجتماعٍ ضمّ العديد من المعنيين الأساسيين عن العمل الإعلامي والميديا، وكان جوهر الحديث هو محاولة فهم كيف تحول هذا النشيد إلى ظاهرة، وتحليل العوامل التي يمكن أن نستفيد منها في حال أردنا أن نقوم بعمل يحقق هكذا نجاح”، مضيفًا: “إنّنا ومنذ سنوات نعمل على نشيد يتماشى مع توجيهات الإمام القائد حول أناشيد الأطفال حيث أكد في أحد خطاباته أنّ نشيدًا بلغةٍ قريبة من التلاميذ والأطفال ومحبّب من القلوب، لا بدّ أن يصبح دافعًا هامًا ومحركًا للأمام. وعلى الرغم من نجاحنا في مقاربة ذلك من خلال أنشودة “عزيزم حسين” مثلًا، إلا أنّ ما حصل مع “سلام فرمانده” هو تفاعلٌ شعبي عفويّ استثنائي بامتياز”.
كمن رشقني بالماء على وجهي، استويت في قعدتي، ونظرت إليه باندهاش واستغراب، وبلغة عامية أعدت السؤال: “يعني مو أنتو اللي عم تعملو هالشي؟”، ليجيب مؤكدًا بالنفي، محدثًا إياي عن شاعرٍ مجهولٍ في مدينة صغيرة من مدن إيران، كتب هذه الكلمات بلغةٍ بسيطة وسلسة جدًا، وعن فرقةٍ إنشاديةٍ لم يسمع بها سابقًا أنشدت المقاطع الأولى التي راحت تنتشر، قبل أن يصعب العثور عليهم لاحقًا تحت ضغط آلاف المقاطع المصورة والتي لا تزال تُصوّر في مختلف مناطق إيران وزوايا طرقاتها وفناءات حدائقها، منهيًا الحديث بأن الناس في المدن هم الذين خلقوا هذا التفاعل والانتشار، وأن دور المؤسسات ووسائل الاعلام لم يتجاوز استثمار حالة شعبية صارخة ونقلها عبر الأثير بعد أن أصبحت حالة عامّة.
اختفت الإشكاليات السابقة كلها دفعةً واحدة، ولم يعد من الممكن مقاربة هذا الموضوع منطقيًا بعد الآن. أصبحت الصورة أكثر وضوحًا: “سلام فرمانده” والمسيرات المليونية على إثر الخطاب المشهور لمرشد الثورة عام 2009، وبكاء صديقي وابتسامة الأطفال وإشراقهم وهم ينشدون، هي ليست حربًا بين شركات العلاقات العامة للسيطرة على عقل الشعب الإيراني وتوجيه خياراته، إنما هي فرصةٌ وجدها أولئك الأفراد ليعبّروا عن موقفهم في اللحظات الحاسمة بأبسط الصور وأقربها للنفس البشرية، هي وصفةٌ تفاعلَ فيها الإيمان والإخلاص والأمل والرجاء، ليُنتج قلبَ شعبٍ حطّم بكلماتِ شاعرِ بسيطِ سنواتٍ طويلة من الرهان على القلوب. هي حربٌ خسرتها شركات المقاولات وحكومات الاستكبار، وربحها شعبٌ آمن بنفسه وتعلّق بالأمل على خطى رجلٍ من قم توفاه الموت قبل ثلاثة وثلاثين عامًا، كان سلاحه في أحلك اللحظات: “شعبنا سيُفشل كل المؤامرات”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.