“الرأي والرأي الآخر”. ظل هذا شعار قناة الجزيرة القطرية مُذ تأسست في 1 نوفمبر 1996 إلى يومنا هذا. لكن هذا الشعار المميز يحمل مصداقية تحريرية إذا التزم الحياد وتقديم وجهات النظر المتباينة في القضايا والآراء السياسية المختلفة.
لكن أمام القضايا العادلة والاحتلال لا مجال للرأي الصهيوني “الآخر”. وهنا يمكننا استذكار قول الشاعر والأديب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني في كتابه “الدراسات السياسية”، يقول: “هو أننا في حالة حرب مع هذا العدو، ومقاطعتنا له ليست نابعة من موقف وجداني، لكنها نابعة من طبيعة المواجهة التي نعيشها ضده، وهذه المقاطعة هي، في حد ذاتها وجهة نظر وموقف”.
جاء كلام كنفاني عقب لقاءات إعلامية “تطبيعية إعلامية” قدمتها قناة بي بي سي البريطانية بين طلاب فلسطينيين وآخرين صهاينة حول القضية الفلسطينية. ويضيف “رأى كثير من المشاهدين انتصارًا ساحقًا في المجادلة على الطالبين الإسرائيليين اللذين مثلا حالة من السطحية العاجزة، لكن الذين شاهدوا البرنامج لاحظوا أيضًا أن الإطار الذي قدمت فيه المجادلة كان إطارًا يحمل على تأييد “إسرائيل””.
إن التطبيع الإعلامي من أخطر أنواع التطبيع، وهذا ما انتهجته الجزيرة قبل عقدين من الزمن وفتحت هواءها للصهاينة عسكريين ومحللين وسياسيين، في مغالطة مفضوحة وتبرير سخيف لهذا التطبيع العلني الوقح مع المحتل الصهيوني.
صباح اليوم استشهدت مراسلة القناة الصحفية “شيرين أبو عاقلة 1971-2022″، على أيدي قوات العدو الصهيوني في مخيم جنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد 25 عامًا من العمل الإعلامي مع الجزيرة، كانت فيها صوت الحقيقة والمظلومية الفلسطينية بالصوت والصورة، معرية الطغيان والإجرام الإسرائيلي، وهي القائلة: “لن أنسى أبدًا حجم الدمار ولا الشعور بأن الموت كان أحيانًا على مسافة قريبة، لم نكن نرى بيوتنا، كنا نحمل الكاميرات ونتنقل عبر الحواجز العسكرية والطرق الوعرة، كنا نبيت في مستشفيات أو عند أناس لا نعرفهم، ورغم الخطر كنا نصر على مواصلة العمل”.
لكن المؤسف في استشهاد أبو عاقلة أن لا يتم تثمينه ضمن التضحيات واستبسال الفلسطينيين في سبيل القضية العربية العادلة، واستمرار استضافة ممثلي قتلتها وإتاحة وصولهم للمشاهدين عبر الشاشة ذاتها، التي أفنت الشهيدة عمرها فيها لأجل الانتصار لفلسطين وفضح جرائم وفظائع عدوان الاحتلال الصهيوني الغاصب.
وعلى الرغم من يقيني أن القناة القطرية لن تتخذ موقفًا مشرّفًا في مقاطعة الضيوف الصهاينة، إلا أننا سننتظر ماذا ستفعل، مع أن هناك اصواتًا داخل القناة نادت بذلك كالإعلامية خديجة بن قنة حيث كتبت على حسابها في تويتر: “مقاطعة الضيوف الإسرائيليين على الشاشة، ومحاكمة المجرمين مطلب أساسي”.
وإن كان الشيء الطبيعي هو ألا تكون قناة عربية كبيرة بحجم الجزيرة صوتًا يورد أو يروج للرواية الإسرائيلية تحت أي مسمى كان، ومساواة صاحب اعدل قضية ومظلومية في عصرنا الحاضر، مع عدو غازٍ ومحتل بغيض، جاءت به الصهيونية العالمية من أصقاع المعمورة لاحتلال أرض عربية وقتل سكانها الأصليين وتهجيرهم واستهدافهم وطمس تاريخهم الخالد منذ آلاف السنين.
لذلك، اليوم الجزيرة امام تحدٍّ كبير، إما ان تكفر عن خطيئتها الكبيرة وفتح صفحة جديدة تتخلص فيها من كارثية قرارها السابق في استضافة الصهاينة، أو مواصلة المشوار في فتح شاشتها للأعداء وانحدارها نحو مواصلة السقوط المهني والأخلاقي والإنساني.
يقينًا، إن الشهيدة شيرين أبو عاقلة ليست أول ضحية ولن تكون الأخيرة للعدو الإسرائيلي القاتل، لكن موقف المقاطعة سيكون ردًّا عمليًّا فاعلًا، وكما يقال أن تأتي متأخرًا خيرًا من ألّا تأتي، وإن لم يكن لأجل القضية والضحايا والمظلومية الكبيرة فلأجل زميلتكم التي افنت العمر مراسلة ميدانية تُكسب الجزيرة السبق الصحفي والتفرد بالخبر رغم المخاطر الجسام لتختم حياتها اليوم بمسيرة حافلة من العطاء والبذل لأجل الأرض والإنسان الفلسطيني وفي سبيل إيصال مظلوميتهما للعالم، وقد فعلت. فلترقد روحها بسلام.
وتبقى المسؤولية الأخلاقية والمهنية عليكم في شبكة الجزيرة الإعلامية في اتخاذ موقف يغسل عار الماضي، أو آخر يقضي على ما تبقى من شرفٍ للمهنية لديكم، وتبقى الكلمة الفصل للساعات والأيام القادمة التي ستكشف لنا قرار إدارة القناة المصيري.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.